تناغم إبداعي ذاك الذي أتحفنا به فيلم رؤوف الصباحي الجديد ''واحة المياه المتجمدة'' حيث جُمعت وانصهرت عدة عناصر فيلمية من سرد، وصورة، ورمز، وتشخيص، وكوريغرافيا... في قالب فني واحد، صمّم لنا شكلا بصريا جميلا أخفى داخله الكثير من التفاصيل والأبعاد ذات معانٍ ودلالات، فغالبا ما يعكس الشكل عمق المضمون، كما قال ميشيل فوكو يوما بعبارة أخرى (إن الشكل هو السطح العميق للجوهر) وهذا ماتوقفتُ عنده في هذا الفيلم.
فيلم اعتمد أسلوبا غير مباشر في اقتحام العوالم الداخلية الإنسانية وتفكيك تفاصيلها النفسية، خصوصا أنه تعمق في الجانب العاطفي والوجودي منها، وحاول السيطرة على اندفاع وتدافع المشاعر التي اعترت شخصياته الرئيسية، كما أعطى للمُتلقي شحنة من الصدمات المتنوعة والمختلفة في قدراتها التأثيرية، صدمات نابعة من عمق الشخصيات نفسها، حيث يتلاقى فيها الحبّ، والموت، والبحث عن الذات، بالمشاعر المحملة بالتناقضات والتجاذبات والرغبات... القصة واضحة وبسيطة، طبيبة وممرض، شابان متزوجان يجمعهما الحب منذ الطفولة، يصلان معا الى طريق مسدود ثم يتفقان على الطلاق، يصاب الزوج بالسرطان ليصبح مهددا بالموت، فتحاول الزوجة التراجع عن الطلاق لإنقاذه.
قصة درامية بسيطة وعادية لكن تحويل شخوصها وأجوائها الى رموز فنية جعلها مركبة ومشحونة إبداعيا، استخدام الألوان والظلال، والفضاءات، والملابس، والأرضيات، والموسيقى... لها إشارات دلالية، وكلها عناصر نجح في تسكينها رؤوف الصباحي بشكل متميز حيث أدت الغرض المطلوب، وكشفت لنا عما يكمن في التفاصيل، فقليلون هم للأسف من يتمكنون أو يتوفقون لدينا في تفريغ إبداعهم بهذا الشكل الجميل، حيث تستمتع بجمالية الرمز، وتستمتع أيضا بتفكيكه، وهذا ما يحتاجه المتلقي.
فمثلا نجد التوظيف الجيد للون الأبيض الذي درج على استعماله وارتدائه الزوج داخل وخارج المنزل، وكأنه يرمز إلى الكفن، أي إلى الموت الذي ينتظره، والموت هو في حد ذاته تطهير، ونقاء، وخلود، وهدوء، وسكينة، واللون الأبيض والكفن يلتقيان في هذا المعطى، ونصل إلى ذروة هذا المعنى عندما نجده من حين لآخر معتكفا في "زاويته" الخاصة، وكذا في أسلوب رقصه المصمّم على طريقة المتصوفة أي الدوران حول النفس بتنورة بيضاء اللون أيضا، ولهذه الرقصة دلالة مفهومة تتقاطع مع ما قلناه وهو التأمل والتخلص من الشهوات الدنيوية، والانسلاخ عن الذات والبحث عن المستقر النهائي بين أعالي السموات، وهذا ما نلاحظه فيه حيث يبتعد عن كل الرغبات، ويصرّ بقوة على الوحدانية والإعتكاف والفراق والطلاق، بعكس زوجته التي تتشبث به وتتشبث بالحياة ومُتعها، ونجدها في مشهد أكثر من رائع، تحاول بدورها الإعتكاف فتفشل، وتحاول الرقص على طريقة زوجها فتفشل أيضا، والفشل هنا يعني عدم جديتها في البحث عن الذات، وعدم قناعتها بالوصول الى منتهى التطهير النفسي والبحث عن الملاذ الأخير كشريكها، فهي في الأخير متمسكة بالحياة وبكل شهواتها، وزوجها متشبث بمصيره، أي الموت، وبين الحياة والموت هناك ابنهما الرضيع الذي يشكل حافز التشبث والتخلي بين الطرفين، كل حسب قناعته ورؤيته، الجميل أننا نشهد في النهاية تحول نفس اللون –أي الأبيض– من لون الهدوء، والسكينة، والتطهير إلى لون الحزن والكآبة، حيث يموت الزوج وعوض أن ترتديه الزوجة كحداد على زوجها كما تقتضي التقاليد المغربية، تزيله وترميه بعيدا، لتبقى مرتدية نقيضه أي اللون الأسود كنوع من التمرد.
لدينا أيضا أرضية البيت التي رُسمت كلها وكأنها رقعة شطرنج، على اعتبار أننا داخل لعبة تنافسية لا داخل بيت طبيعي، لعبة مبنية على صراعات وتجاذبات بين بيدقين، الزوج والزوجة، فالزوجة في أغلب الأحيان تحاول أن تهجم وتنتصر بكل السبل، والزوج هادئ ومستكين ومستسلم لقدره.
