الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

حبيبي: التجوال عزاء وعلاج ضد كل أنواع الضجر

حبيبي: التجوال عزاء وعلاج ضد كل أنواع الضجر عبد الإله حبيبي
التمسك بنفس الأمكنة مع تكرار نفس العادات والتفاعلات يقوي من سلطة النمطية، بل  وقد يعفي العقل من كل حافزية للتعرف على أشياء جديدة كتمرين على الفهم والاكتشاف والتصنيف وتحريك المعجم ومنح فرصة للوعي لأن يشتغل بحرارة على موضوعات غير مألوفة، ولعل هذا  النشاط الاستكشافي هو ما يبقي الإنسان متحفزا دوما للقاء أشياء جديدة وبذل مجهود عصبي ونفسي للتعرف عليها ودمجها في تمثلاته الإدراكية للعالم والناس..
يقول المثل الفرنسي:" الحجر المتدحرج لا تلفه الفطريات " pierre qui roule n’amasse pas de mousse »
التجوال  أو السفر غير القصدي، أي السفر غير المبرمج بزيارة مكان محدد لفترة محددة رفقة أناس معينين هو المحك المانح لهذه الملكة العقلية، أو بمعنى آخر هو الطريق المؤهل وجوديا لأن يقودنا نحو الانبهار بمعالم جديدة، واستشعار الدهشة  الفكرية حيال ملامح لم نتعود رؤيتها... في مغامرة الطريق قد نجد الرفيق غير المتخيل نهائيا..  لأن السفر الذي يقصد تحقيق المعرفة حتما سيجمعك بأشباهك، أي بالذين لهم نفس الطموح وتغمرهم نفس الرغبة..  التجوال هو ضامن التواجد مع الشبيه  في نفس المسارات، أي ذلك الشخص الذي يشترك معك في البحث عن لقاء ما  تجهله، ومطاردة الغامض، واستمزاج  الغريب وواستلطاف البعيد عن سذاجة العادة والتكرار..
لكن سرعان ما ستظهر الوحشة كنوع من التهيب النفسي البدائي لترافق التجوال أو التشويش عليه، تشتعل الوحشة  كجمرة الشعور بالوحدانية في خضم الأمكنة الجديدة ووسط الوجوه غير المعتادة، فما بالك حينما يتعلق الأمر بأوطان أخرى لها لغاتها، وثقافاتها المختلفة، حيث سيكون الوضع عسيرا على التمثل والاستيعاب والتكيف.. الوحشة مهابة  نفسية يفرضها حال الانفصال المفاجئ عن الأصول...عن الأوطان والديار ...
الوحشة هي شعرية الروح المبتهجة بالسفر في حدود معينة، لكنها قد تصبح عنصرا نفسيا مضادا لكل تغيير، مفسدة  لكل إقبال على عوالم مختلفة حينما تغمر وعينا وتشل عقلنا... مشاعر الاغتراب أو منطق الغربة لا مناص من استشعاره لأنه يتأتي من عمق الوجدان الإنساني، لكن المطلوب هو استثماره إيجابيا حتى يكون في خدمة العقل المكتشف والوعي الباحث عما يمنحه فرصة الاشتغال..
السفر القاصد للتجوال يحرك ملكة الخيال ويقوي المناعة ضد الخوف من التغيير، هو التمرين الضروري لتذوق الكونية في أبعادها المكانية أولا، ثم في أطوارها الإنسانية ثانيا.. لا يمكن أن نؤسس لوعي كوني طالما أدمنا الإقامة في نفس الأمكنة وبنفس المعايير ونفس زوايا النظر... 
لقد فرض الغرب نفسه على العالم وعمم معاييره حينما تجرأ على مغادرة حدوده، وركوب بواخره وتجييش جنوده، حيث راح يقتحم قلاع الشعوب المتحصنة ضد الغريب، والغارقة في التقليد والتكرار، وهكذا استطاع أن يقوي مناعته التاريخية وأن يتعلم دروسا كثيرة شكلت أهم معارفه في مجال علوم إناسية عديدة منها الأثنولوجيا، والإثنوغرافيا اللتان مهدتا الطريق لظهور الانتربولوجيا كممارسة علمية حاولت التخلص من بعض المسلمات الكولونيالية لما سمحت للشعوب الأصلية بان تحافظ على ملامحها النوعية كوعي وتمثل للعالم خارج دائرة التمركز الغربي...وهكذا ستنطلق هذه الشعوب في رحلة سفر مضادة أو ما سماه بعض المفكرين ب"الاستشراق المضاد " أو "السفر المضاد"..