كل شئ يبتدأ بالماء وينتهي بالماء، أليس تعلمنا الآية الكريمة "وجعلنا من الماء كل شئ حي" (الآية 30 من سورة الأنبياء). بل أليست الحضارة في المقام الأول مجرد خلط ماء بتراب، مما أعطى كل الإجتهادات التي أنضجتها البشرية في وجودها منذ الصرخة الأولى للوجود (زراعةً وعمرانا).
بالتالي، فإن ثروة كندا الأكبر هي وفرة الماء الزلال السلسبيل الذي يجعلها تهَبُهُ لساكنتها مجانا بدون مقابل (20 % من الإحتياطي العالمي من المياه الصالحة للشرب يوجد بها)، وحيث يكون الماء ثمة الحياة. بينما ثروة البلد الأخرى (مساحة كندا حوالي 10 ملايين كلمتر مربع)، هي الإنسان. وهي ثروةٌ هائلةٌ حين نُدركُ أن الكثافة السكانية بها تُعتبرُ من بين الأصغر في العالم (لا تتجاوز 4 % في كل كلمتر مربع)، حيث بالكاد يصل تعداد سكانها إلى 38 مليون نسمة، نعم فقط 38 مليون نسمة، حَوَّلُوا دولةً/ قارة إلى واحدةٍ من أكثر دول العالم تقدما (تكنولوجيًّا وخدماتيًّا وأمنيًّا وحقوقيًّا)، كما لو أن تعدادهم يتجاوز 100 مليون نسمة. بالتالي، الرأسمال الأقوى للأمم والدول هو رأسمالها البشري وكل المنظومات الفاشلة عالميا هي تلك الفاشلة على مستوى رأسمالها البشري.
رمزيا، أول ما يُثيرك وأنت تزور هذا البلد الشمال أمريكي، وتقطع المسافات الطوال في جغرافيته الممتدة (عاديٌّ تماما أن تقطَعَ مسافة ألف كلمتر في يوم واحد بها)، ليس فقط الخضرة الضاجة أينما وليت وجهك، ولا حجم الغابات التي بلا عدد، ولا صلابة بناها التحتية من طرق سيارة واسعة ونظيفة، ولا هندسة المعمار بها (مدنا وقرى)، ولا تغطية الكهرباء والأنترنيت وشبكة الإنقاذ والحماية الإجتماعية من أصغر حي بعاصمتها أوتاوا حتى أبعد جبل عال بها (جبل لوجان العالي بحوالي 6 آلاف متر عن سطح البحر)، رغم قساوة الطقس بها شتاء.. ليس ذلك فقط وغيره كثير، بل إن أول ما يثيرك هو العدد الضاج بها من طائر الغراب بلونه الأسود، الذي تجده يطير جماعات ويحط جماعات هنا وهناك في كامل جغرافية البلد، ما يجعلك لا تستطيع الفكاك عن موروثك الثقافي الذي علمك منذ الصغر أن تَتَطَّيرَ من هذا الطائر القرين في مخيالنا العام بالشؤم. فتتساءل من أين تأتي كل هذه السعادة الضاجة بهذه البلاد حتى وهي بلاد غربان؟. كانت تلك الصدمة الثقافية الأولى..
بالتالي، فإن ثروة كندا الأكبر هي وفرة الماء الزلال السلسبيل الذي يجعلها تهَبُهُ لساكنتها مجانا بدون مقابل (20 % من الإحتياطي العالمي من المياه الصالحة للشرب يوجد بها)، وحيث يكون الماء ثمة الحياة. بينما ثروة البلد الأخرى (مساحة كندا حوالي 10 ملايين كلمتر مربع)، هي الإنسان. وهي ثروةٌ هائلةٌ حين نُدركُ أن الكثافة السكانية بها تُعتبرُ من بين الأصغر في العالم (لا تتجاوز 4 % في كل كلمتر مربع)، حيث بالكاد يصل تعداد سكانها إلى 38 مليون نسمة، نعم فقط 38 مليون نسمة، حَوَّلُوا دولةً/ قارة إلى واحدةٍ من أكثر دول العالم تقدما (تكنولوجيًّا وخدماتيًّا وأمنيًّا وحقوقيًّا)، كما لو أن تعدادهم يتجاوز 100 مليون نسمة. بالتالي، الرأسمال الأقوى للأمم والدول هو رأسمالها البشري وكل المنظومات الفاشلة عالميا هي تلك الفاشلة على مستوى رأسمالها البشري.