توظيف الفضاء والضوء، كرمزية للحياة والتشبث بها نجده أيضا في مشاهد أب الزوج، الذي رغم كونه شيخا أعمى لكنه محب للحياة عكس ابنه، فهو يحب أم زوجة ابنه ويأمل في الزواج منها، يمارس أعماله اليومية بكل تفاصيلها وكأنه مبصر، هو في الأخير مستمتع بحياته رغم إعاقته. نأتي الى التجسيد الرمزي الذي تحدثت عنه ويكمن في أن الأب الشيخ يتواجد في كل مشاهده خارج بيته الذي يتميز بألوان مبهجة وإضاءة قوية مشرقة، بل حتى زواره يستقبلهم أمام البيت ب''السبسي'' الذي لايفارق يده، الشيخ هنا لا يحب التقوقع، ولا الإعتكاف رغم وحدانيته، ولا يميل الى الدروشة رغم سنه، فهو منطلق في الحياة ومقبل عليها ومستمتع بها، ففي السياق الدرامي يقابل ابنه دون شك.
العنصر الأكثر حضورا وتغلغلا في المَشاهد وخصوصا المشاهد الداخلية في البيت، الذي شكّل رحى الصراع الثنائي والنفسي للزوجين، هو الحمّام الذي تعمق في رسم الصورة الفيلمية من المنظور السيكولوجي الذي نبحث عنه كجمهور، فلا يخلو مشهد للبيت دون حمّام، دائما نجده في مركز اللقطة، فهو محور البيت ومركزه، ولهذا معنى بطبيعة الحال، فكلما احتد الصراع الداخلي أو الثنائي بين الزوجين، اتجه أحدهما إليه ليفرغ فضلاته أو يغتسل فيه، ليخرج في أغلب الوقت هادئا وكأنه تطهر وأخرج ما في جوفه من تراكمات وهواجس نفسية، بل حتى عندما حاول الزوج إصلاح الحنفية التي يتسرّب منها الماء، حطم المغسلة وزاد من تفاقم الأزمة، وفي هذا إحالة إلى الفشل في إصلاح العلاقة، لكن في الأخير يتم إصلاح المغسلة من طرف عنصر خارجي وهو السباك، وفي هذا إحالة أيضا الى إصلاح العلاقة من طرف عناصر خارجية، وهذا ماشاهدناه عندما عادت البسمة والمرح إلى الزوجين معا قبل النهاية بقليل وبعد حفل ختان طفلهما.
رؤوف الصباحي اجتهد في فيلمه هذا ''واحة المياه المتجمدة'' باقتناصه للصورة بجماليتها البصرية، سواء من الناحية الفنية أو التقنية، وأحاطها بمجموعة من العناصر المادية الملموسة ذات الدلالات السيميائية التي جعلت من الفيلم عملا قابلا للقراءة من زوايا عدة، هذا الإجتهاد لم يتأت من فراغ خصوصا إذا عرفنا أن هناك عنصرا مساعدا آخر، وهو مدير التصوير فاضل اشويكة الذي يعتبر واحدا من المبدعين المشهود لهم في مجالهم.
بعيدا عن السيناريو المتماسك في بنائه والذي شكّل النواة الصلبة لجوهر الفيلم، وكذا الإيحاءات الرمزية التي تكلمنا عنها، والتي تعكس بدون شك رؤية المخرج وقدراته الإبداعية على تفكيكها، نجد أن التشخيص القوي لكل من الشخصيتين الرئيسيتين لعب دورا محورياّ في نقل الصورة كما يجب، حيث شكل الواجهة الشفافة لأبعاد الفيلم وعوالمه، فالممثل أحمد حمود الذي أدى دور الزوج ''قادر''، تفنن في التماهي مع الشخصية وجعل منها أداة ووسيلة لتعزيز القدرة على الفهم، وإيجاد أجوبة للأسئلة المطروحة من بداية الفيلم إلى نهايته، فهو المياه القادرة على زراعة الروح في الواحة المنعزلة داخل صحراء ممتدة من المشاعر المتضاربة، لكنها للأسف تبقى مياها متجمدة غير ذات جدوى، وعوض أن يساعد في خلق السعادة لدى زوجته/الواحة وإحياء أحاسيسها، أصابها بالحزن والإكتئاب وفاقم حالتها النفسية إلى درجة الذبول، وقد استطاعت الفنانة نسرين الراضي التي أدت دور الزوجة ''فضيلة''، أن تعكس لنا هذه الحالة باستتنفار كل حواسها وانفعلاتها، وتوظيف كل تعابيرها وأدواتها لإرسال رسائل سيكولوجية معينة محملة بالكثير من المشاعر المغلفة بالألم والمعاناة والحب، هذه الجرعات الدرامية المكثفة في الفيلم عُزِّزت بالكثير من الحركات الإيحائية الصامتة Pantomime، وهي حركات أتقنتها ببراعة هذه المبدعة، و جعلتنا كجمهور نغوص داخل الشخصية، نتألم لألمها، ونحزن لحزنها، ونبتسم لابتسامتها... كما أنها أتقنت المَشاهد التي اعتمدت على المونولوج وجعلت منها بوابة نعبر منها إلى الدواخل المتصدعة للشخصية، هذا دون أن ننسى الممثل المقتدر حسن بديدة أب الزوج، الذي شكّل بكل براعة التوازن المطلوب بين الشخصيتين الرئيسيتين.
يمكنني القول إن المخرج رؤوف الصباحي وجد نفسه أخيرا في فيلمه هذا ''واحة المياه المتجمدة''، حيث نجح في رسم مشاهد متقنة الصنع من الناحية التقنية والفنية، وعززها بحمولات إنسانية مركبة جعلت المُتلقي أكثر قربا من الشخصيات، وأكثر فهمًا لعمق الرؤية السيكولوجية التي حاول الفيلم صياغتها.