الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

إدريس جـبـري: المحاكمات التاريخية بين معرفة القانون وممارسة البلاغة في أوراق محمد الصديقي

إدريس جـبـري: المحاكمات التاريخية بين معرفة القانون وممارسة البلاغة في أوراق محمد الصديقي ادريس جبري (يمينا) ومحمد الصديقي
مُحاكَمة رَبِّ السّجنُ أَحَبُّ إِليّ...بين تشاؤم الواقع وتفاؤل الإرادة
...لم يكن عبد الرحيم بوعبيد شخصية عادية، بل كان شخصية فريدة بكل المقاييس، ومدرسة كبرى للوطنية والتقدمية، مع بُعد النظر العميق في كل ما له علاقة بالسياسة، وكذا بمختلف مناحي الحياة. كانت له دراية واسعة بالقانون وفلسفة القانون، كان رجلا سياسيا كبيرا. كان رجل الالتزام والمبادئ والأخلاق حتى في ممارسة السياسة، وخاصة في ممارسة السياسة"، (من أوراق محمد  الصديقي، ص25)
..."كان بوعبيد يُفضل أن ينتصر بالنقط. لم يكن يؤثر أبدا أن ينتصر على خصومه بالضربة القاضية. ومن ثم روحه السمحة، ولبونة لمساته، ولغته الدبلوماسية، وحرصه على الإشارات، والإيماءات السياسية، والتلميح لا التصريح...كان فنانا في ممارسة السياسة، وكانت السياسية لديه فنا للممكن. (الراضي، المغرب الذي عشته، ص562-563) 
 
1-1 محاكمة بوعبيد والصحراء المغربية (محاكمة رأي) ربّ السجن أحب إليّ....
تنوير: طَللٌ جيلٍ لِجيل (شَهادةُ مَن لا تُقبلُ شهادتُه)
تحدث الأستاذ الصديقي في أوراقه على مهام ذات طبيعة حزبية، أوكلت إليه، كَرها، وذات خصوصية سياسية حساسة، وتبعات مكلفة. منها، أولا، توليه المفاجئ لمهمة سكريتارية صحيفة التحرير من سنة 1961 إلى سنة 1963، الناطقة باسم حزب معارض جحود، وفي أجواء مشتعلة، خلفا للمرحوم محمد عابد الجابري، لم أولد بعد لأعيشها وبالتالي لأعلق عليها، أو أتحدث عنها، فضربت عنها صفحا، وطويت عنها كشْحاً، كما يقال، ومنها، ثانيا، تحمُّله لمسؤولية الإعلام الحزبي من سنة 2003 إلى سنة 2006 وإشرافه على جريدة الحزب "كمدير مسؤول عن الإدارة والتسيير والتحرير" (ص66)، وبشكل تطوعي، بحافزه النضالي. إطفائي في زمن الحرائق الضخمة. وثالثا، تُوليه لمهمة أمانة الحزب، بصفته عضوا في المكتب السياسي للحزب من سنة 2001 إلى سنة 2008 (انظر أحاديث فيما جرى، لليوسفي). في هذه الفترة التاريخية صرت عضوا بالمجلس الوطني للحزب، وأشهد في حدود ما كانت تسمح به الرؤية حينها، وحين نلتقي وقد حصل لمرات معدودات، وأنا أعرفه وأُقدّر مقامه، وهو لا يعرفني وما ينبغي له، وقد رسمت له صورة من بَعيد، بعدما سمحتُ لنفسي أن أَطلق لخيالي العنان، فحسبته مرة رجلا يتنفس في خُرم إبرة، يمُر عليك مثل الريح، وكأنه في مهمة مستعجلة. إذا صادفته أو صادفك، يسلم مُدمدما كأنك أقلقت راحته، ثم ينصرف كأنه تخلص من عبء هو في غنى عنه، ومرة أخاله رجلا من طينة "بدوية" منعزلة. خجولا كان يمشي ملتصقا بأول جدار، وعيناه مغروزتين في الأرض، وكأنه فقَد لسانَهُ، وامتلأ فمُه ماءً.