رمزيا، أول ما يُثيرك وأنت تزور هذا البلد الشمال أمريكي، وتقطع المسافات الطوال في جغرافيته الممتدة (عاديٌّ تماما أن تقطَعَ مسافة ألف كلمتر في يوم واحد بها)، ليس فقط الخضرة الضاجة أينما وليت وجهك، ولا حجم الغابات التي بلا عدد، ولا صلابة بناها التحتية من طرق سيارة واسعة ونظيفة، ولا هندسة المعمار بها (مدنا وقرى)، ولا تغطية الكهرباء والأنترنيت وشبكة الإنقاذ والحماية الإجتماعية من أصغر حي بعاصمتها أوتاوا حتى أبعد جبل عال بها (جبل لوجان العالي بحوالي 6 آلاف متر عن سطح البحر)، رغم قساوة الطقس بها شتاء.. ليس ذلك فقط وغيره كثير، بل إن أول ما يثيرك هو العدد الضاج بها من طائر الغراب بلونه الأسود، الذي تجده يطير جماعات ويحط جماعات هنا وهناك في كامل جغرافية البلد، ما يجعلك لا تستطيع الفكاك عن موروثك الثقافي الذي علمك منذ الصغر أن تَتَطَّيرَ من هذا الطائر القرين في مخيالنا العام بالشؤم. فتتساءل من أين تأتي كل هذه السعادة الضاجة بهذه البلاد حتى وهي بلاد غربان؟. كانت تلك الصدمة الثقافية الأولى..
الصدمة الثقافية الثانية، هي شكل تعامل الكنديين مع الماء الذي يجعلهم واحدة من أغنى الدول إنتاجا للطاقة الكهرومائية (الكهرباء المستخرج من قوة الماء) الذي تبيع حكومتهم فائضه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل وأن تكون واحدةٌ من أقوى شركاتها الوطنية هي شركة "هيدرو كيبيك"، المتواجد مقرها الرئيسي بمدينة مونتريال، التي تأسست سنة 1944، التي تنتج سنويا أكثر من 37 ألف ميغاوات من الكهرباء النظيفة، ساهمت في تقليص كندا من اعتمادها على الطاقة الأحفورية. بل أكثر من ذلك، تُعتبر فاتورة الكهرباء بكندا الأدنى على مستوى العالم بالنسبة للمستهلك الكندي، وأنها من أكبر الشركات التي تُدرُّ مداخيل ضريبية لخزينة الدولة (محليا وفدراليا) تجاوزت 11 مليار دولار كندي سنة 2021 (كان مُفرحا أن أكتشف أن عددا من مهندسي "هيدرو كيبيك" شبابٌ مغاربة حاملوا شهادات مهندسي دولة). وأن تكون تلك الشركة العملاقة واحدةً من أكثر الشركات الكندية مساهمة في استثمارات البنى التحتية على طول البلاد وعرضها، ترجمانا على أن الرأسمال الكندي رأسمالٌ مواطن مُساهمٌ في التنمية ليس فقط من خلال صرامة التزامه بتأدية واجباته القانونية الضريبية، بل أيضا من خلال توظيف فائض أرباحه ضمن المشاريع المهيكلة لتحقيق التنمية ببلده.
