الأحد 24 نوفمبر 2024
فن وثقافة

الشاعر محمد بنيس: إسْرائيلُ تَقْـــتُل (*)

الشاعر محمد بنيس: إسْرائيلُ تَقْـــتُل (*)

نُشاهد صورَهم على بعْض شاشات التّلفزة. أبناءُ فلسطينيّي غزة. صورُ القتل الذي لا يتوقف. مع كلّ ساعة جديدة يرتفع عددُ القتلى. إحصاء مفيد لكل من ينسَى أن الحرية في غزة ثمنها القتل، فردياً وجماعياً. تمر الساعات بطيئة لأنّ انتظار كل واحد منا انتظار الذي يرغب في رؤية كواكب المقاومة لا يَستسلمُون. رهانٌ أكبر. شبّان بأسلحة بدائية أو محدودة الفاعلية يصْبرون في التزام أمكنتَهم ولا يتخاذلون. نريدُ أن نراهم يواصلون المقاومة في حرب غير متكافئة، لا بقدرة خارقة ولكن باستعدادهم، وبثقتهم في حقّ كل فلسطيني.

هنا يبدو التاريخ مفتوحاً، على أزمنة وعلى مشاهدَ واحتمالات. تتكرر الصورة التي رسّختها قصيدة محمود درويش عن تاريخ فلسطين، وعن العَابرين في كلام عَابر. تلك هي القولة التي لا تزال مفتاحا لقراءة هذه الحرب التي تهدف إلى إبادة الفلسطينيين. وإذا كانت الهزيمة واندثارُ شعوب معطى تاريخياً فإن ذلك بعيدٌ عن أن يصْدق حتى الآن على الفلسطيني. قرون نستعيدُها في هذه الحرب الموجهة نحو هدف غير معلن: إبادة الفلسطينيين ومعَهم مسألتهم الأولى في الاستقلال والحرية. لينْعم المستسلمُون. أما الكواكبُ الفلسطينية فهي هنا، راسخةٌ في قول "لا" التي تُولد منها النفوسُ الكبيرةُ وتولد منها الشعوبُ الكبرى. ولا ندمَ على موقف مقاوم لم يجدْ بُداً من إعلان رغبته في الحياة.

هل يحتاجُ موقف كهذا إلى خطابات؟ لا، أبداً. فإذا كانت إسرائيل غيرَ معنية باستشارة أحد في إبادة الفلسطينيين، فإن المقاومة بدورها حرةٌ في الوقوف ضد سياسية إسرائيلية تتحدى، منذ نشأتها، الضميرَ العالمي. إنّ المقاومين الفلسطينيين يُواصلون ما كان بدأه أسلافهم. وهم في ذلك أوفياءٌ لتاريخهم العريض وأوفياءٌ لمستقبلهم أيضاً. ليس من شك في أن هؤلاء المقاومين أصبحُوا يُحرجون دعاة السلم الذي لا يعرف أحدٌ من أين يبدأ. حتى الاستسلامُ لوجهة النظر الإسرائيلية غيرُ قابل لبداية السلام. لا يصرّح الإسرائيليون بمشروعهم الأبعد. هذا منْ أكبر ما يهدّد كلّ من يستسلم للخطاب الصهيوني، في الإعلام كما في حفَلات الاستعراض. وهل هذا يهمّهم في شيء؟ أتى الإسرائيليون بوعْد سماوي ومنه عادوا ليوزّعوا الأرضَ من جديد. ما الذي كان سيحدث لو أن كلّ شعب من الشعوب قام اليوم بإعادة بناء الدولة وفق ما كانت عليه في التاريخ القديم؟ بين الفلسطينيين الآن وبين الأزمنة الماضية هذا التاريخ الذي لم يغادرُوا فيه فلسطينَ ولا غابوا عنها. 

