مازال العد التنازلي لنهاية ما يسمى «البوليساريو» مستمرا، وما زال العسكر الجزائري يحصد انتكاساته المتلاحقة في مختلف الواجهات الإقليمية والدولية، لعل آخرها القرار القضائي البريطاني الرافض لإبطال الشراكة التي تربط المغرب ببريطانيا بموجب اتفاق تم توقيعه بلندن يوم 26 أكتوبر 2019 ودخل حيز التنفيذ في يناير 2021، والذي تقدمت به جمعية غير حكومية تنشط حصرا ضد الوحدة الترابية للمغرب، وتخدم حصرا مصالح «البوليساريو».
فقد قضت محكمة الاستئناف بلندن، الخميس (27 ماي 2023)، برفض نهائي ولا يمكن الطعن فيه لطلب استئناف تقدمت به منظمة غير حكومية داعمة للبوليساريو “WSC”، يخص قرارا سابقا للمحكمة الإدارية برفض طلبها الساعي إلى إبطال اتفاق الشراكة الذي يربط المغرب ببريطانيا.
قرار المحكمة البريطانية المنتصر، في العمق، لمغربية الصحراء، يطرح جملة من الملاحظات:
أولا: أنه قرار يلزم جميع المؤسسات البريطانية (الحكومة، مجلس العموم، مجلس اللوردات.. إلخ)، وعليه، فإن أي قرار تتخذه بريطانيا اليوم أو غدا أو بعد غد، لا يمكنه إلا أن يكون منسجما مع هذا القرار القضائي الذي يعتبر اعترافا عمليا وقانونيا بمغربية الصحراء، وذلك بالنظر إلى اتفاق الشراكة الذي يجمع بريطانيا بالمغرب، والذي يتأسس بوضوح على السيادة الكاملة للمغرب على كامل ترابه الوطني، بما فيه الأقاليم الجنوبية، علما أن بريطانيا ليست بدولة نكرة، بل قوة عظمى وعضو دائم العضوية في مجلس الأمن، وقرارها موثق وملزم لها.
ثانيا: الدفوعات التي رفعها الانفصاليون بالمناولة الجمعوية أمام المحاكم البريطانية، والتي تؤكد على ضرورة استثناء ثروات الصحراء من اتفاقية الشراكة مع المغرب، هي الدفوعات نفسها التي دأبت البوليساريو على رفعها في المحاكم الأوروبية قبل مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي «البريكست» أكتوبر 2019). غير أن القرار القضائي البريطاني يذهب بعيدا في ردع الخصوم، ليس فقط على المستوى القانوني والتجاري، بل على المستوى السياسي أيضا، حين يتفوق في منطوقه على الموقف الداعم لـ «مقترح الحكم الذاتي المغربي» «الموقف الذي تتبناه لندن»، ويتجاوزه إلى الاعتراف بالسيادة المغربية على كامل أراضيه، مما يشكل إحراجا للقضاء الأوروبي الذي سيكون، من الآن فصاعدا، في موقف ضعف، خاصة أن القضاء البريطاني يصنفه فقهاء القانون بأنه النظام الأكثر عراقة على الإطلاق. والسؤال هو: هل يضع القضاء الأوروبي نفسه مرة أخرى خارج ما يجري في العالم، وخارج القرار الشجاع والنزيه الذي أسسه القضاء البريطاني؟ هل سيخرج القضاء الأوروبي من منطق الابتزاز إلى رحابة الشرعية الدولية؟
ثالثا: لا يقل القرار القضائي البريطاني أهمية عن الموقف الإسباني الداعم لوجاهة مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي وحيد لتسوية نزاع الصحراء، والموقف الأمريكي المعترف بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية. وإذا أضفنا موقف برلين وبروكسيل وهولندا والليكسومبورغ ورومانيا والبرتغال.. إلخ، فهذا يعني أن هناك «دينامية دولية جديدة» يجري توسيعها على قدم وساق لتشمل الدول المترددة، والكيانات المستفيدة من «الإنفاق الجزائري» المحصور في معاكسة المصالح المغربية، والذي يرمي «أموال الغاز» يمينا ويسارا لعرقلة نمو دولة مجاورة، حسدا وإيغالا في الحقد.
