يتمثل الرهان الأساسي والحيوي حاضرا ومستقبلا في المغرب، بصرف النظر عن تحديات وتداعيات الجفاف الحاد والآثار السلبيةللتغيرات المناخية. وعدد من الأزمات والحروب الناشبة في أكثر من منطقة. وبصرف النظر أيضا عن مسارات الديناميات الإجتماعية والسياسية والإصلاحات الجزئية ومآلاتها هنا وهناك. أقول يتمثل هذا الرهان بالدرجة الأولى في هندسة وبلورة شكل آخر للوطن بدءا باستئصال الفساد والهشاشة والفقر. وتقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمجالية. ومحاربة اليأس والإحباط وعدم الثقة، كظواهر باتت تنخر فئة الشباب بشكل خاص. وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وقطع دابر الانتهازية. والقطع أيضا مع معادلة السياسة مقابل الثروة. وإعادة الإعتبار للكفاءات ذات المصداقية .فلا قيمة لأي إصلاحات دستورية وسياسية، ومؤسساتية إذا لم تكن مصحوبة بقرارات جريئة لتقويم الاعوجاجات التي طالت أساليب التدبير والتسيير. وراكمت انحرافات بنيوية وأخطاء قاتلة. واحتواء الاختلالات التي مست النموذجين، الاقتصادي والاجتماعي. ووضع حد للانحطاط السياسي ابذ بلغ درجة غير مسبوقة تكاد تعلن الموت المبرم للسياسة. وفشل الاختيارات المتبعة في القطاعات الإستراتجية والإجتماعية الأساسية خاصة التعليم والصحة والتشغيل والإعلام والثقافة. ومن هنا تطرح بشكل جدي وحتمي ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في ترتيب الأولويات وصياغة الإستراتيجيات، وفي مقدمة تلك الأولويات اعتبار البحث العلمي بكل أنواعه اختيارا استراتجيا لارجعة فيه، والتعاطي مع قطاعي الصحة والتعليم بمنظور جديد ومغاير تماما، منظور يتأسس على كون الصحة والتعليم هما حصانة ومناعة وحماية وقوة مجتعنا وبلادنا،. وهما الضامنان للسيادة الصناعية والأمن الغذائي. كما أن إعادة النظر في السياسة الإجتماعية أصبحت مسألة حيوية ومركزية. ومن هنا يتعين التفكير في حزمة إجراءات ذات أفق استراتجي فيما يتعلق بقضية التشغيل وتحسين مستوى عيش شرائح اجتماعية عريضة، كشف وباء كرونا المستجد في ذروة تفشيه، عن حجم التحديات التي تطرحها هذه الشرائح أمام الدولة والمجتمع على حد سواء. وإذا كانت الهشاشة ومختلف أشكال الخصاص والعلل والسلوكات العنيفة، هي الخاصية التي تطبع جزءا لايستهان به من مجتمعنا، فإن الوضع يزداد تعقيدا وتداخلا وترتفع معه كلفة أي إصلاح أوتأهيل. وفي هذا السياق ينبغي تحيين البراديغمات التي اشتغلت وتشتغل بها مجموعة من المؤسسات. لأن المعطيات الراهنة والمتغيرات التي أفرزتها جائحة كرونا ومجموعة من الأزمات والحروب الناشبة في أكثر من منطقة. اخرها جمهورية السودان. تستدعي إدراج وادماج كل هذه العناصر والاقتداء بها والتفكير بتفاعل معها. ومادمنا بصدد الحديث عن الظرفية الحرجة والدقيقة التي تجتازها بلادنا متمثلة في ارتفاع أسعارعدد من المواد الأساسية والمنتجات الغذائية والصناعية. فإن نفس المعايير يجب أن تنطبق على الإقتصاد المغربي، فهو مطالب بالتكيف مع الأوضاع العالمية المستجدة كيفما كانت نتائجها وآثارها الجانبية. وظهر جليا أن مبدأ السيادة الاقتصادية والإنتاجية عنصر أساسي في مواجهة الكوارث والأزمات، خاصة عندما تغلق الحدود وتشل حركة النقل الجوي وتعطل دورة الإنتاج في العالم برمته.
ولاحظنا كيف قفز مفهوم الدولة الوطنية ودولة الرعاية إلى الواجهة، وانصب الإهتمام عليه بشكل غير مسبوق، خلال احتدام أزمة كرونا. فحتى عتاة النظام الرأسمالي وأنصار إقتصاد السوق وخوصصة كل شيء، والجيل الجديد من الشعبويبن اليمنيين، اقتنعوا بأن القطاعات الاجتماعية الأساسية يجب أن تبقى تحت سيادة الدولة. وظهر أيضا أن القطاع الخاص، بدون سند ودعم وحماية الدولة لن تكتب له الحياة ولن تضمن له الاستمرارية، وهذا ما يطرح على هذا القطاع، إحداث تغييرات عميقة في سلوكه الاقتصادي وعلاقته بالمجتمع والدولة، وفي القيم التي تمثلها والعادات التي درج عليها. لأن الأرباح مهما كانت ضخمة وكبيرة، لن تكون لها أية دلالة إيجابية، إذا لم تساهم مقاولات ومؤسسات القطاع الخاص، في تقوية ودعم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وترجمة التضامن الوطني على أرض الواقع، عبر ضمان حقوق الأجراء وتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية.
