السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عادل حدجامي: حتى الملك خريجُ كلية الحقوق...

عادل حدجامي: حتى الملك خريجُ كلية الحقوق...

عندما اعتلت حكومة السيد بنكيران وأعضاء حزبه السلطة التنفيذية أول الأمر، كان أحد أصدقائي قد قال كلمة وجدتها حينها عميقة: "هذه حكومة حزب لا مفكّر له، وهذا أخطر أنواع الأحزاب". قد تبدو  الملاحظة غير ذات شأن، لكنها بدت لي حينها غاية في العمق، فنحن أمام حزب لا فكر، بالمعنى السياسي، يحكمه.. فكل الأحزاب لها منظرون ومفكرون وشعراء وصحافيون بارزون يدافعون "إيديولوجيا" عنها، إلا هذا الحزب. تذكرت هذا الأمر وأنا أقرأ باستغراب وتفكّه ما تفوه به السيد وزير "التعليم العالي والبحث العلمي" من كلام في حق ما أسماه "الأدبيين" -هكذا-  في المغرب.

من المفروض في من يعتلي منصب البحث العلمي أن يكون شخصا رصينا باحثا راكم سنوات من الخبرة في مجال البحث العلمي، وأن تكون له مؤلفات وأبحاث مشهود لها علميا، أن يكون حجة في مجاله، وهو ما من شأنه أن يجعل المسئول رجلا حكيما منزّها عن الرعونة والنزق في التصريحات والأحكام. لكن لا شيء من هذا حاصل مع السيد الداودي "وزير التعليم العالي"، فلا نعرف له بحثا علميا مرجعيا ولا كتابا رصينا يُستشهد به، كل ما نعرفه عن الرجل أنه ناشط حزبي وأنه كان أستاذا في شعبة "أدبية" أكثر منها علمية (بمنطق القسمة الثنائي البائس للسيد الوزير)، تخلى عن الجامعة المغربية في فترة عصيبة من مسارها وهي فترة المغادرة الطوعية، على عكس أساتذة آخرين ظلوا مرابطين صامدين دفاعا عنها، ثم بعدها عاد على حين غرة ليصير المسئول الأول عن قطاع غادره اختياريا مقابل التعويض السمين إياه.

