الدكتور محمد الأسعد (يسارا) والدكتور موسى كرزازي (يمينا) تابعت جريدة "أنفاس بريس" حلقة برنامج "هنا الجامعة" بالإذاعة الوطنية يوم الخميس 26 أكتوبر 2023، والتي تناولت موضوع "جغرافية الأرياف بالمغرب"، إذ استضاف معد ومقدم البرنامج كل من الدكتور موسى كرزازي أستاذ باحث مهتم بعلم الجغرافيا بجامعة محمد الخامس بالرباط تخصص علم جغرافية الأرياف، وهو نائب رئيس الجمعية الوطنية لجغرافيي الأرياف المغاربة كما شارك في البرنامج الدكتور محمد الأسعد الباحث في علم الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وهو بالمناسبة رئيس الجمعية الوطنية لجغرافيي الأرياف المغاربة.
ماهية جغرافيا الأرياف؟
عن ماهية جغرافية الأرياف (العالم القروي بالمغرب) أوضح الأستاذ موسى كرزازي بأنها "جزء من الجغرافيا البشرية، على اعتبار أن الجغرافيا تنقسم إلى قسمين كبيرين ,هما الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية". وبخصوص جغرافية الأرياف فهي "جزء من الجغرافيا البشرية"، مؤكدا على أن عنوانها "يبين عن ماذا تبحث؟ وما هي الدراسات التي يقوم بها هذا التخصص الذي هو جزء من العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية (علم الاجتماع القروي و الحضري وغيره)".
وأشار ضيف البرنامج إلى أن جغرافية الأرياف "علم (له قواعده و منهجيته) وهو يَدْرُسُ الوسط والمجال القروي، ويَدْرُسُ الإنسان في تفاعله مع هذا الوسط بكل مكوناته، وبالنسبة لجغرافية الأرياف فقد تكون هناك بعض المراكز التي هي شبه حضرية وتدخل في هذا المجال، وحتى بعض المراكز الحضرية الصغيرة التي اجتاحت اليوم الأرياف".
لهذا السبب فضل الأستاذ موسى كرزازي القول بـ "جغرافية الأرياف" بدل "الجغرافيا القروية"، على اعتبار "أن هناك تطورا وتفاعلا للإنسان مع البيئة. يؤثر فيها ويتأثر بها. وبدراسة كل الأنشطة التي يقوم بها الإنسان في عالم الأرياف (زراعية أو تربية المواشي) و التشخيص , يقوم بتفسير هذه الظواهر ثم بعد ذلك ندرس هذه المشاكل من أجل التنبؤ بحل بعض الإشكاليات المطروحة، ومن هنا ندخل إلى مفهوم التهيئة". وخلص بقوله إلى "أن جغرافية الأرياف تبدأ بتشخيص وتعريف المنطقة والتوطين إلى الوصف والتفسير وصولا إلى التهيئة وإعطاء حلول لبعض المشاكل القروية".
التنمية ووظائف علم جغرافيا الأرياف
في نفس السياق أوضح الأستاذ محمد الأسعد بأن جغرافية الأرياف "يمكن اعتبارها علما إنسانيا أو اجتماعيا يقوم بوصف وتفسير وتوقع علاقة الإنسان بالبيئة، بناء على دراسة وظائف إنتاجية مثل الفلاحة والبيئة ووظائف غير إنتاجية أي الأنشطة غير الفلاحية، علاوة على الاهتمام بالعلاقة مع الوسط الحضري". هذا التعريف المبسط ـ حسب الأستاذ الأسعد يجعل الجغرافيا تندرج في إطار "العلم الذي يشتغل بصفة منظمة بناء على الخطوات التي ذكر، ويهدف إلى تنمية المجال الريفي، (التنمية بكل أبعادها) أي العمل على تشخيص القضايا والمشاكل التي تعيق التنمية في جوانبها البيئية والاقتصادية والاجتماعية وإيجاد السبل الكفيلة يتجاوزها واقتراح حلول من زاوية هذا التخصص".