غير أن التقرير المالي (اللغوسLogos ) الذي أعده الأخ محمد الصديقي في المؤتمر الوطني السابع وألقاه، بثقة وأناقة وهمة، بعد مؤتمر وطني سادس(2001)، انفرطت كثير من حبّات سُبْحته، والطريقة التي عرضه بها على المؤتمرين والمؤتمرات وقتها، بخطاب زينه بإحصاءات متناهية الدقة، بمداخيله ونفقاته، وفائض غير مسبوق، فضلا عن أداء خطيب سياسي محترف، ببذلة عصرية منتقاة ورابطة عنق غامقة على قميص أبيض لجلال الحدث، وبنبرات حنونة واثقة قصد التأثير على المؤتمرين، وإقناعهم بما أنجز (الإيتوسEthos ) مع أنه كان غير معروف عند كثير من المؤتمرين ممن أعدهم، مقارنة مع غيره من قادات الحزب من الأجيال المختلفة، كل ذلك جعل قاعة المؤتمر بآلاف المؤتمرين تمنحه ثقتها وعن طيب خاطر و تهتز تصفيقا، ما يزال أزيزه يتردد في أدني (الباتوس(Pathos . كانت تلك شهادة على أمانة الرجل، ونظافة يده، وعفاف لسانه، ونزاهة الفكر... ومرت مياه كثيرة تحت الجسر لا تسمح بالسباحة في النهر مريتن، وذهب كثير ممن نحبهم، وبقي سي محمد الصديقي شامخا في النهر الخالد للاتحاد...وما مرافعته التاريخية عن قادات هذا الاتحاد وأطره الحزبية والنقابية، سوى دليل إضافي على شموخ الرجل، ووفاء المناضل، وإيمان الحقوقي، وشجاعة المحامي، وجرأة الصادق الأمين. ومرافعة النقيب في محاكمة سي عبد الرحيم بوعبيد، بمساره التاريخي الوطني والنضالي والاعتباري، ومن معه من رموز الحزب وعلاماته البارزة، وخاصة في موضوع الصحراء المغربية وحساسيته عند المغاربة قاطبة، وفي مقدمتهم قيادات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكتابه الأولين من عبد الرحيم بوعبيد، فعبد الرحمان اليوسفي فمحمد اليازغي، وعبد الواح الراضي إلى إدريس لشكر. وهم على العهد باقُون، ولقَسمِ المَسيرة وَافُون.
 
1-2عبد الرحيم بوعبيد الرائد الذي لا يكْذبُ أهلَه والخَطر المحسوب
كثيرة هي المحاكمات التي تحمل عبئ المرافعة فيها الأستاذ النقيب محمد الصديقي، ومتنوعة هي أشكال القضايا التي رافع فيها، خاصة تلك التي وسمها بالمحاكمات التاريخية من النوع الجنائي التي انتهت بأحكام قاسية أحيانا، و"عبثية" أحيانا كثيرة، في زمن كان يعرف بسنوات الجمر والرصاص، وما حبلَت به من عسف وقمع واختطاف واحتجاز وانتهاك ونفي، وما عرفته من "طبخ" الملفات، وخرق القوانين، واستصدار الأحكام... وتلك وقائع وأحداث ما زالت، بتعبير الصديقي، "ذاكرتي، تختزن في بعض أوعيتها الخلفية صورا عديدة من جلسات تلك المحاكمات التاريخية..." (أوراق الصديقي، ص29.). وهي عنوان مرحلة تاريخية بأكملها بطابعها المأسوي، ما تزال جراحها لم تنْدمل بَعد، رغم بعض الانفراج الذي حصل في بداية الألفية الثانية، ويحتاج إلى تحصين وتوسيع. وكتاب أوارق الصديقي، شهادة من ذلك الزمان المغربي الصعب، وكاتبها شاهدٌ عليه، وأحد الفاعلين فيه. ولعل من أشهر تلك المحاكمات التاريخية الكبرى التي طالت قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي للوات الشعبية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وفي مقدمتهم كاتبه الأول عبد الرحيم بوعبيد، وكوكبة من قياداته التاريخية، كما سردها النقيب محمد الصديق، وكان شاهدا على العصر، وتتبّع أطوار جلساتها "السوريالية"، وبَسط حيثياتها، وشارك في صُنع مجرياتها، وعايَن استنطاقاتها، سؤالا وجوابا، وفي أجواء رهيبة ومتشنجة، لا تخلو من لحظات رقي وسمو واحترافية، وسمع أحكامها وأدرك خلفياتها، وإن موقع المحامي، وصفة النقيب، ومن زاوية المناضل المنتمي لحزب وطني.