رابعا: من شأن هذا القرار أن يغلق، على مستوى علاقة المغرب ببريطانيا، النقاش حول ثروات الصحراء، خاصة أن الجزائر والبوليساريو دأبت على استعمال ورقة القضاء من أجل معاكسة مصالح المغرب، كما أن بريطانيا كانت، إلى جانب النرويج والسويد ودول أوربية أخرى، تطالب ببطلان اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية، بدعوى أنها تشمل إقليم الصحراء المتنازع عليه، وفي أحسن الأحوال كانت تطالب بمراجعتها بذريعة الكلفة المالية، مما يبقي العديد من الاتفاقات معلقا لسنوات قبل أن يتم تجديده أو توقيع بروتوكول جديد لتمديده. وهو ما كان يضع المغرب في مأزق، بل يعرضه للعبة «ابتزاز» مكشوف تلعبها الدول الأوروبية جميعها بتناغم تام بين الرافضين والمساندين، بدعوى أن «الاتحاد الأوروبي يؤيد حل نزاع الصحراء على أساس قرارات مجلس الأمن». والحال أن اشتراطات الأوروبيين، أثناء تجديد الاتفاقيات الثنائية، تؤكد وجود خليط من السياسات الأوروبية غير المتجانسة نحو المغرب.
خامسا: ومن ذلك أن بعض برلمانات دول أوروبية تصادق على مقترحات في إطار اللجان البرلمانية وتعرضها على البرلمان للمصادقة عليها في شكل توصيات موجهة لحكوماتها لإصدار قرارات مضادة للرباط. ومع أن تلك القرارات غير ملزمة للسلطة التنفيذية في تلك الدول، فإنها مبادرات مدروسة ومخدومة تنبئ بأن المغرب «هدف دائم» للاستعمار الجديد، وهذا ما نجده حتى على مستوى البرلمان الأوروبي الذي اتضح جليا أنه خاضع للوبي مناهض للمغرب ولمنجزاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
سادسا: ردة فعل المنظمات «الحقوقية» الدولية حيال قرار القضاء البريطاني تؤكد بالملموس مؤامرتها الصامتة والمؤدى عنها على المغرب. فقد تعودت هذه الجمعيات «هيومن رايس ووتش، أمنستي، منظمة كينيدي للديمقراطية وحقوق الإنسان.. إلخ» على الهجوم على المغرب، وتدبيج البيانات وصياغة التقارير التي تصب كلها في عقيدة واحدة معادية له وقائمة على تبخيس جهود آلياته الوطنية، وإظهاره بصورة الغارق في الاستبداد وقهر العباد، والحال أنها تصمت عن انتهاكات الجزائر التي تؤكد كل المؤشرات، على أنها دولة عسكرية أوليغارشية محصورة في يد طغمة عسكرية واستخباراتية فاسدة، بينما تقدمها تقارير تلك المنظمات على أساس أنها «دولة فاضلة» أو في أحسن الحالات على أنها دولة شبح، ولا شيء يستحق القول في شأنها.
سابعا: لقد سبق للمغرب أن أفشل باقتدار عسكري كبير ورقة معبر الكركرات التي لعبها وخطط لها جينرالات الجزائر في 13 نونبر 2020، إذ تم تطهير المعبر الذي يربط المغرب بعمقه الإفريقي، وأحكم مراقبته وسيطرته عليه. كما سبق له أن أفشل مخططات تحويل جامعاته إلى محضنة لتفريخ الانفصاليين، وإذكاء روح التمرد لدى انفصاليي الداخل في مدن العيون والسمارة وأسا والزاك والداخلة وأوسرد، فضلا عن إسقاطه للورقة الحقوقية حيث أن جميع التقارير الأممية أصبحت تعلي من شأن العمل الكبير الذي تقوم به اللجن الجهوية لحقوق الإنسان في أقاليمنا الصحراوية. وها هو يفشل الآن ورقة القضاء، ليس في جمهورية الموزمبيق، ولكن في قلب دولة عظمى اسمها بريطانيا. وهو الأمر المحرج للاتحاد الأوروبي الذي منح للبوليساريو الأهلية القانونية لرفع دعاوى على المغرب أمام محكمة العدل الأوربية. والحال أن المغرب بات يدرك أكثر من أي وقت مضى أن قرار المحكمة الأوروبية ينبني على «اعتبارات مخدومة»، وأن المغرب ضاق ذرعا بالابتزاز الذي تنهجه بعض الأطراف، وعلى رأسها فرنسا، لتبقي الوضع على ما هو عليه بشأن الصحراء، لأنها تعتبر أن التسوية النهائية لهذا النزاع ضرب لمصالحها الاستراتيجية في القارة السمراء وشمال إفريقيا.
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"