يبدو أن الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة التي تشهدها فرنسا بمناسبة إصلاح منظومة التقاعد اضرت بالسياسة الخارجية لفرنسا، وزادتها ضعفا خاصة في اوربا وافريقيا. ولم يعد كتاب الافتتاحيات يترددون حتى في الصحف اليمينية المقربة من دوائر القرار في ابراز هذا الفشل وهذا الارتباك الذي يمس السياسة الخارجية بفرنسا، التي راكمت الفشل مند انتخاب الرئيس ايمانويل ماكرون سنة 2017 وتراجع دور فرنسا الدولي. بل يقول أحدهم وهو لوك دو باروشيز، رئيس تحرير قسم "العالم" بمجلة لوبوان الذي كتبمؤخرا «انالديموقراطية الفرنسية هي مريضة اليوم"، وتابع في نفس الاتجاه وفي نقده اللاذع لسياسة الرئيس داخليا وخارجيا بالقول «أي رئيس يدعي إعادة بناء أوروبا، أو حتى تغيير العالم، يواجه أسوأ الصعوبات عندما يتعلق الأمر بإصلاح فرنسا"، متسائلا "كيف تحافظ على مصداقيتك على الساحة الدولية بمشروع إصلاحي وأنت لا تعرف حتى كيفية ترتيب بيتك الداخلي؟". وأشار كاتب الافتتاحية إلى أن "حلقة السترات الصفراء في سنتي 2018-2019، ثم الفوضى التي أحدثها مشروع إصلاح التقاعد عام 2023، كشفت عن الواقع المظلم: رئيس جمهورية مشلول على الساحة المحلية، وفرنسا مثقلة بالديون، والحكومة غير قادرة على السيطرة على المالية العامة، والديمقراطية الفرنسية مريضة".
بالنسبة لكاتب هذه الافتتاحية فان الفشل الكبير الذي تعرفه السياسة الخارجية لفرنسا اليوم يعود الى التدبير السيئ لشؤون الداخلية لفرنسا، وعدم قدرة فريق الرئيس على وضع سياسة داخلية ترضي الفرنسيين قبل التوجه الى الخارج.
لمشاكل الرئيس على المستوى الدولي لا تنتهي، فبعد تصريحه لاحد الجرائد الفرنسية البارحة، وفي أعقاب زيارة قام بها إلى الصين دعا ماكرون أوروبا إلى عدم "الدخول في منطق الكتلة مقابل الكتلة".وعدم التبعية في سياستها لأمريكا، الرد الأميركي لم يتردد، واذا كان ديبلوماسيا من طرف الناطق باسم البيت الأبيض، فانه لم يكن كذلك في الصحافة الأميركية وقالت صحيفة نيويورك تايمز في مقال تحليلي لزيارة الرئيس الفرنسي إلى الصين إن زيارة ماكرون "تقو ض" الجهود الأميركية الرامية لاحتواء نفوذ النظام الاستبدادي بقيادة الرئيس الصيني شي جينبينغ.السناتور الأميركي ماركو روبيو تساءل هل يتحدث الرئيس الفرنسي باسم الأوربيين. بعض النواب الاوربيين اعتبروا أن هذه التصريحات لم تكن مناسبة أو لم تأتي في الوقت المناسب خاصة في وقت تحتاج اوربا لأمريكا في الحرب الروسية الأوكرانية.
من المؤكد أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عند انتخابه في العهدة الأولى كان محل اعجاب جزء كبير من الفرنسيين والاوربيين خاصة في خطاباته حول اوربا ووحدتها، وقدرة فرنسا على ريادة قطب اوربي مقابل قطب الولايات المتحدة الأميركية والصين، خاصة ان اوربا كانت تعاني في ذلك الوقت من نتائج سياسة البريكسيت البريطانية وقرراها بمغادرة اوربا. كان الجميع ينتظر دفعة جديدة لهذا التكتل والجميع وضع امله في قيادة فرنسية جديدة وشابة تخرج القارة العجوز من سياستها المترددة والمحافظة في وضع سياسة استراتيجية مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان انتخابه لأول مرة هو امل للأوربيين وللعالم بنهاية الكابوس القومي الشعبوي الذي بدأ يزحف على اورباوأمريكا. لكن بعد ست سنوات وإعادة انتخابه، فان التيار الشعبوي بفرنسا نفسها أصبح يتوفر على أكبر فريق برلماني بتاريخ الجمهورية الخامسة، بحوالي 90 نائبا، بل ان بعض خصومه السياسيين مثل فرنسا االابية لا يترددون في اتهامه بتقوية الشعبوية التي مكنته من الفوز بعهدة ثانية رغم عدم توفره على اغلبية كافية داخل الجمعية الوطنية.