والمتتبع لأطوار محاكمة عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه، التي دامت مدة أسبوعين فقط، بعد تأجيل ومتابعة نظر وحكم نهائي ( من 08 شتنبر إلى 24 منه) نظرا لطابعها الاستعجالي عند صُناعها، والمُستفدين المُحتملين منها، على غير الجاري به العمل في المحاكم المغربية، على امتداد المملكة، والراصد للأجواء الرهيبة، والرهيبة جدا التي جرت فيها أشغال المحاكمة (ص134 من الأوراق)، على الأقل كما دوّنها النقيب محمد الصديقي في أوراقه، بكثير من الحرص والدقة واليقظة والثقة، وأثبت وقائعها بتركيز وإسهاب في الآن نفسه، ونقل جلساتها بحيثياتها ودفوعات هيئة القضاء، وتفاعل الدفاع ومرافعاته، وسرد تفاصيل وقائعها ومجرياتها، ووثّق حواراتها، سؤالا وجوابا، رداً وتعقيبا، مسنودا بالقانون، وباستراتيجية الإحراج والهجوم (ص140)، يدرك الجهد الاستثنائي الذي قام به الصديقي في حفظ ذاكرة المغرب في هذه الفترة التاريخية العصيبة من تاريخ المغرب، وبالتالي في صون ذاكرة الحركة الاتحادية، وجرأتهم الوطنية، وقوة استشرافهم للمستقبل.
لم تكن محاكمة عبد الرحيم بوعبيد محاكمة كباقي المحاكمات التي تروج في محاكم المملكة، بل محاكمة بطعم سياسي، جعل كاتب الأوراق، يصفها بالاستثنائية وغير العادية لاعتبارات كثيرة، منها طبيعة المُتهمين فيها، وقيمتهم الوطنية (ص138)، و"اعتباطية اعتقالهم واقتيادهم إلى السجن فالمحاكمة، فضلا عن درجة الحرارة القياسية أيضا، كما يقول النقيب محمد الناصري، التي تم تسجيلها صيف سنة 1981، وامتدت إلى "المساس بحرية الرأي، وبحرية التعبير، بحرية الصحافة والاجتماع وحرية الانخراط في الأحزاب السياسية، والنقابات وبحق الإضراب.." (ص145) .
إنها محاكمة بمواصفات كونية، وإن في قضية وطنية مصيرية، ذات حساسية زائدة "بالنسبة للشعب المغربي كله" (ص139) هي الصحراء المغربية التي اعتبرها محمد اليازغي هويتنا (الصحراء هويتنا، 2018). وعليه، فمسوغ الاعتقال فالمحاكمة لم يكن بسبب بلاغ أصدره المكتب السياسي لحزب سياسي وطني "مشروع ومتواجد وقائم"، بلغة الصديقي، له رأي في مقررات نيروبي وتوصياتها، وحقه في التأويل الوطني، وواجب التنبيه مطلوب، ولا بسبب إخلال بنظام عام مُفترى عليه، كما أسهبت النيابة العامة في بسط ذلك والإغراق فيه؛ ولكن الأمر يتعلق، بلغة النقيب محمد الناصري، إضافة إلى ما سبق، ب"محاكمة الديمقراطية في هذه البلاد، ومحاكمة تعدد الأحزاب"(ص147). ولعله السبب الذي جعل الراحل محمد عابد الجابري، في سياق حديثه عن محاكمة بوعبيد، وشرحه لأسباب إجهاض مبادرة تجاوز المُحاكمة"(الجابري، ص79)، يَقْرِن بين قَضيتَا الصحراء والديمقراطية في مغرب الاستقلال في كثير من الوجوه، وما عانا منهما من آفتي التأجيل والتفريط" ( الجابري، ص4، عدد10). بمعنى تأجيل مطلب الديمقراطية، والتفريض في تحرير الأراضي المستعمرة، على رأسها الصحراء المغربية.
لم يكن عبد الرحيم بوعبيد مِمّن يمارس السياسة ب"دفن الرأس في الرمال"، إذ بمجرد ما أعلن الراحل الحسن الثاني ، في ندوة صحافية يوم فاتح يونيو 1981، عن عزمِه على حضور مؤتمر القمة الإفريقية السابع والثلاثين، في نيروبي، والإعلان عن قَبول إجراء استفتاء بالصحراء، وبعدما طلب من بوعبيد أن يُرافقه ضمن الوفد المغربي إلى نيروبي، واعتذر بلباقته المعهودة، وبجرأة الكبار، حتى صدح برأيه، وعبر عن موقفه، واعتبر مبادرة الاستفتاء مغامرة كبيرة، غير مضمونة النتائج، بل وبادر إلى اقتراح شرط القبول بالاستفتاء بنتيجة مفاوضات يتم الاتفاق فيها على مصير الصحراء، يكون الاستفتاء فيها مجرد تزكية لقرار متخذ وبضمانة دولية، وليس فسحا للمجال لما لا يمكن حصره من احتمالات، كان بعض المتخاذلين يروجون لحلم كاذب مضمونه أن الإعلان عن القبول بالاستفتاء في مؤتمر قمة الإفريقي سيرفع المغرب إلى أعلى مراتب "الأخلاق"، وأن "الجميع" الخصوم قبل الأعداء سيعتبرون للمغرب هده "الأريحية" فيعمدون إلى إنصافه،( الجابري، ص81-82). وذلك رأي ساذج وخادع، ويعبر عن كثير من " الغفلة والغباء". وتلك أهم مسوغات استصدار بلاغ المكتب السياسي، حسب المتاح لديهم وقتها، الذي كان وراء "الرد العنيف للحسن الثاني" وعناده ( اليازغي، ص52-53) وبالتالي اعتقال عبد الرحيم بوعبيد ومن معه. ولعله ما دفع عبد الواحد الراضي، وبعدما عِشرة طويلة، وهو يتأمل ممارسة السياسية، وآليات بناء الموقف واتخاذ القرار، والتعبير عن الرأي والصدع به بين عبد الرحيم بوعبيد وبين الشهيد المهدي بنبركة، إلى القول:" كان المهدي شجاعا ومقداماً حد الجسارة والمجازفة، وكان يمضي بعيدا في خطواته الوثابة حتى دون الحد الأدنى الضروري من الحذر والاحتياطات، في حين كان عبد الرحيم شجاعا مع غير قليل من الحذر والانتباه...كان يركب الخطر، ولكن بشكل محسوب..."(الراضي، ص542-543).