وشدد الأستاذ محمد الأسعد على أن جغرافية الأرياف "لا تقتصر على الجانب التنموي وحده، ولكن لها أيضا وظائف أخرى، منها وظيفة أساسية ترتبط بالبحث العلمي، أي إيجاد الأطر النظرية الكفيلة التي تيسر وتسهل عملية التفكير في تلك القضايا من خلال تتبع التطور الذي يحدث على المستوى العالمي لاستخلاص ما يمكن الإستفادة منه.
وتطرق الأستاذ محمد الأسعد أيضا إلى وظيفة الإستكشاف على اعتبار "أن الوسط الريفي هو عالم فسيح، ونحن ملزمون بالتعرف عليه، بحكم أن الإستكشاف وظيفة أساسية للجغرافيا عموما، وجغرافية الأرياف بالخصوص". علاوة على وظيفة أساسية أخرى تحدث عنها الأستاذ محمد الأسعد وهي "الوظيفة التربوية التي تساهم في ترسيخ قيم المواطنة والتضامن عبر المجال الريفي من خلال كل هذه الوظائف".
وقال في هذا السياق بأنه يمكن (مثلا) أن نستخلص التضامن كقيمة كونية كبرى من خلال علاقة المدينة بالريف، بالنظر إلى المنفعة بينهما (الاستثمار العقاري والسكن) فذلك تعبير عن التضامن بينهما للمساهمة في حل كثير من القضايا بتدخل مباشر أو غير مباشر.
الإنسان كمحور في أبحاث ودراسات علم جغرافية الأرياف
ذَكَّرَ الأستاذ موسى كرزازي بالتطور الذي حدث في هذا الجانب مستحضرا سنوات الخمسينيات والستينيات إذ كانت جغرافية الأرياف هي المهيمنة على اعتبار أن مجال القطاع الفلاحي الذي يشتغل فيه الفلاحون (الزراعة وتربية المواشي والصيد والقنص..) كانت هو المهيمن , لذلك كانت تسمى جغرافية البادية في البداية، وفيما بعد وقع تطور للبادية إذ دخلت إليها قطاعات أخرى في الوسط الريفي (الإسمنت ـ أروقة تجارية ـ ..) وتعددت أنشطة أخرى تتعلق بعمال يشتغلون بمعامل مثل (معمل السكر وشركات معينة ـ ومرافق أخرى إدارية..).
ولم يفت نفس المتحدث أن يستحضر التداخل والتفاعل الذي وقع بين البادية والمدينة في الأحواز والضاحية التي هي صلة وصل بينهما. رغم أن المدينة تظل هي المهيكل للأرياف. إلى جانب المراكز شبه الحضرية وشبه القروية في نفس الوقت، إذ نجد "المدرسة والمستوصف والإعدادية والإدارة" لتتحول إلى شبه مدينة صغيرة ـ حسب وصفه ـ مؤكدا على أن الإنسان يبقى "هو صلب التنمية عبر التهيئة". لذلك فبالنسبة لجغرافية الأرياف يقول الأستاذ موسى كرزازي "نسعى إلى التنمية والرفع من جودة الحياة والخدمات (التعليم والصحة وتعميم الماء والكهرباء....)، حيث نرى اليوم هجرة عكسية من المدينة نحن البادية".
مراحل تعامل جغرافية الأرياف مع الإنسان
في نفس السياق أكد الأستاذ الأسعد على أن "الإنسان هو محور العمل الجغرافي عموما والعلوم الاجتماعية أيضا"، مشيرا إلى أن "تعامل جغرافية الأرياف مع الإنسان مر بمراحل تاريخية، منها فترة القرن 19 إلى القرن بداية القرن 20 ,إذ "كان الجانب الطبيعي هو الغالب. و في منتصف القرن 20 أصبح الجانب الاقتصادي هو الغالب، لكن بعد ثمانينات القرن العشرين أصبح الإنسان هو المحور نتيجة اعتماد عامل الثقافة والنظم الرمزية (أي القيم والعادات والتقاليد..) التي تحمل مقترحات وممارسات وخطابات يمكن أن تفيد في تمثل تشخيص قضايا في المجال الريفي، وتفيد أيضا في تفسير تلك القضايا وإيجاد السبل الكفيلة بتجاوزها". ليخلص إلى أننا "أصبحنا نتحدث عن التمثل، وعن خطاب جديد، منذ ثمانينيات القرن العشرين إذ أصبح الإنسان هو المحور من خلال الاهتمام بثقافته التي تفيد في وصف وتفسير وإيجاد الحلول للمشاكل على المستوى المحلي". وفق تحليله.