وبعلاقة مع الظرفية الحالية، الحبلى بعدد لايحصى من الصعوبات والاكراهات. وماتتطلبه من تعبئة ووحدة وتضامن وتماسك، أعتبر أنه مهما بلغت التنافسات السياسية والصراعات الفكرية والإيديولوجية من حدة وضراوة بين مختلف الفاعلين والمرجعيات والفرقاء السياسيين في بلادنا، فهناك قواعد ومقتضيات يجب الاحتكام إليها، لتجنب الانزلاقات، والحيلولة دون الوقوع في اخطاء مدمرة، قد تضعف المغرب وتعيده خطوات إلى الوراء ، ومن هذه المقتضيات، خدمة الوطن والمواطنين، والدفاع عن المصلحة العامة،والانصات إلى نبض الشارع .والتعامل بجدية وبحس استباقي مع مختلف المطالب والمشاكل، فالالتزام بهذه المقاربة في سلوك وممارسة الفاعلين والمسؤولين على اختلاف مواقعهم، قادر على وقف عدد من المظاهر المسيئة لأي تجربة ديمقراطية صاعدة ،وقادر على تعزيز المصداقية والثقة في مختلف المؤسسات.
تأسيسا على هذه المؤشرات والمتغيرات، أرى وبكل صدق أن المغرب وبقوة الواقع والوقائع، مفروض عليه بناء مشروع وطني من خلال تعاقدات واضحة، وقواعد عمل دقيقة. واختيارات وتوجهات متفق عليها، والهدف الجوهري من وراء إعتماد هذا المشروع التاريخي، هو التأسيس لممارسة بديلة مبنية على الوفاء للمبادئ الكبرى المرتبطة أساسا بالمصداقية والمواطنة والوطنية المغربية والديمقراطية والعدالة والحداثة والتنمية الملموسة والناجعة، الكفيلة بإحداث تحولات نوعية على كافة المستويات. خاصة في ظل إعادة صياغة جيو-استراتجية عميقة للخريطة العالمية.
إن بلورة مشروع وطني جديد في السياق الحالي، ضرورة حيوية وحتمية سياسية واجتماعية ووجودية، لضمان اشتغال سليم وناجع ومغاير للدولة والمجتمع وكافة المؤسسات وللديمقراطية أيضا، مع ما يقضيه ذلك من صراحة وصدق وشفافية ووفاء وشجاعة واستقلالية واحترام لمختلف التعاقدات والآراء. دون إقصاء أواستثناء أو تهميش.
إن التفكير بأفق إيجابي، مستند إلى إرادة التفاؤل فيما يواجهنا وسيواجهنا من مشاكل وأزمات، الهدف منه بالدرجة الأولى تجاوز أزمة المصداقية والثقة التي باتت تشكل ثغرة كبيرة في بلادنا، خاصة على المستوى السياسي والمؤسساتي، والعمل على تفادي الكسل السياسي والفكري، والعقم في إنتاج المبادرات واقتراح الحلول واجتراح المقاربات والمشاريع المقنعة بأهدافها ونتائجها.
الآن ربما أصبحت الشروط ناضجة، ومختلف السياقات المحلية والإقليمية والدولية تدعو بشكل ملح إلى الاشتغال من الآن على إعادة وصياغة المفاهيم والقيم والعلاقات، وطرق التشريع والاجتهاد في بناء المشروع الوطني الجديد والكبير، القادر على إحداث سلسلة من الانتقالات الجريئة والمفيدة بكل المقاييس، بعيدا عن التأويلات غير السليمة التي يمكن أن يمليها ماهو موجود في واقعنا المقلق، والذي إذا لم يواجه بمشروع من هذا النوع والحجم، فإنه لن يشجع سوى على اليأس والشعبوية والبلطجة السياسية وعدم الثقة في المؤسسات،بما في ذلك مؤسسات الوساطة على اختلاف مستويات تدخلها وتأطيرها ،و العزوف والنفور من العمل السياسي. كما أن الظرفية الحالية بكل تعقداتها وامتداداتها وما تحمله من أسئلة مربكة تطالبنا بتبني طرق تفكير وتنظيم وتأطير وتواصل جديدة ومبدعة وفعالة، تفهم الواقع وتقرأه في كل المناحي والمسارات ،وتفكك معطيات ومستجدات المناخ الإقليمي والدولي على اعتبار أن المغرب ليس جزيرة معزولة عن العالم.
عبد الصمد بن شريف/ صحافي وكاتب