فشل اختيارات ايمانيول ماكرون برزت على الخصوص مع الحرب الروسية على أوكرانيا، وخطأ تقديراته في التعامل مع فلاديمير بوتين واعتقاده في الوعود المقدمة من طرف الرئيس الروسي، يقول كاتب الراي الفرنسي لوك دو باروشيز " ماكرون فوت لحظة مع التاريخ، عندما فشل في إظهار ما كانت عليه أوروبا ذات السيادة قادرة على فعله في الحرب الروسية الأوكرانية".
وأضاف أن الرئيس الفرنسي "فشل في أخذ زمام المبادرة في دعم أوكرانيا، رغم أن فرنسا تولت رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، مسجلا أنه "لفترة طويلة كان يعتقد ماكرون أنه يمكن أن يؤثر على مسار الأحداث من خلال حوار حصري مع فلاديمير بوتين، ولم يقدر المدى الذي ستؤدي به الحرب إلى زعزعة التوازنات الأوروبية، كما أنه فشل في تشكيل فريق مع المستشار الألماني أولافشولتز".
والنتيجة، وفقا للكاتب،" هي أن الولايات المتحدة، بالاعتماد على بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وبولندا وأوروبا الوسطى، تولت قيادة الدفاع عن أوكرانيا وبالتاليعلى أوروبا". وهو الدور الذي كان على فرنسا أن تلعبه.
وهو انتقاد لاذع لسياسة ماكرون الأوربية التي كانت عاجزة على قيادة المبادرة في حرب فوق التراب الأوربي ولجوء واشنطن إلى بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوربي، وإلى دول أوروبا الوسطى وعلى رأسها بولونيا من أجل وضع لاستراتيجية الحرب الأوكرانية الروسية.
واستمر كاتب افتتاحية لوبوان في انتقاد السياسة الخارجية لفرنسا والتي يقودها الرئيس ايمانويل ماكرون مند انتخابه معتبرا ان " التناقض بين الطموح المعروض وضعف النتائج لا يمكن أن يكون أقوى، مسجلا أن أخطاء ماكرون في التحليل، "كما هو الحال عندما اعتقد أنه يستطيع ترويض دونالد ترامب، أو كبح جماح فلاديمير بوتين، أو إقناع أنجيلا ميركل، أو التوفيق بين الفصائل الليبية أو إخضاع حزب الله اللبناني، وهي كلها نتائج سلبية قوضت حصيلته". في السياسة الخراجية لبلده.
هذا بالإضافة إلى أن الكاتب رصد الأخطاء وردود الفعل المتسرعة في هذه السياسة أبرزها المواقف "المتغيرة" لماكرون، مثل قوله عام 2019 أن حلف شمال الأطلسي أصيب ب «الموت الدماغي"، والتي "صدمت شركاء فرنسا وأضرت بسمعتها".
وأشار إلى الملفات التي فشل فيها الرئيس، من قبيل إلغاء أستراليا عقدا ضخما لشراء غواصات فرنسية لصالح الغواصات الأمريكية، أو مثلما أجبرته الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل على وضع حد لعملية "برخان" مكافحة الإرهاب التي أطلقها الرئيس السابق فرانسوا هولاند."
هذا الفشل عكسته وضعية فرنسا اليوم عسكريا وسياسيا بمنطقة الساحل، بعد خروجا من مالي وبوركينا فاصو وهي معاقل تاريخية لباريس بحكم الماضي الاستعماري، بالإضافة إلى تدهور سياسة باريس مع بلدان المغرب العربي، سواء سياسة شبه القطيعة بين باريس والرباط مند أكثر من سنة، وسياسة الكر والفر بين فرنسا والجزائر دون أي استقرار، وسياسة غير واضحة تجاه تونس. وهي سياسة مرتبكة افقدت فرنسا حلفائها التقليدين بالمنطقة. وهي حصيلة كارثية بالنسبة لسياسة الخارجية لفرنسا في السنوات الأخيرة.