وقال الأستاذ محمد الأسعد في هذا الصدد بأن "مفهوم التراب أصبح اليوم مفهوما مهيكلا للجغرافيا والذي يترجم ما سبق أن ذكره في سياق حديثه، لأن مفهوم التراب يتأثر بالثقافة وبالنظم الرمزية". لذلك اعتبر بأن "التنمية لم تعد هابطة فقد أضحت تنمية صاعدة، أي أن نبني مع الإنسان موقفه ونبني معه تشخيص للقضايا وتفسير ما يراه مناسبا، ونبني معه أيضا الحلول ذات الصلة بالمشاكل المحلية".
الندوة الأولى للجمعية هي انطلاقة لبرنامج مستقبلي
وعن الندوة التي نظمتها الجمعية في موضوع "ماهية جغرافية الأرياف؟" والتي جاءت في سياق مشروع اشتغلت عليه ذات الجمعية منذ سنة 2022 (تاريخ التأسيس) لوضع برامج على مستوى اللجن والإتفاق على التصورات وعلى المفاهيم التي تنظم وتؤطر التفكير في موضوع جغرافية الأرياف، حيث اندرجت الندوة في لجنة الأنشطة العلمية وتعتبر الحلقة الأولى من سلسلة ندوات مستقبلية ( نظمت الندوة عن بعد بتاريخ 12 أكتوبر 2022 ).
وفي هذا الإطار أكد الأسعد على أن الموضوع الأول من تلك الندوة قد "تطرق إلى جغرافية الأرياف التي تشتغل على مستوى مجالي ومستوى ترابي وأخر بيئي، إذ يندرج هذا الإشتغال في وصف وتفسير وتوقع علاقة الإنسان ببيئته في أفق المساهمة في التنمية وفي الوظائف الأخرى المذكورة سالفا". أما الموضوع الثاني فقد تناول "الإتجاهات الفكرية التي من اللازم أن يؤطرها إطار مرجعي ينظمها، من خلال التطورات المعرفية التي تحصل على المستوى الدولي لاستخلاص النتائج التي تفيد الأبحاث والدراسات".
الاتجاهات الفكرية ذات الصلة
أما على مستوى الإتجاهات الفكرية ذات الصلة، والتي أوردها نفس المتحدث وهي أربعة والتي تتعلق أولا، بالإتجاه "الكلاسيكي" الذي يقول بأن البيئة هي عامل حتمي في تفسير علاقة الإنسان بالبيئة (من أنشطة وأفعال)، بالإضافة إلى الإتجاه الثاني ويسمى بـ "وضعي محدث" لأنه منبثق من اتجاه فلسفي يقول بأن التفكير لابد أن ينطلق من أطر نظرية (نظريات ومفاهيم) تؤطر الواقع ويعتمد في تفسيره على العامل الاقتصادي. علاوة على الاتجاه الثالث وهو "راديكالي" يفسر بالمادية التاريخية (علاقة الإنتاج والعلاقة الاجتماعية). والاتجاه الرابع الذي يعتمد على الثقافة والتقاليد كعامل أساسي في استخلاص النظم الرمزية والقيم التي يتمثلها الإنسان واستخلاص ما يفيد منها في تفسير وتوقع القضايا التي تؤرق الإنسان في علاقته مع البيئة, مشيرا إلى أن جغرافية الأرياف تتموقع في الجغرافيا والعلوم الإنسانية بصفة عامة.
يتبع