بل إنني سأكتشف أن هذا الأمر يمتد حتى إلى الجسم النقابي الكندي، حيث إن واحدة من كبريات النقابات العمالية هناك (فدرالية عاملات وعمال الكيبيك)، تعتبر من أهم المؤسسات المستثمرة في مجالات التنمية بالبلد من خلال ذراعها الوازن التابع لها، المتمثل في "صندوق التضامن" الذي هو مؤسسة مستقلة تُدبِّرُ انخراط العمال والعاملات في إطار تنظيمي للتقاعد التكميلي والتأمين. وهو صندوق تُنتخبُ إدارته بالإستحقاق المهني والأكاديمي (بعض رؤسائه كانوا وزراء سابقين)، حيث تُطرحُ مداخيل العمال المنخرطين فيه ضمن سوق الإستثمارات الكبرى بكندا لتستفيد من أرباح تعزز من صلابة ذلك الصندوق العمالي المستقل. علما أن من آخر المشاريع الكبرى التي ساهم هذا الصندوق في دعمها بطلب من الحكومة الكندية الفدرالية ومن حكومة إقليم الكبيك، مشروع ميترو مونتريال المعلق الممتد على مسافة 67 كلمترا (شبكة النقل السريع الميتروبوليتان)، المهيكل بشكل غير مسبوق لخدمات النقل الحضري بهذه المدينة العملاقة، بعرباته التي يقودها كمبيوتر بدون سائق. بالتالي، فإن الرأسمال المحلي هو رأسمالٌ مواطن، يُساهم في كافة مجالات التنمية من التعليم إلى الصحة إلى النقل إلى العقار إلى الطرق السيارة إلى السدود إلى المطارات إلى الموانئ، وأن المال وُجدَ ليس لتكديس الثروة بل للإستثمار في بناء البلد.
بل إنني سأكتشف أن هذا الأمر يمتد حتى إلى الجسم النقابي الكندي، حيث إن واحدة من كبريات النقابات العمالية هناك (فدرالية عاملات وعمال الكيبيك)، تعتبر من أهم المؤسسات المستثمرة في مجالات التنمية بالبلد من خلال ذراعها الوازن التابع لها، المتمثل في "صندوق التضامن" الذي هو مؤسسة مستقلة تُدبِّرُ انخراط العمال والعاملات في إطار تنظيمي للتقاعد التكميلي والتأمين. وهو صندوق تُنتخبُ إدارته بالإستحقاق المهني والأكاديمي (بعض رؤسائه كانوا وزراء سابقين)، حيث تُطرحُ مداخيل العمال المنخرطين فيه ضمن سوق الإستثمارات الكبرى بكندا لتستفيد من أرباح تعزز من صلابة ذلك الصندوق العمالي المستقل. علما أن من آخر المشاريع الكبرى التي ساهم هذا الصندوق في دعمها بطلب من الحكومة الكندية الفدرالية ومن حكومة إقليم الكبيك، مشروع ميترو مونتريال المعلق الممتد على مسافة 67 كلمترا (شبكة النقل السريع الميتروبوليتان)، المهيكل بشكل غير مسبوق لخدمات النقل الحضري بهذه المدينة العملاقة، بعرباته التي يقودها كمبيوتر بدون سائق. بالتالي، فإن الرأسمال المحلي هو رأسمالٌ مواطن، يُساهم في كافة مجالات التنمية من التعليم إلى الصحة إلى النقل إلى العقار إلى الطرق السيارة إلى السدود إلى المطارات إلى الموانئ، وأن المال وُجدَ ليس لتكديس الثروة بل للإستثمار في بناء البلد.