تلك كانت أهم الحيثيات "الحقيقية" التي كانت وراء هذه المحاكمة التاريخية الكبرى التي أُقيمت لعبد الرحيم بوعبيد وحزبه ورفاقه، ومواقفه واختياراته الوطنية التي لا تقبل المساومة ولا المجاملة ولا الحلول الوسطى، على غرار الأبطال التراجيديين في المسرح اليوناني القديم، وهم يذهبون إلى مصيرهم المحتوم، وعيناهم مفتوحتين. لقد كان بوعبيد البطل الرئيس لهذه المحاكمة، وهو الكاتب الأول لحزب سياسي معارض، ومدارها محام متمرس وخبير بالقانون وفلسفته، ومرافع من الطراز الخاص، ومِحورها هو مُشيد "ركائز الاقتصاد الوطني المعاصر التي بقي يعيش عليها المغرب إلى اليوم، وظل يراكم على أساسها ويطور ويقوي ويوسع الفضاء الاقتصادي" (الراضي، ص557)، وبُؤرتها رجل بأخلاق وطنية راسخة، لم تكن الصحراء المغربية فيها إلا تتويجا لمسار بدأ مع محمد الخامس وانتهى مع الحسن الثاني... ومعه رفاق ملتفين حول قائدهم، أوفياء للمدرسة الوطنية الممتدة ممن "صادقوا ما عاهدوا الله عليه" يؤكون جميعهم وبمختلف العبارات، وبعمق الإحساس، ما جاء في مرافعة قائدهم وكاتبهم الأول، بكثير من الثقة والاعتزاز والإباء، وقد أيقنوا المعاملة الفجة التي عومل بها زعيمهم، الذي علمهم السياسة والوطنية، بما لا يليق ومنزلته الوطنية، ودوره في الكفاح من أجل الاستقلال وما بعده. كانت المحاكمة ورطة لمن كان وراءها، والمهندس لمسارها، وفي الوقت ذاته كانت مناسبة لتحرير مُنكر سياسي كاد يعصف بوحدتنا الترابية، ويُغلب النزوع الوطني لحساب النزوع السياسي. وهو ما تمّ في مشهدين من مشاهد المحاكمة، في قمة توترهما وسموهما، وما يعكس انسجاما لفرقة المُتّهمين وفرقة المُرافعين عنهم، ودرجة التفافهم جميعا حول قُدوتِهم السياسية والوطنية، وعمق إيمانهم بحزبهم، وتشبثهم بقائدهم في لحظة استنطاقهم، وهم يعزفون لحن الوفاء والثقة..
 
أ- المشهد الأول: لَحن الخُلود
بعد استنطاق "بطل" المحاكمة حول مضامين بلاغ المكتب السياسي ومسؤوليته، وإقراره لسؤال رئيس المحكمة، بأنه "أنا المتكلم باسم الحزب، والكاتب العام له، فأنا المسؤول الأول عمّا جاء في هذا البلاغ.." (ص148، وبعد استنفاذ آلية السؤال والجواب، أو بالأحرى "الاستنطاق" بموازنه المختلة، وانتهاء أسئلة الدفاع بين النقيب الصديقي والمتهم بوعبيد، بدأ استنطاق المتهمين الآخرين من أعضاء المكتب السياسي للحزب، كانت بدايته وخلاصاته على الشكل الآتي كما ورد في الجلسة الثانية من المحاكمة:
 
رئيس المحكمة:
يوجه رئيس المحكمة سؤاله لأعضاء المكتب السياسي واحدا واحدا، بصدد تصريحاتهم أمام النيابة العامة والشرطة عن البلاغ الذي صدر عن المكتب السياسي، موضوع المحاكمة:
هل تؤكدون تصريحكم لدى الضابطة والنيابة العامة والشرطة؟ ألا ترون البلاغ في مجمله أو بعض فقراته يمس بالأمن العام؟
وعلى لسان واحد، وإجماع تام، يردد كل واحد منهم، وبشكل قطعي:
الحبيب الفرقاني: لا أرى أبدا، بوجه من الوجوه، أن البلاغ الصادر عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي فيه شيء يمكن أن يمس بالأمن العام...
