الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: المنظومة التربوية ومفهوم الإصلاح

أحمد الحطاب: المنظومة التربوية ومفهوم الإصلاح أحمد الحطاب
المنظومة التربوية عبارة عن كلٍّ غير قابل للتجزئ بمعنى أنها تشكِّل وحدة وظيفية unité fonctionnelle تتداخل وتتفاعل مكوِّناتُها فيما بينها. القيام بإصلاح هذه المنظومة أخذاً بعين الاعتبار فقط مُكوِّنا واحدا أو عدة مكوِّنات بمعزل عن العديد من المكوِّنات الأخرى، هو بمثابة الخوض في عملٍ بإمكانِه أن يخَيِّبَ الظنَّ إن عاجلا أو آجلا. 
والدليل على ذلك، منظومتنا التَّربوية خضعت، منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا، لعدة إصلاحات. ولا أحد من هذه الإصلاحات استطاع أن يُجوِّدَ أو أن يُحسِّنَ مُخرجات (نتائج) هذه المنظومة. وهو الشيءُ الذي يمكن تفسيرُه بأن هذه الإصلاحات، إما كانت انتقائية، بمعنى أنها تصدَّت لبعض المشاكل على حساب مشاكل أخرى قد تكون أكثر أهمِّيةً من الأولى. وإما أنها لم تذهب إلى عمق كل مشكلة على حدة وأهملت التَّرابط القائم بين هذه المشكلات سواء داخل المنظومة التَّربوية أو ارتباطا بالوسط أو المجتمع الذي تعمل فيه هذه المنظومة. على سبيل المثال، الهدر المدرسي له أسبابٌ قد تجد تفسيرا لها داخل ما يجري في الأقسام، لكنها قد تجد، كذلك، تفسيرا لها في ما هو اجتماعي واقتصادي.
الإصلاح لا يمكن أن يقتصرَ على تدخلات متقطعة، عَرَضِية وسطحية. الإصلاحُ عبارةٌ عن تغييرٍ في العمق. والتَّغييرُ في العمق يتطلَّب من المُصلحين أن يذهبوا إلى كُنهِ مكوِّنات المنظومة التَّربوية لوضع الأصبع على مكامن الخلل والانكباب فيما بعد على إيجاد حلول لها. ولا داعيَ للقول أن أية منظومة تربوية تستمد وجودَها من أسُسٍ نظرية، وإن صحَّ القولُ، من أسّسٍ فكرية تتمثَّل في توضيح غايات finalités هذه المنظومة. 
فعندما يُراد إصلاحُ هذه الأخيرة، فإن الأمرَ يتعلَّق، بالأحرى، بانتقالٍ من أُسُسٍ نظرية متجاوزة كانت ترتكز عليها، في الماضي، المنظومة التَّربوية، إلى أُسُسٍ نظرية جديدة تتلاءم ومتطلًّبات الساعة.  وغايات المنظومة التَّربوية هي، في الحقيقة، بمثابة أسُسٍ نظرية تحدِّد ماهيةَ ما تقوم به هذه المنظومة من مهام. كما تحدِّد علاقة المنظومة التَّربوية بالمجتمع وبالاقتصاد بجميع تجلياتهما. وفضلا عن كل هذا، فإن غايات المنظومة التربوية هي التي تحدِّد نوعية المواطن الذي يتوفَّر على كفاءات تليق بتطوُّر وتقدُّم المجتمع.
وفي هذا الصدد، فإن أية منظومة تربوية تسعى، حتما، إلى تكوين مواطن صالح ينفع نفسَه وينفع مجتمعَه. مواطن قادرٌ ، من خلال ما سيكتسبُه من كفاءات (معارف connaissances، تقوية الاستعدادات renforcement des aptitudes، مواقف attitudes)،  تُساعده على الاندماج الناجع والناجح في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وفوق كل هذا وذاك، أن يكون مواطنا قادرا على أن "يتعلَّمَ كيف يتعلَّم".
ولا داعيَ للقول أن هناك كفاءات أخرى يجب أن تتوفَّرَ في مواطن المستقبل الذي تُنتِجه المنظومة التَّربوية، أذكر مثلا : القدرة على التَّواصل باللغة الأم وباللغات الأجنبية، المبادئ الأساسية في الرياضيات والعلوم والتِّكنولوجيات، الإلمام بكل ما هو رقمي numérique والذكاء الاصطناعي intelligence artificielle. غير أن أم الكفاءات هي التَّوفُّرُ على فكر نقدي esprit critique وعلى روح المبادرة والإبداع والابتكار esprit d'initiative, de créativité et  d'innovation والتَّكيُّف مع الأوضاع adaptation aux situations … 
وهو ما يُحتِّم على المُصلحين أن يُقاربوا الإصلاحَ بتبصُّر وبُعد نظرٍ وليس بشكل متسرِّعٍ يتمثَّل في التَّعاطي الآلي mécanique مع بعض مكوِّنات المنظومة التربوية وإهمال الأخرى. ولتجاوز هذه النظرة الآلية للأصلاح، يجب بكل بساطة مقاربةُ هذا الأخير بنظرة شمولية une vision globale وبَعْدَ تشخيصٍ متأنٍّ للوضع المُرادُ إصلاحُه دون إغفال التَّفاعلات والعلاقات القائمة بين مكوِّنات المنظومة التَّربوية، وبين هذه الأخيرة ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي.