رعب الفيروسات القادمة بكندا
تتوفر كندا على ما يفوق مليوني بحيرة ونهر (أرقام الوكالة الكندية للماء)، وعلى فرش مائية وافرة، مما يجعلها أغنى دولة في العالم من حيث الثروة المائية، بكل ما يفرضه ذلك من تحديات مواجهة تلوث المياه وكذا تبعات التغير المناخي. الأمر الذي يجعلها مختبرا مثاليا لباقي البشرية في ما يرتبط بما يمكن وصفه ب "ثقافة الماء". ذلك أنها أكبر دولة تواجه تحديات ذوبان ثلوج القطب الشمالي وارتفاع مستوى البحار فيها، وكذا مستوى الأنهر والبحيرات. مما فرض عليها في بداية الألفية الجديدة تغيير منظومتها القانونية للماء والبيئة وأساسا إطلاق مشروع وطني في أفق 2050، أطلق عليه "المشروع الوطني للمواءمة"، سَطَّرَ برنامجًا شموليا للتعايش مع تبعات التغير المناخي يشملُ أشكال الإستعداد لمواجهة حرائق الغابات والفيضانات والأعاصير وارتفاع منسوب مياه البحر والأودية والبحيرات. حيث إن كل التقارير الرسمية تُسجلُ ما تسميه "الجيل الجديد من الكوارث الطبيعية بكندا" التي في مقدمتها حرائق الغابات (هذه السنة مثلا التهمت النيران بشكل غير مسبوق ما يفوق 9 ملايين هكتار من الغابات، وهو رقم مهول بمقاييسنا الإفريقية والمتوسطية).
إننا حين نقول إن كندا هي واحد من أكبر المختبرات التي ستستفيد منها البشرية في ما يتعلق بالتغيرات المناخية، راجع ليس فقط إلى تحدي قوة الماء وارتفاعات منسوبه بحريا ونهريا بالبلد/ القارة، بل إلى الإنقلابات البيئية المتوقعة هناك، التي سيُحدثُها ذوبان ثلوج ظلت لقرون جامدةً في الشمال الكندي (وكذا في شمال البلدان الإسكندنافية والشمال الروسي). وهي الإنقلابات، التي ترتعبُ عدد من الدراسات الرسمية والعلمية الكندية، من أنها ستُطلق العنان لفيروسات قديمة ظلت جامدة في مياه بحور الشمال كامتداد للكتلة الثلجية للقطب الشمالي. وهي فيروسات لا تمتلكُ البشرية بخصوصها أية ذاكرة علمية أو طبية، مما سيفرض عليها تحدي التعامل معها، لأنها قد تكون سببا في جوائح أمراض جارفة غير مسبوقة لا أحد بمستطاعه تحديد ما قد تجرفه من أرواح، وهو سيناريو مقلق (حتى لا نقول مرعب) ينتظر الأجيال القادمة في العالم.
بالتالي، فإن مراكز الدراسات المتعاملة مع الوكالة الكندية للماء ضمن "المشروع الوطني للمواءمة" لا تكتفي فقط بدق ناقوس الخطر حول إمكانية فقدان أراضٍ محيطية أو كوارث حرائق الغابات (بكل ما لذلك من أثر على التوازن البيئي للثروة الحيوانية الهائلة للبلد)، أو تلوث المياه (واحد من أكبر تحديات البحث العلمي هناك منذ عقود)، بل إنها تؤسس لبنية بحثية جنينية بالتنسيق مع كبريات الجامعات والمعاهد العليا الكندية المتخصصة لدراسة الهندسة الجديدة لمنظومة الفيروسات المتوقعة من ذوبان جليد شمال الكرة الأرضية (بعض التوقعات العلمية تذهب إلى أن للكرة الأرضية ذاكرة فيروسات هائلة، جزء منها ظل مجمدا في القطبين الشمالي والجنوبي منذ الأزمنة الغابرة للعصور الجليدية التي اجتاحت كوكبنا). حيث إن بعض تلك الفيروسات قد كان منتشرا منذ ملايين السنين ضمن نظام توازن بيئي، قبل أن تختفي بسبب توالي العصور الجليدية، التي جمدت بعضها في ما يشبه خزانا حافظا لها منذ ملايين السنين.