محمد منصور: أبدا، ولا في أية فقرة من فقراته.
محمد الحبابي: أرى العكس، وهو تعزيز النظام العام.
محمد اليازغي: بل بالعكس، فليست هذه المرة الأولى التي يتخذ فيها الاتحاد الاشتراكي موقفا واضحا وشجاعا في قضية مصيرية كقضية الصحراء...
وهو ما تكرر وتأكد أيضا لما سألهم رئيس المحكمة نفسه عن أجوبة بوعبيد وتصريحاته، بقوله:
هل تؤكون أجوبة وتصريحات الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد؟
وكان الجواب مرة أخرى بلحن الخلود، واحدا وموحدا، وعلى الشكل الآتي:
الحبيب الفرقاني: نعم أؤكدها بكاملها
محمد منصور: نعم أؤكدها بكاملها
محمد الحبابي: نعم متفق كل الاتفاق مع تصريح أخي وصديقي وقائد حزبنا الأخ عبد الرحيم بوعبيد.
محمد اليازغي: متفق معها تمام الاتفاق...
بهذه الأجوبة عن سؤال رئيس المحكمة، يعزف قادة الحزب، وراء قائدهم لحن الخلود. وهو لحن شبيهة بحفلة موسيقية مغربية أصيلة من نوع التراث اللامادي، أمازيغي أو أندلسي، يَعزفُها أوركيستر من قادات الاتحاد، ويُديرها بحِرفية وإِتقانٍ، المايسترو(Maestro) الكاتب الأول، والقدوة الكاملة الملهمة، يوحد الأداء، ويضبط الإيقاع، ويُشرف عليها النّقيبين الصديقي والناصري... أتخيل إيقاعها وعزفها، وأنا أستحضر بلاغ المكتب السياسي، ومن صاغه، وعزفه في ردهات المحكمة، وقد نغّص، ولا عجب في ذلك، على مَن (علَى قلُوبهم أكِنّةً أن يفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وَقْرَا)، وكَدّرَ على من(على قلوبٍ أقْفاَلُهَا)، وقد رَمى إذْ رمى إلى "تعميق الوعي والتنبيه" إلى مخاطر توصيات نيروبي عن قضية وحدتنا الترابية، علما بأنها "ليست توصيات مقدسة، كما حاولت النيابة العامة أن تقدمها (ص170).
 
ب- المشهد الثاني: نشيد النصر
يتميز هذا المشهد بكونه ثلاثي الأبعاد. يقوم على الحوار، وتقنية السؤال والجواب، والرد فالتعقيب. وتجري أطواره، تارة بين رئيس المحكمة والنيابة العامة، والمتهم عبد الرحيم بوعبيد، وتارة أخرى يدور بين النقيب الصديقي، وموكله المتهم عبد الرحيم بوعبيد. ويجد هذا الحوار، رغم ما يشوبه من شوائب، صدى له عند القضاء الجالس والواقف، بالتفاعل.. ومن خلالهم ترسل الرسائل من الداخل إلى الخارج لمن يهم الأمر.
بخصوص الحوار الذي جرى بين رئيس المحكمة والمتهم عبد الرحيم بوعبيد، وهو يستنطقه، ويسأله حول مضامين بلاغ المكتب السياسي الذي عجل بالاعتقال فالمحاكمة.
