الجمعة 7 فبراير 2025
كتاب الرأي

عبد الله بوصوف: إحراق الكتب.. الجريمة الأخلاقية التي رفضتها القيم الكونية..

عبد الله بوصوف: إحراق الكتب.. الجريمة الأخلاقية التي رفضتها القيم الكونية.. عبد الله بوصوف
شكلت عمليات إحراق الكتب والمكتبات إحدى الطقوس الملازمة لكل انتقال للسلطة بالحروب أو الثورات أو الانتقال الى إيديولوجية أخرى في اكثر من محطات التاريخ  الإنساني .. وتخبرنا أحداثا تاريخية فارقة في تاريخ الإنسانية ان عمليات إحراق الكتب سواء تلك التي تتخد من الدين مضمونا أو تلك التي تقارع أفكارا فلسفية أو فكرية أو أيديولوجيات سياسية وإجتماعية…أنها تشترك في صك إتهام واحدا، وهو معارضتها للقيم الأخلاقية والتعاليم الدينية أو تعارض أفكار النخبة الحاكمة أو المسيطرة…

لذلك فقد كانت عمليات الحرق تلك بمثابة "جرائم تطهير ثقافي " وإلغاء لكل المعالم الثقافية والفكرية التي كانت تؤثت مرحلة معينة،  لشعب أو دولة معينة … وتطورت تلك الجرائم من الحرق والتدنيس إلى ما يعرف اليوم  بظاهرة " ثقافة الإلغاء " cancel culture  والتي تتخذ من الأشخاص هدفا لها قصد التبليغ عن أخطائهم وبالتالي نبذهم… وهنا نكون أمام مفاهيم مقلوبة من " إلغاء ثقافة " الآخر ، إلى " ثقافة الإلغاء " لكل فكر معارض و منهج مخالف.. وهنا أيضا سنكون أمام ثنائية " حرية التعبير " كحق إنساني كوني من جهة، واحترام خصوصيات وحريات الاخرين في التفكير والمعتقد من جهة ثانية…إذ من غير المعقول فرض فكر أو الغاء فكر بقوة الحديد والنار…

فالتاريخ نفسه يحدثنا عن الامبراطور الصني صاحب الجيش الطيني سنة 212 ق/م الذي حرق آلاف الكتب ودفن كتابا و مفكرين أحياءا..
التاريخ يحدثنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد " البابا باولو الرابع " عن " قائمة الكتب الممنوعة " سنة 1559 لأنها " هرطقة  " ضد الايمان والاخلاق… ومن بينها كتاب الأمير لنيكولو ماكيافيلي وقصص Decameron … وغيرها… وستعرف قائمة المنع العديد من التعديلات قبل ان يطالها الإلغاء سنة 1966 أي بعد اكثر من 400 سنة…!

التاريخ يحدثنا عن وزير البروباغاندا النازي "جوزيف غولبس" وكيف وقف مزهوا ليلة 10 مارس من سنة 1933..يتابع عملية إحراق أكثر من 25 الف كتاب لا يتماشى مضمونها مع الفكر النازي..حيث اغلب كُتابها غير ألمانيين أو من اليهود او اشتراكيين وعلى راسهم كُتُب كارل ماركس و بيرتولد بريخث و هامينغواي و جاك لندن وطوماس مان وايريش كاستنر و كافكا… ولم يستثن حفل احراق برلين لسنة 1933 نسخ من المنشورات الدينية والإنجيل…

وكذلك فعلت التنظيمات الإرهابية " القاعدة " و "داعش" بحرق المتاحف وتدمير مآثر تاريخية مهمة سواء بالعراق أوسوريا..و كذا قيام حركة " طالبان" بتدمير تماثيل و قطع اثرية لا تقدر بثمن بافغانستان…
 
وقد سجل التاريخ أيضا، حركات احتجاج ضد عمليات الحرق ومحاولات إبادة ثقافات الشعوب الأصلية سواء في أمريكا أو إفريقيا…إذ تم رفع عمليات الحرق الى جرائم " تطهير ثقافية " و " بيبليوفوبيا " بإحراق مكتبات من حجم مكتبة بغداد في عهد المغول ومكتبة القسطنطينية و المكتبة الفرنسية بستراسبورغ سنة 1870 ومكتبة البوسنه ومكتبات ليتوانيا وكمبوديا وكابول وغيرها …لان المكتبات تُشكل خزانات لأسلحة فكرية وثقافية وسياسية ولايديولوجيات عابرة للجدران…قد تفلح النيران في أكل أوراقها …لكنها لن تصل أبدا الى إبادتها بالكامل فكتابات ابن رشد و الغزالي.. مثلا، لازالت حية رغم الاحتفال باحراقها ذات سياق زمني بالاندلس..
 
نسوق هذا السرد السريع لأهم أحداث إحراق الكتب والمكتبات في التاريخ الإنساني.. إذ كنا نعتقد ان العالم الغربي الذي يتغنى بالديمقراطية و حقوق الانسان و حرية المعتقد ..أنه قطع مع كل اشكال التطرف الفكري و كل اشكال إلغاء ثقافة الآخر..كما كِدنا نعتقد أن الفكر الإنساني قد وسع من هامش " ثقافة قبول " إختلاف ثقافة الاخر…فبالامس سُمح بنشر رسوم ساخرة من رسول المسلمين تحت يافطة حرية التعبير و كذلك سُمِح باحراق نسخ من القرآن الكريم في أكثر من عاصمة غربية تحت نفس المبرر/ الحق.. دون مراعاة شعور كل المسلمين في العالم والسخرية من رموزهم و معتقداتهم.. وضدا في الحق في حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية / الإسلامية…
 
فكلنا يتذكر احتجاجات الغرب وتوسلاتهم و تقديم إغراءات مالية و وُعود بالمساعدات…لحركة طالبان المسجلة " إرهابية " عند عزمها على تدمير " تمثال بوذا " بافغانستان..باعتباره تراثًا إنسانيا..

بالمقابل لم نشهد تلك المنظمات والوجوه الحقوقية والاقلام الديمقراطية…تحتج أو تندد أو تصرخ في وجه ذلك " المعتوه " الذي تجرئ في اول أيام عيد الأضحى بكل دلالاته الدينية والرمزية..بحرقه لنسخة من القرآن الكريم في دولة السويد الديمقراطية و التي تدعي حماية الأقليات وحقوق الإنسان..حيث رخصت بقرار قضائي السماح  بحرق " كبد "  المسلمين أمام مسجد ستوكهولم.. وضدا في المواثيق والقوانين والاخلاقيات الكونية المُهيكِلة لحق و حرية المعتقد…

فلم يعد العقل والفكر الإنساني يقبل بمثل هذه التصرفات المتطرفة الرافضة للآخر.. كما لم يعد المجال متسعًا لتبرير تصرفات مستفزة تنتمي لزمن الطغاة وللعصور الوسطى والفاشية والاستعمار… وتساهم في خلق بيئة حاضنة للكراهية والعنصرية والإقصاء..