لا زالت فرنسا تعيش تداعيات مظاهرات وأعمال عنف وشغب في جل مدنها إثر مقتل الشاب نائل البالغ من العمر 17 عامًا برصاص شرطي للمرور في بلدة نانتير خارج باريس، الثلاثاء 27 يونيو 2023، وتشير بعض التقديرات الرسمية التي تظل مؤقتة، إلى أن أحداث العنف التي شهدتها فرنسا أسفرت عن خسائر مادية جسيمة، منها إحراق مراكز تجارية، وإضرام النيران في نحو 1350 سيارة، و250 مبنى سكنيا. كما خلفت هذه الأحداث إصابات في صفوف عدد من المتظاهرين الذين خرجوا في كل أنحاء فرنسا، كرد فعل على مقتل الشاب نائل وهو في مقتبل العمر.
ويصبح السؤال المطروح بالنسبة لما يقع في فرنسا من شغب ومن عنف متبادل بين المتظاهرين ورجال الأمن والدرك هو:
هل هذه الأحداث التي تقع في فرنسا هي نتيجة تخليها عن مبادئها التاريخية التي جاءت بها الثورة الفرنسية (1792 -1784) والتي هي "الحرية المساواة، الإخاء" (liberté égalité fraternité). أم نتيجة تأثر فرنسا بتيار الليبرالية المتوحشة الجارف الذي يجرد الانسان من انسانيته؟
إن الجواب على السؤالين يجعلنا نستحضر:
أولا: بعض المحطات التاريخية المتشابهة التي مرت منها فرنسا.
وثانيا: علاقاتها بمبادئها الثلاثية التي تؤطر للجمهورية الفرنسية، منذ الجمهورية الأولى، أي" الحرية المساواة الإخاء. "
- فرنسا ومحطات شغب متشابهة والسبب واحد حيث تعيش فرنسا في كل مرة احتجاجات وأعمال شغب تخلف ضحايا كثيرون وخسائر مادية معتبرة. وكلها كانت ضد التمييز العرقي والعنصري وغيرهما، حيث كان مقتل الشاب الأمريكي من أصل أفريقي" جورج فلويد " على أيدي شرطيين في ولاية مينيسوتا في عام 2020 سبب اندلاع مظاهرات وأعمال شغب في فرنسا، كما هو الشأن في عدة دول أوروبية وفي أمريكا، مظاهرات كانت كرد فعل على الحادث المؤلم الذي له حمولة عنصرية وتمييزية ويؤسس الكراهية بين الأشخاص والشعوب. وتعتبر عملية القتل التي حصلت الثلاثاء 27 يونيو 2023 هي ثالث حادثة قتل بإطلاق نار خلال توقف مروري في فرنسا حتى الآن.
ففي العام الماضي 2022، سجلت 13 حادثة إطلاق نار من هذا النوع، وهو رقم قياسي، وفق ناطق باسم الشرطة الوطنية.
وسجلت ثلاث عمليات قتل من هذا النوع عام 2021 واثنتان عام 2020، وفق إحصاء لـ"رويترز"، يظهر أن غالبية الضحايا منذ عام 2017 كانوا من السود أو من أصل عربي؛ وليست هذه الأحداث هي الأولى أو الأخيرة من نوعها التي تقع في فرنسا، بل عاشت يوم 17 أكتوبر عام 1961 أحد أسوأ في تاريخها. وهو اليوم الذي ارتكبت فيه مجزرة ضد متظاهرين جزائريين ومن معهم من المهاجرين مغاربيين وأفارقة وأوروبيين الذين لما خرجوا للشارع في مظاهرات سلمية احتجاجا على حظر التجوّل الذي فرضته السلطات الفرنسية على الجزائريين والمسلمين من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الخامسة والنصف صباحا في باريس وضواحيها.
كما أصدر مدير الأمن أوامر لأصحاب المحلات التجارية والمقاهي التي تقدم خدمات للمسلمين الفرنسيين بالإغلاق يوميًا في تمام الساعة السابعة مساءً. واعتبر وزير الداخلية " موريس بابون" أن المهاجرين الجزائريين ينتمون إلى جبهة التحرير الجزائرية ويساهمون في الدعم الحربي عبر إرسال المال لأعضائها. لقد تظاهر نحو 70000 من الجزائريين في هذا اليوم مطالبين بالحرية والاستقلال لبلدهم وتضامن معهم حوالي 5000 من المهاجرين من مغاربة وتونسيين وسنغاليين وإسبان وإيطاليين. وبذلك تم هجوم شرس على المتظاهرين، حيث تشير تقارير صحفية،" بأن المسيرات السلمية تحولت إلى مذبحة في باريس، بأمر من رئيس شرطة باريس وقتها بإطلاق النار بالذخيرة الحيّة على المتظاهرين، ووقعت مجزرة خلال الليل أمام المقر العام للشرطة،ىمما أسفر عن مصرع نحو 300 جزائري، بعضهم ألقي في نهر السين حياً، منهم طفلة في ربيعها الخامس عشر وأمها معها، وبعضهم سقط في قصر الرياضة، وفي قصر المعارض في «بورت دو فرساي»،لاوقتل العشرات منهم عمداً في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق،كما وقع للكثير من المصابين الذين تجاوز عددهم 2300 شخص فضلاً عن اختفاء 400 شخص، فيما اعتقلت الشرطة 14000 مهاجر كان بعضهم عرباً وأفارقة وأوروبيين وحصل كذلك بعد المجزرة تعذيب للسجناء."
إنه مشهد يعيد إلى الأذهان مستوى الحقد العنصري الذي أبانت عنه الدولة الفرنسية في هذا التاريخ. كما لا تنسى باريس الشاب المغربي ابراهيم بوعرام، الذي ألقي به بشكل جبان في نهر السين سنة 1995 على أيدي عناصر متطرفة من حليقي الرؤوس،" فقط لأنه عربي".
إن أحداث الثلاثاء وما تلاها تعيد إلى الذاكرة ذكرى أعمال الشغب التي وقعت عام 2005 والتي هزت فرنسا لمدة ثلاثة أسابيع حيث أجبرت الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك على إعلان حالة الطوارئ، لما
اندلعت موجة العنف في ضاحية "كليشي سو بوا" بباريس وانتشرت في أنحاء البلاد بعد وفاة شابين صعقاً بالكهرباء في محطة كهرباء فرعية أثناء اختبائهما من الشرطة.