أعتقد أن خطاب الاستنطاق، أو بالأحرى الحوار الحاصل بين الهيئة القضائية وبين المتهم عبد الرحيم بوعبيد حول البيان/ البلاغ الذي أصدره المكتب السياسي للحزب جوابا على توصيات نيروبي وشرح موقف الحزب منها، وما نتج عن كل ذلك من آراء ومواقف وأحكام لم تكن لتكون لولا المكانة التقديرية التي يحظى بها الكاتب الأول للحزب والمسؤول الأول عما يصدر عنه (باتوس بوعبيد غير باتوس غيره)، وإلى ذلك أومأ رئيس المحكمة نفسه لما خاطبه بعبارات، تحمله توقيرا إقرارا بمكانة عالية: "أنتم رجل قانون..."(ص148 من الأوراق). و هو ما استمر على امتداد الحوار في المحاكمة، من أوله إلى آخره. فهو يعرف أنه أمام رجل قانون مهني، يعرف كيف يرافع، ويعرف القانون وفلسفته، ويدرك كيف يصرف مواقفه وآراءه وقناعاته. فما يزال مصرا على سلامة ما جاء في البلاغ، وفائدته على القضية والوطن، رغم التأويلات المغرضة، والانزلاقات المحيطة بها. فمن الواجب الوطني إثارة انتباه الشعب المغربي لكل ما يمكن أن يمس مصلحته ومصلحة البلد، ومنع كل مساس بجلالة الملك، وبالإخلال بالنظام العام. هكذا، أعاد بوعبيد المعادلة إلى ما يجب أن تكون عليه، قائلا:" كيف يكون الإخلال بالنظام ونحن ندافع عن النظام، وهل الدفاع عن حوزة التراب يعتبر إخلالا بالنظام العام"؟ وكلما أراد الرئيس والنيابة العامة توريط الحزب وقائده في صراع مفتعل مع إرادة جلالة الملك، إلا سحب الفخاخ من تحت أقدامه، وأبطل مفعولها، بذكاء ونباهة، وحسن انتقاء مفردات اللغة وتصريفها...
أما بخصوص الحوار الذي دار بين النقيب محمد الصديقي وموكله المتهم عبد الرحيم بوعبيد في إطار أسئلة الدفاع فيمكن تشبيهه بحوار لثنائي هجومي في كرة القدم، عينهما على مرمى الخصم، إذ يُحضر الأول الكرة ويقذفها الثاني ويسجل. فالحوار مناسبة متاحة لمؤازرة المتهم وتمكينه من فسحة لمزيد الدفاع عن نفسه وعن الحزب وعن الوطن. فقد جرى الحوار إذن بكثير من التواطئ الإيجابي بين المتهم وموكله، وبصيغة، أنا أعرف وأنت تعرف أنني أعرف. أن غرضنا هو تسفيه توصيات نيروبي 2، وإبراز مواطن الخلل فيها، ووضع اليد على مكامن التهافت فيها، وأسباب الجهر بالتحفظ منها، والتنبيه إلى مزالقها، وإرادة التمييز بين المبدأ (الاستفتاء) والإجراء (طرق تطبيقه) و بالتالي فضح تدليسات مُدبريها والمسوقين لها، بحُسن أو سوء نية. وقد سعى رئيس المحكمة، بعدما تمّ تسجيل سيل من الأهداف في مرمى خصوم البلاغ، إلى التشويش على الحوار وقطعه، وتكسير الخطة وتبعاتها. وهو ما جعل النيابة العامة تدخل على الخط، بعدما تقاطع استنطاق الكاتب الأول، واستنطاق باقي قيادات الحزب، كما وضحنا سابقا، وقد توحد أعضاء الفريق المتهم، وتجانست مواقفهم، وتأكدت ثقتهم في قائدهم، لتصب الزيت على نار النيابة العامة، و تدفعها إلى الإمعان في تأويلاتها المغرضة فيما ورد في بلاغ الحزب.
لقد تمادت المحكمة مجسدة في النيابة العامة في قراءتها المغرضة لبلاغ المكتب السياسي، بل وأمعنت في التحدث باسم بالشعب واستغلال ملك البلاد ورمزيته للانزلاق نحو تأويل ما ورد في البلاغ، وما يشكله من مساس بالنظام العام، والدعوة إلى التخلي عن السيادة الوطنية بالتشكيك في قرارات نيروبي، وبالتالي في خلق البلبلة... لكن مع ذلك، تمكن المتهمون، مسنودين بدافع متمكن خبير، بتوتير النيابة العامة، وإثارة حنقها للانتصار التي بدأت بواده تنجلي في مسار المحاكمة، وإن كان نصرا بالنقط، على نهج عبد الرحيم بوعبيد. الأمر الذي ضاعف حنق النيابة العامة التي التمست من المحكمة الموقرة "الإدانة، وعدم الأخذ بأي ظرف من ظروف التخفيف، والحكم بالحد الأقصى للعقوبة على جميع المتهمين"(ص164). الشيء الذي استدعى تدخل الثنائي من جديد، الأول، يُعدّ الكرة ويُمررها، والثاني يُصوبها ويسجل، وبخطة جديدة، وآليات مستحدثة.