مقاومةٌ في غزة. وتستمر لفترة لم يكن أحدٌ يتخيلها. شبان في مواجهة آليات عسكرية مختلفة الأصناف والأحجام، بل مختلفة التأثير في الطبيعة والعمَارة كما في البشر. يسقط مدنيّون، يوميا، بالعشرات خارج المدن الأساسية في غزّة أو في ضواحيها. ثم لكَ هذا العددُ غير المعقول من أطنان القنابل التي يضرب بها الإسرائيليون السماءَ والأرض. كأنهم أتوا في هذه الإبادة بنيّة أن يقتلوا جميعَ المتمردين وغير المتمردين دفعة واحدة. لا سبيلَ إلى الإفلات. لم يأت الإسرائيليون لتحقيق مكسب واحد مُعلن عنه، بل هم يقتلون من أجل أن يقتُلوا. لهم أن يُبيدوا الآنَ فلسطينيي غزة. هكذا قرّروا ولقّنوا العسكريين. والقتل متواصلٌ في ساعات لا ينفصل فيها النهار عن الليل، كما لا يختلف فيها الطفلُ عن الأمهات والشيوخ والشبان.

هل نقول إن المقاومين يجرّون شعبَ فلسطين إلى الفناء؟ هؤلاء الشبان المقاومون يقاومون. لا يعلنون حرباً على إسرائيل، بل هم يختارون لشعبهم الحرية. والحريةُ هنا معناها المقاومة. كل من يظنون أن المقاومة كارثة حلتْ بالفلسطينيين يختارون الطريق المسدودَ لحريتهم. ولم يخطئ العالم وهو يتضامن مع المقاومة في غزة كما تضامن من قبلُ مع المقاومة في لبنان أو يتضامن مع المقاومة في العراق. أكبر ما يواجه الفلسطينيين هوَ التخلي عن اختيار الحرية. وحتى أولئك الذين ينزعجون من المقاومة في غزة لا يتوقفون عن توجيه التحذير لإسرائيل مرة والوعيدَ مرة أخرى. فإسرائيل لا تترك للشعب الفلسطيني سوى خيار واحد هو المقاومة.

مقاومة تختلف عن منطق الدفاع الذي تمارسُه إسرائيل. فالدفاعُ هو الحرب علانية. جيش الدفاع. سلاح الدفاع. حرب تقوم بها إسرائيل وتحْصل فورا على دعْم كل الذين يعتبرونها دولة مقدسة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. 

إسرائيل تقتلُ ولا أحدَ من القوى المهيمنة في العالم يؤنّبها أو يوبخها، حتى لا نذهبَ أبعد ونحلم بأن يحاكمها. قتلٌ تتضاعف أعداده. وشعوبُ العالم تكاد لا ترى شيئاً من الصور. منع الإسرائيليين للصحافة الأجنبية (وحتى الإسرائيلية) في متابعة الحرب، ساعة بعد ساعة، يساعدُ إسرائيل على إخفاء صور بشاعة الحرب وفداحة الضحايا. أعْطني الصور وخُذ الكلام. بهذا ينتصر الإعلام. وعندما نلقي نظرةً على بعض المحطات التلفزية الأروبية والأمريكية نحس أن العالم يسير وفق يومية الأعياد والهدايا والسهرات. صورُ القتل ممنوعة. ثم كلماتٌ سريعة تعلن عن إسرائيل الضحية. ولا نستغرب. فأولُ ما تتجنبه إسرائيل هو الكشفُ عن صورة القاتل التي هي صورتها. إسرائيل دائماً دولة الديمقراطية السّحْرية في الشرق الأوسط. دولة حقوق الإنسان. دولة الحرية الجماعية. ولك أن تضيف.

ثم القتلُ لأهل غزة. جرائم تعدّت البشاعة، ويمكن أن تتحول إلى وثائق تمسّ الوضعية الإنسانية برمتها. الأزمنةُ هنا تختلط ببعضها بعضاً. والأمكنة لا تمييزَ بينها. من يجرؤ على إنكار الوحشية التي يعامل بها الإسرائيليون الفلسطينيين؟ لوْ تم عرضُ صور القتل على العالم عبر الصحافة (بأشكالها) والأنترنيت اليوم، دون إشارة إلى اسم الضحايا، وتركنا المشاهد يعبر بحرية عن ردود فعله عما يشاهد، لاتّضح بكل يقين أن الموقف الإنساني سيكون موقف إدانة جماعية للقتل الإسرائيلي في غزة. ولكنّ الصورة ممنوعة.

(*) شهادة الشاعر محمد بنيس كما وردت على صفحته في الفيسبوك، يوم الخميس 17 يوليوز 2014.