الخميس 6 فبراير 2025
كتاب الرأي

اعتماد سلام: سلام عليك سعدي يوسف

اعتماد سلام: سلام عليك سعدي يوسف اعتماد سلام
كان موعد اتصالي به في الواحدة بتوقيت المغرب، الثانية عشرة بتوقيت لندن. أجابتني زوجته وقالت بحماس: إنه جاهز للقاء. وكذلك كان رغم تعبه بعد مرور بعض الوقت بسبب حديثه بشكل متواصل. 
 
بدا صوته واضحا، فرحا ودافئا، لاشيء فيه يشي بأنه سيخفت إلى الأبد بعد بضعة أيام، يشعرك أنه يعرفك منذ زمن طويل وتشعر أنك تعرفه منذ زمن أطول.
 
مر حديثنا عبر أزمنة متعددة وجغرافيات مختلفة، أولها كانت طنجة التي قال عنها إنه يعرفها أكثر من بغداد. كتب عن طنجة كما كتب عن مدن المغرب المختلفة واستحضر  خلال حوارنا رغبته القديمة الجديدة في أن يصدر اتحاد كتاب المغرب ديوانا يضم جميع قصائده عن المغرب، وهو المشروع الذي قال بابتسامة ساخرة إنه ضاع كما ضعنا.. لكن المؤكد هو أن المغرب شكل جزءا من هوية قصيدته، وكانت جغرافيته رافدا حقيقيا لنصوصه الشعرية مع مرور السنوات.
 
في اللقاء الوداعي دون أن نعلم بذلك، عدنا إلى مولده في حمدان التي غادرها وهو في الرابعة من عمره، وانتقاله إلى البصرة ثم أبي الخصيب وإلى بداية اهتمامه بالشعر في وقت مبكر وحكى لي كيف تعلم بشكل ذاتي العَروض عبر المعلقات وتقطيعاتها، على خطى أبو نواس ابن مدينته الذي فتن بشعره.
 
منذ صغره، كان سعدي يوسف حفّاظ شعر، يحفظ آلاف الأبيات ومئات القصائد عن ظهر قلب، لأن الشاعر برأيه من مسؤوليته أن يحافظ على اللغة وينقلها من جيل لجيل. وقد كان يكرر كلما تحدث عن الشعر هذا القول: "الشعر بستان الله لا يطرد منه أحد ولذلك يتسع قلبي لكل الشعراء" 
 
عندما تحدثنا عن مكتبته أخبرني أن ثلاثة أرباع محتوياتها بالانجليزية لأنه يقرأ بهذه اللغة أكثر من العربية وتأسف لعدم وجود مكتبة عربية في لندن حيث يقيم. وعاب على الدول العربية عدم حرصها على تمويل إقامة مكتبات عربية في عواصم عالمية بقدر حرصها على تمويل مشاريع تجارية.
 
 إلى جانب الشعر، كان أب حيدر يقرأ الرواية بنهم، وفي حوارنا تحدث مطولا عن الرواية العربية واعتبر أنه بعد نجيب محفوظ لم تعد الرواية فنا قائما عند العرب لأن الرواية برأيه تحتاج إلى رافعة اجتماعية واستقرار اجتماعي وهذا ليس متوفرا الآن في معظم الدول، ولذلك يرى أن الرواية العربية ليست في تقدم. 
 
منذ أول دواوينه "القرصان" ظل الشيوعي الأخير، الشاعر الأغزر إنتاجا، لكنه كان يومها قلقا إزاء مكانة الشعر في الوقت الراهن بسبب ما وصفه بالرقابة العمياء التي قضت على الشعر العربي الذي  لم يعد بإمكانه أن يعبر عن شيء بسبب كون الممنوع بات أكثر من المسموح به كما قال، مستثنيا شعره من هذه الحالة لكونه يعيش في قارة أخرى وهو ما مكنه من الكتابة كما يريد، مؤكدا أنه لا يلوم الشعراء إن صمتوا في بلداننا!.
 
انضمت إلينا خلال اللقاء زوجته الدكتورة إقبال الباحثة والمهتمة بالمسرح والتي تقاسمه الشغف بالكتب، وصفت لنا طقوسه أثناء كتابة الشعر وقالت إنه عندما يقف عند نافذة تطلق عليها "شباك التجلي" توجد أعلى الدرج الموجود في البيت، يولي ظهره للحائط ولا يرد تحيتها الصباحية.. فإنها تدرك أنها لحظة مخاض قصيدة، مؤكدة أن سعدي لا يكتب القصيدة على الورق بل يكتبها في ذهنه كاملة، بعدها يدونها على الحاسوب. 
 
سألته عن الاحتفاء بالمكان ولماذا اختار أن يكون شعره للعامة، فقال إن ذلك من أسرار القصيدة، مضيفا بتواضع كبير أنه تعلم ذلك من طفل صغير وأن تلك هي وصفته لكي لا يقع النص في الفراغ أو في اللاشيء. 
 
ولأني عندما التقيته في لقاءات سابقة بعضها في معرض الدار البيضاء للكتاب انتبهت إلى قلادة تتوسطها خارطة العراق تطوق عنقه، فإني لم أفوت الفرصة دون أسأله عنها، فكان جوابه صريحا ومؤلما في الوقت نفسه "إنها كمن يحمل قطعة من النقد الأندلسي، يحملها لأن العراق لم يعد قائما كما لم تعد الأندلس قائمة"!. 
 
في ختام لقائنا، اختار أن يهدي "ديوان طنجة" للقراء، لأنه عن المدينة التي أحبها ويحبها، ولأنه يدعو عبره الشعراء المغاربة إلى أن يكتبوا عن المدن والأمكنة المغربية وأن يستمعوا لمختلف الأصوات لأن الحياة توجد في الملموس لا في المجرد كما قال. 
 
تلك كانت رسالته ووصيته الأخيرة لشعراء المغرب قبل أسابيع من رحيله رغم أنه تمنى في نهاية اللقاء أن يعود قريبا للمغرب ولطنجة وأن يتجول في شارع موسى بن نصير.. 
وها قد مرت سنتان على رحيله. سلاما أيها الولد الطليق، حقائبك الروائح والرحيق!.