فالمتهم عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه، وبلسان مؤازرهم لا يحتاجون إلى دفاع، كما يقول النقيب الصديقي، لأن تاريخهم ومواقفهم ووطنيتهم أكبر من أن يدافع عنها. وما ورد في البلاغ مجرد تعلّة لمصادرة الرأي عبر توظيف لكثير من الأغاليط والتوهيمات ومحاكمة النوايا، والمصادرة على المطلوب. فالشك في ربح رهان استفتاء دون ضمانات شك منهجي مشروع، في مقابل الرهان على "استمرار الحزب وقياداته وأطره ومناضليه في "المساهمة في معركة الوحدة الترابية ببصيرة ووعي وتوعية.."(ص174).
وفي نهاية المرافعة، والخطاب موجه للنيابة العامة، ومن يدور في فلكها، وبمواصفات القائد الهمام، والواثق من مواقفه واختياراته الكبرى، وبسخرية ذكية، وتحدٍ مؤسس، وفي فقرة بالغة الدلالة، يقول عبد الرحيم بوعبيد:" أما فيما يخص مطالبة النيابة العامة، بالإدانة وتطبيق العقوبات في حدها الأقصى مع رفض ظروف التخفيف، فإننا نقوله إننا نتبرع عليك بما تسميه ظروف التخفيف، فإننا لسنا في حاجة إليها، لأننا أبرياء". ويضيف وبحدس تاريخاني، وبُعد نظر، وبثقة الرائد الذي لا يكذب أهله قائلا:" وفي نهاية هذه المحاكمة التي سيكون لها تاريخ، وإذا كان الأمر لكم، فإني من جهتي أقول:" رب السجن أحب إلي من أن ألتزم الصمت، ولا أقول رأيي في قضية وطنية مصيرية"(ص174)...
ليعود من جديد نشيد النصر يردده الكورص (choeur) أو الكورال((La Chorale كما في المسرح التراجيدي اليوناني القديم، ليردد كل القادة المُتهمين من الاتحاد الاشتراكي، بثقة وقناعة وشجاعة، وراء كاتبهم الأول، وبصوت واحد وإيقاع واحد، وفي إدانة صريحة وقوية لما وصلت إليه هذه المحاكمة مما عبر عنه النقيب محمد الصديقي من تردٍّ وانهيار، وقد رددها خمساً، وأخاله منفعلا ومتبرما وممتعضا من عبثية الدفوعات الشكلية أو المسطرية، وغياب أدنى شروط المحاكمة العادلة ( من أوراق الصديقي، ص134- 135-136 ). ذلك ما تعكسه أجوبة الأظناء، وهم يعبرون صراحة تضامنه المطلق وتصريحات قائدهم في الجلسة الثالثة من المحاكمة، كما الحال في الجلسة الثانية، كما سبق:
محمد منصور: أعلن تضامني مع التصريح الذي أدلى به الأخ عبد الرحيم بوعبيد...
محمد الفرقاني: ليس لدي ما أضيفه إلى تصريح الأخ عبد الرحيم بوعبيد...
محمد الحبابي: أنا متفق تماما مع ما قاله الأخ عبد الرحيم بوعبيد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي...
محمد اليازغي: كلمتي هي كلمة الأخ عبد الرحيم بوعبيد..
أو بعبارة أدق، كانوا يرددون عبارة قائدهم، وبصوت واحد نشيد النصر: "السجن أحب إلينا من أن نلتزم الصمت، ولا نقول رأينا في قضية وطنية مصيرية".
إنها محاكمة ربّ السجن أحبّ إلي... محاكمة تاريخية كبرى، وبخلفيات سياسية عظمى. محاكمة بحجم محاكمات تاريخية عالمية، بإخراج مسرحي بكل مقوماته، كما سبق وأن بسطها النقيب الصديقي لما اضطر إلى ذلك، واستدل عليها في قضية الشهيد عمر بنجلون ومن معه، وضمن ما أطلق عليه بالمسرحية الهزلية. محاكمة تعْبُر الزمان والمكان بجليل أحداثها ورمزية أبطالها وشهرتهم، وتخترق مجرياتها كل السياقات والمقامات وملابساتهما، وتُذكّر المطلع عليها والمتمعن فيها بمحاكمتين يصعب، إن لم يكن يتعذر عدم استحضارهما في هذا الباب، مع مراعاة كافة الفوارق الممكنة، وأقصد محاكمة سقراط كما تخيلها أفلاطون وتخيله، ومرر من خلاله مواقفه وقناعاته الفكرية والفلسفية، وداعت حتى صارت حقائق مطلقة، زورا وبهتانا، ثم ما يعرف، بالمحاكمة لفرانز كافكا في متخيل سردي غرائبي، بأحداث عجائبية، ومصائر عبثية، وما تزال مثار اختلاف النقاد والمحللين...