من هذا المنطلق، يجب أن لا تُعتبرَ المنظومة التربوية ككِيانٍ مستقلٍ بذاته، وبالتالي، يمكن إصلاحُه من خلال فحصِه حصريا من الداخل. وللإشارة، فإن هذا النَّمط من الإصلاح هو الذي ساد في الماضي وأفصح، بعد مرور الوقت، عن عيوبِه وعن عدم نجاعته وذلك لأن الوضعَ الذي يُراد إصلاحُه، أي المنظومة التربوية، كانت غالبا ما تُعتبر كنظام مغلق وكتيم imperméable تنحصر مكوناته في الوسط المدرسي (بنيات تحتية، برامج  تعليمية، مدرسون، معرفة، طرق ومعينات تعليمية، مراجع، امتحانات، متعلمون، تقييم، الخ.).
إن أي إصلاح لا يمكن أن يكون مقبولا على المستوى المفاهيمي إلا إذا استجاب، أولا، للحاجيات الداخلية لمنظومة ما، وثانيا، للإطار الواسع الذي تتواجد فيه هذه المنظومة، إذ لا يجب أن يغيبَ عن الأذهان أن هذه الأخيرة إفرازٌ اجتماعي، بمعنى أنها أُنشِئَت من طرَف المجتمع، فيه ومن أجله. وعليه، فإن الإلحاحَ على إصلاح المنظومة التربوية من الداخل فقط، هو بكل بساطة دوران في حلقة مفرغة لا تلبت، من وقت إلى آخر، أن تَلفظَ عيوبَها ونواقصَها. 
وللإشارة، فإن كل نظام منعزل un système isolé، وهذا قانون فيزيائي (المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية deuxième principe de thermodynamique)، يسير نحو توازن يتمثل في الأنتروبيا القصوى entropie maximale، أي في أكبر مستوى من الفوضى désordre أو لاَنِظام حيث أن هذا النظام يصبح غير قادر حتى على الإبقاء على ترتيبه الداخلي.
هذا هو حال المنظومة التربوية المغربية التي، إذا أرادت أن تعود إلى حالة الأنتروبيا الدنيا entropie minimale، يجب أن تجدِّدَ ترتيبَها الداخلي علما أن هذا التجديد لن يكونَ فعالا إلا إذا خرجت المنظومة من عزلتها لترتبط بالترتيب الخارجي الذي يشملها والتي حتما تتفاعل معه. وبعبارة أخرى، للقيام بأي إصلاح، يجب أن توضَعَ المنظومة المذكورة في إطارها الحقيقي، أي أن تُعتبرَ كجزء من منظومة أكبر ومعقدة (المجتمع، النظام السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الخ.) حيث ستخرج هذه المنظومةُ من عُزلتِها وتتفاعل مع إطارها الكبير الذي هو المجتمع.
ومما لا شكَّ فيه أن نواةَ أية منظومة تربوية هي المدرسة أو، بالأحرى، القسم وما تدور فيه من أنشطة تعليمية تعلُّمية هدفُها الأساسي هو تحقيق ما تمَّ رسمُه من غاياتٍ وكفاءاتٍ. وداخل هذا القسم، يتشكَّل تدريجيا مستقبل المتعلّمين، من بداية التحاقهم بالمدرسة إلى أن يُغادرونها مُحمَّلين بشهاداتٍ تُثبث جدارتَهم الكفيلة باندماجهم في الحياة الاجتماعية والعملية. وهذه الجدارة هي، في الحقيقة، نتيجةٌ للتفاعل القائم بين مُتعلِّمٍ، يُرادُ تكوينُه معرفيا وتربويا، ومدرسٍ يلعب دورَ مُبلِّغٍ للمعرفة، ومنشِّطٍ للعملية التَّعلمية التَّعلُّمية، وفي نفس الوقت، مُربِّي يساهم في بناء شخصية ذلك المتعلِّم.
ولهذا، فجودة أداء المنظومة التَّربوية لمهامها من جودة ما يجري داخل الأقسام من تفاعلاتٍ تعليمية، تعلُّمية وتربوية بين المدرس والمتعلٍّمين. وما يجري داخل الأقسام من تفاعلات هادفة وبنَّاءة، رهين إلى أبعد حدٍّ، بتكوين المدرسين تكوينا رفيع المستوى ومتعدِّد الجوانب، إضافةً إلى الاهتمام بهم معنويا، اجتماعيا وماديا.
فكل إصلاح لا يركِّز اهتمامَه، أولا، على ما يجري داخل الأقسام من نشاط تعليمي، تعلُّمي وتربوي، وثانيا، على تكوين المدرسين تكوينا رفيع المستوى ومتعدِّد الجوانب، يكون قد أهمل رَّكيزتين من أنجع ركائز نجاح المنظومة التَّربوية في أداء مهامها على أحسن وجه.