ما المثير في تصريحات السيد وزير "المغادرة الطوعية" السابق؟

ليس فقط حجم العبث الذي في تصريحات مثل هذه، ولا التناقضات التي يحملها، إذ لا نعرف حزبا أو وزيرا في الشرق أو الغرب قال يوما إن كليات الحقوق والآداب "خطر".. فكل الناس تعرف أن رجال القانون والقضاء والمحامون ورجال الأمن والإدارة والمترجمين وأساتذة اللغات والإعلاميون كلهم من خريجي كليتي الحقوق والآداب، ولا نعرف دولة في العالم -حتى كوريا الشمالية- يمكنها أن تستغني عن هذه التخصصات.. وليس المثير فيها سكوت الوزير عن مؤسسات وشعب جامعية أخرى تتقاسم معه خلفيته الإيديولوجية والتي تبذل لها الدولة أموالا طائلة دون أن نعرف لها "نفعا" تقنيا مباشرا كذلك الذي يريده الوزير، من مدارس التعليم الأصيل إلى كليات الشريعة وأصول الدين ناهيك عن شعب الدراسات الإسلامية التي أنشأتها وزارة الداخلية ذات ثمانينيات في كل كليات الآداب بالمغرب، دون أن ننسى الكليات الدينية العتيقة منها والحديثة مثل دار الحديث الحسنية التي جدّد مقرها أخيرا بشكل خرافي كلّف مليارات، وها نحن نرى خريجيها يعتصمون بحثا عن الشغل.. وليس أيضا تناسي السيد الوزير أن شعب العلوم في المغرب ليست أقل "تخريجا" للعاطلين من غيرها، فنصف عاطلي المغرب اليوم هم خريجو شعب الجيولوجيا والرياضيات والفيزياء الذين ليس لهم في الغالب إلا أن يطرقوا باب التعليم ليصيروا مدرسين لنفس المواد حتى يجدوا عملا.. ويكفي السيد الوزير أن يطلع على عدد الملفات التي تقدم لمدارس المعلمين والأساتذة سنويا في مواد الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء ليتأكد.. وليس ما يزعجني في هذا الأمر أيضا ما يشي به مثل هذا التصريح من "ظلامية" مبطنة، فلا يعادي الفكر والأدب والفنون والقانون إلا الإرهابيون وعتاة الرجعيين، وهو ما يذكر، وعن حق، ببعض المواقف التي لا ترى في حزب الوزير إلا نسخة "لايت" عن الفرق التكفيرية التي كان بعض منظريها يقول "لا نحتاج غير الفقه والفيزياء، الأولى لنحكم الناس والثانية لنصنع القنابل".. وليس ما يثيرني كذلك حتى حجم السخف والعته في التصور الشخصي لرجل برتبة وزير مازال لم يتجاوز منطق تلميذ في الثانوي يفكر بمنطق شعب "العلمي" و"الأدبي".. والحال أن هذا مجرد تقسيم بيداغوجي ظرفي وإلا ففي العلوم آداب وفي الآداب علوم، وأن لا إنسان سوي نفسيا يمكن أن يكون علميا دون شيء من الآداب، أو أدبيا دون شيء من العلوم.. فالتلميذ القوي في العلوم قوي في الآداب غالبا والعكس صحيح. لهذا فقانونيا شعب الطب مفتوحة في وجه الأدبيين والعلميين سواء بسواء.. وفي دول كثيرة لا توجد هذه التقسيمات الثنائية، كما هو الشأن في نظام "الثانوية الكلاسيكية أو الموحدة" في دول أوربية كثيرة.. كل هذه الأمور على أهميتها لم تثرني، بل كان ما أثارني هو كون تصريحات الوزير تعلن عن رغبة دفينة لاواعية في "قتل" السياسة.. وهو ما ذكرني بالملاحظة التي أثارها صديقي والتي ابتدأت بها الحديث "هذا حزب لا منظّر سياسي له، أعمى سياسيا، وهذا أخطر أنواع الأحزاب".

إن ما أراد أن يقوله الوزير، سواء وعى بذلك أم انعكس عليه دون أن يعيه، من خلال هذا التصريح، هو أن المسألة السياسية مع هذا الحزب انتهت، وزمن النقد والتحليل انتهى، لهذا فلم تعد البلاد محتاجة إلى منظرين ولا مفكرين ولا أصحاب تكوين نقدي من أي نوع، فبما أن كل شيء حسم سياسيا وأن الرهان الإيديولوجي انتهى، بالنسبة له، فلم نعد نحتاج إلا إلى مطبّقين، أي إلا إلى خريجي معاهد التكوين المهني والحرفيين الذين ينفذون مهاما تقنية محددة ويحلون مشاكل تدبيرية معينة.. فكل الطموح الاجتماعي والسياسي لشباب المستقبل ينبغي أن يكون هو إيجاد وظيفة في مؤسسات "للتدبير المفوض الأجنبي" أو مستخدم تقني في معامل "داسيا" في انتظار نهاية الشهر دون أن يضعوا موضع تساؤل النظام العام الذي يحيون فيه، ما نريده اليوم من المواطنين وأبنائهم هو أن يصيروا "قطع غيار" في نظام وليس خريجي كليات علوم إنسانية أو حقوق مثقفين سياسيا يحللون معنى السياسة أو بنود الدستور أو بنية هذا النظام سياسيا، ما نريده هم كائنات وديعة تعمل وتنام وتضحك مع برنامج "كوميديا شو" وتترك الفكر تدبير الشأن العام لنا نحن، إذ أن السيد الداودي، بعد أن صار وزيرا، صدّق الأمر وأصبح يعتبر نفسه، في انتظار انتهاء "بطاقة التعبئة" الحكومية الجديدة،  هو أيضا من هذه "النحن".