مثلا، من التحديات الصحية التي تواجه الجسم الطبي في كندا منذ عقد من الزمن، تنامي أعراض مرض يصيب المخ كان يعتقد في البداية أنه من علامات الإصابة ب "مرض كروتزفيلد جاكوب" (نوع من الخرف يصيب الدماغ أشبه بالزهايمر لكنه يؤدي بشكل أسرع إلى الوفاة). لكن بعد تنامي الحالات، خاصة بالمناطق التي هي عبارة عن جزر، خصوصا بإقليم برونزويك شرق كندا، اتضح مخبريا أن الأمر مرتبط بتطور في البيئة البحرية (احتمال ارتباطه باستهلاك نوع من محار البحر)، وأن لا علاقة له مختبريا بمسببات مرض "كروتزفيلد جاكوب". بل إنه حالة فيروسية جديدة تماما محيرة للبحث العلمي والطبي، وأن كل ما تقوم به الجهات المعالجة اليوم هو التخفيف من أعراض المرض (التوتر، فقدان القدرة على الكلام، عدم القدرة على النوم، الشك في الشريك، الهزال الشديد). مثلما تم اليوم التأكد علميا، بعد شهور من الأبحاث المخبرية، أنه ليس مرضا وراثيا بل إنه مكتسب من الطبيعة ومن البيئة.
إن تحدي التغيرات المناخية عالميا مركب ومعقد جدا، فيه الأمني (الكوارث الطبيعية) وفيه الصحي (الفيروسات)، وكندا اليوم مختبرٌ مفتوحٌ لتجريب أشكال مواجهة ومقاومة تداعيات كل التغيرات المناخية. حيث إن سلاح المعرفة عالميا في المستقبل القادم من الأيام ليس امتلاك الأسلحة الفتاكة وتطويرها، بل امتلاك المعرفة العلمية لمواجهة مخاطر التغيرات البيئية المهددة للحياة ولمستقبل البشرية كلها.
إن ميلاد مفهوم "السيادة الصحية" في بلد فقير مثل بلدنا المغرب هو عنوان على الطريق الصحيح التي قدرنا مغربيا أن نتجه صوبه. وأن من مهام الجسم الديبلوماسي المغربي الجديدة اليوم في بلد مثل كندا هو ربط الصلة بالبحث العلمي الدقيق هناك للفوز بنتائجه ونقلها إلى المصالح المعنية بالمغرب، على القدر نفسه الذي عليه نقل خلاصات "ثقافة الماء" الكندية للإستفادة منها هنا.
إننا حين نقول إن كندا هي واحد من أكبر المختبرات التي ستستفيد منها البشرية في ما يتعلق بالتغيرات المناخية، راجع ليس فقط إلى تحدي قوة الماء وارتفاعات منسوبه بحريا ونهريا بالبلد/ القارة، بل إلى الإنقلابات البيئية المتوقعة هناك، التي سيُحدثُها ذوبان ثلوج ظلت لقرون جامدةً في الشمال الكندي (وكذا في شمال البلدان الإسكندنافية والشمال الروسي). وهي الإنقلابات، التي ترتعبُ عدد من الدراسات الرسمية والعلمية الكندية، من أنها ستُطلق العنان لفيروسات قديمة ظلت جامدة في مياه بحور الشمال كامتداد للكتلة الثلجية للقطب الشمالي. وهي فيروسات لا تمتلكُ البشرية بخصوصها أية ذاكرة علمية أو طبية، مما سيفرض عليها تحدي التعامل معها، لأنها قد تكون سببا في جوائح أمراض جارفة غير مسبوقة لا أحد بمستطاعه تحديد ما قد تجرفه من أرواح، وهو سيناريو مقلق (حتى لا نقول مرعب) ينتظر الأجيال القادمة في العالم.