لقد تجرع سقراط كأس سُم زُعاف في نهاية محاكمته الشهيرة في محكي المحاكمة، بعد حكم المحكمة، واعتُبر بذلك شهيد الفلسفة والحقيقة والعدالة. وقد كانت تهمته، كما صنعها تلميذه أفلاطون وأذاعها زورا، هو إفساد أخلاف الشباب اليوناني عصر ذاك. مرت أطوار المحاكمة في جور رهيب، لا يختلف عن الجو الذي جرت فيه محاكمة بوعبيد ورفاقه، واتسمت بكثير من التشنج، وفي الوقت ذاته من رقي في الحوار وقوته، لكن عنجيهية سقراط الزائدة، وغروره الفائض، وسخريته اللاذعة المتعجرفة في مخاطبة القضاة، ومُتهميه، وتمركزه حول ذاته (إذا قتلتموني لن تجد أيها الأثينين مثلي...)، عجّلت بقتله. لقد قتله، إن وُجد، غروره إذن، أو بالأحرى انتحر لموت الحياة فيه، بلغة نيتشه. وكذلك كانت نهاية جوزف ك، بطل المحاكمة بالإعدام طعنا بالسكين، بتهمة وهمية، ومحام فاشل. كانت محاكمة جوزف ك عبثية في حياة عبثية. إلا أن بطل المحاكمة عبد الرحيم بوعبيد، مع مراعاة الفوارق طبعا، فكان بطلاً تراجيديا، رغم أنهم اعتقلوه في ظروف غير قانونية، وبدون إذن قضائي، وفي شروط غير إنسانية، وبكثير من الاستفزاز، وأودعوه السجن ورفاقه، وحاكموه في ظروف غير عادية، وفي غياب لأدلة ولشهادة الشهود، وفي صيف شديد الحرارة واقعا ومجازا، رغم كل ذلك، فقد ظل الرجل متوازنا ومتواضعا وحكيما ومتماسكا، ومتحديا بقَدْر، على نقيض بطل محاكمة سقراط لأفلاطون، وعلى نقيض بطل محاكمة جوزيف ك... لفرانز كافكا
لقد كان بوعبيد، كما يقول عبد الواحد الراضي، وقد عاشره لأزيد من ثلاثة عقود "بطلا من أبطال التراجيديا اليونانية. كان شخصية رومانسية من شخصيات ألبير كامي، فقد كان متشائما على مستوى واقعيته ورؤيته جلية(sa lucidité) لكنه كان متفائلا على مستوى الإرادة. كان يعرف كان يعرف أن الانتخابات ستزور ولكنه يتجه نحوها. كان يعرف أن المفاوضات ستفشل، لكنه كان ينخرط فيها. كان يعرف أن الوعود لن يتم الوفاء بها، ولكنه كان يقبل بها. ولكنه كان ينخرط لا عن سذاجة، وإنما لأنه كان يملك إرادة ليغتنم كل الفرص قصد العمل والضغط على القدر لكي يستجيب". ( الراضي، ص564)
ويضيف، تأكيدا لمجريات هذه المحاكمة ومخرجاتها، ومصداقا لهما، قائلا..."كان بوعبيد يفضل أن ينتصر بالنقط. لم يكن يؤثر أبدا أن ينتصر على خصومه بالضربة القاضية. ومن ثم روحه السمحة، ولبونة لمساته، ولغته الدبلوماسية، وحرصه على الإشارات، والإيماءات السياسية، والتلميح لا التصريح...كان فنانا في ممارسة السياسة، وكانت السياسية لديه فنا للممكن. (الراضي، المغرب الذي عشته، ص562-563). وبالفعل انتصر بالنقط، وبانتصاره على طول مسار حياته الحافل بالانتصارات الكبرى، انتصر كل أعضاء فريقه من المتهمين معه، داخل المحكمة أو خارجها، لعل من أشدهم ارتباطا به، وأكثرهم فهما له والتصاقا به، في السراء والضراء، هو الأخ سي محمد الصديقي، مناضلا ومتمرنا فشريكا فأخا مخلصا له في الحياة وبعد الممات...رحم الله الشهداء، وأطال عمر صاحب الأوراق لمزيد من الأوراق، ومتعه بالصحة، وتحية عالية للعظيمة التي كانت وراء العظيم، وإن غابت في الأوراق، فهي حاضرة في القلب والحياة والتاريخ والامتداد...فطوبى للأحياء والأموات في أوراق من دفاتر حقوقي لمحمد الصديقي./.