بالتالي، فإن مراكز الدراسات المتعاملة مع الوكالة الكندية للماء ضمن "المشروع الوطني للمواءمة" لا تكتفي فقط بدق ناقوس الخطر حول إمكانية فقدان أراضٍ محيطية أو كوارث حرائق الغابات (بكل ما لذلك من أثر على التوازن البيئي للثروة الحيوانية الهائلة للبلد)، أو تلوث المياه (واحد من أكبر تحديات البحث العلمي هناك منذ عقود)، بل إنها تؤسس لبنية بحثية جنينية بالتنسيق مع كبريات الجامعات والمعاهد العليا الكندية المتخصصة لدراسة الهندسة الجديدة لمنظومة الفيروسات المتوقعة من ذوبان جليد شمال الكرة الأرضية (بعض التوقعات العلمية تذهب إلى أن للكرة الأرضية ذاكرة فيروسات هائلة، جزء منها ظل مجمدا في القطبين الشمالي والجنوبي منذ الأزمنة الغابرة للعصور الجليدية التي اجتاحت كوكبنا). حيث إن بعض تلك الفيروسات قد كان منتشرا منذ ملايين السنين ضمن نظام توازن بيئي، قبل أن تختفي بسبب توالي العصور الجليدية، التي جمدت بعضها في ما يشبه خزانا حافظا لها منذ ملايين السنين.
مثلا، من التحديات الصحية التي تواجه الجسم الطبي في كندا منذ عقد من الزمن، تنامي أعراض مرض يصيب المخ كان يعتقد في البداية أنه من علامات الإصابة ب "مرض كروتزفيلد جاكوب" (نوع من الخرف يصيب الدماغ أشبه بالزهايمر لكنه يؤدي بشكل أسرع إلى الوفاة). لكن بعد تنامي الحالات، خاصة بالمناطق التي هي عبارة عن جزر، خصوصا بإقليم برونزويك شرق كندا، اتضح مخبريا أن الأمر مرتبط بتطور في البيئة البحرية (احتمال ارتباطه باستهلاك نوع من محار البحر)، وأن لا علاقة له مختبريا بمسببات مرض "كروتزفيلد جاكوب". بل إنه حالة فيروسية جديدة تماما محيرة للبحث العلمي والطبي، وأن كل ما تقوم به الجهات المعالجة اليوم هو التخفيف من أعراض المرض (التوتر، فقدان القدرة على الكلام، عدم القدرة على النوم، الشك في الشريك، الهزال الشديد). مثلما تم اليوم التأكد علميا، بعد شهور من الأبحاث المخبرية، أنه ليس مرضا وراثيا بل إنه مكتسب من الطبيعة ومن البيئة.
إن تحدي التغيرات المناخية عالميا مركب ومعقد جدا، فيه الأمني (الكوارث الطبيعية) وفيه الصحي (الفيروسات)، وكندا اليوم مختبرٌ مفتوحٌ لتجريب أشكال مواجهة ومقاومة تداعيات كل التغيرات المناخية. حيث إن سلاح المعرفة عالميا في المستقبل القادم من الأيام ليس امتلاك الأسلحة الفتاكة وتطويرها، بل امتلاك المعرفة العلمية لمواجهة مخاطر التغيرات البيئية المهددة للحياة ولمستقبل البشرية كلها.
إن ميلاد مفهوم "السيادة الصحية" في بلد فقير مثل بلدنا المغرب هو عنوان على الطريق الصحيح التي قدرنا مغربيا أن نتجه صوبه. وأن من مهام الجسم الديبلوماسي المغربي الجديدة اليوم في بلد مثل كندا هو ربط الصلة بالبحث العلمي الدقيق هناك للفوز بنتائجه ونقلها إلى المصالح المعنية بالمغرب، على القدر نفسه الذي عليه نقل خلاصات "ثقافة الماء" الكندية للإستفادة منها هنا.