سأتجرأ على الموتشو، أو بالأحرى سأتجرأ على الكتابة حول إصدار أدبي جديد لروائي ومحلل سياسي وأستاذ جامعي مشهود له بكفاءاته في هذه الميادين المتعددة.
سأتجرأ وإن كنت لست ناقدا ولا أديبا ولا سياسيا..
سأتجرأ فقط، حبا في اللغة العربية عموما، وإعجابًا بأدب حسن أوريد خصوصا، سيما في براعته الملفتة في إدراج اللهجة الدارجة المغربية في الحكي.
و سأتجرأ كذلك لأني اندمجت كليا من خلال رواية الموتشو في رحلة مثيرة عبر الزمن، أحيت ذكريات قوية في قلبي وعقلي لطفولة وشباب لونتهما الحياة بتلاوين شتى زاهية تارة ورمادية تارة أخرى.
الموتشو، كما عرفته، كنية كان يطلقها أعضاء الجوق الوطني الموسيقي العتيد في بداية الستينات من القرن الماضي بأفراده الخمسة والعشرين على أحد عازفي الكمان، م.ع٠رحمة الله عليه
وكان م٠ع٠ هذا عازفا متوسط الاداء مندسا وسط عمالقة العزف في ذلك الأوان من أمثال الملحن والمغني والعازف أحمد البيضاوي، ومكلم العود، عمرو الطنطاوي، و منطق القانون ذي الستة والسبعين وترا، العازف المتفرد، صالح الشرقي الشرقاوي الذي لم يطلق عليه المعجبون إسم « الوتر الخالد » هدرا، وكذا، العازفون على الكمان سي محمد اسميرس والجيلالي ومحمد عاكف العازف الضرير على الناي مع حميد بنبراهيم الخ…
وهذه التوطئة الطويلة تجد مبرراتها في المكانة التي اعطاها حسن اوريد للأغنية المغربية والمصرية والعيطة الشعبية في مختلف مراحل روايته الموتشو٠
وقد كان موتشو الجوق الوطني غالبا ما يغرد خارج السرب وتتعثر آلته في التناغم والانسجام مع باقي الآلات، إلا أن ظله الخفيف وروحه المرحة كانا يشفعان له لدى زملائه، ما كان يدعوهم لغض الطرف عن هفواته.
لا أدري لماذا أرى تشابه بين الموتشو « الموسيقي » والموتشو « الصحفي » بطل رواية حسن أوريد وهما يغردان كل حسب هواه ضمن مجموعات متنافرة ظاهرها متناسق.
لقد أقدم حسن أوريد على اللعب بشخصيات روايته « الموتشو » وكأنها دمى تشبه كراكيز عمر الشريف في فيلم « الأراجوز » الذي أخرجه هاني لاشين٠
الأراجوز الذي كان يشخصه ببراعة عمر الشريف كان يندد ويشجب بصوت وحركات الدمى التصرفات الدنيئة و الخسيسة لمن يمثلون السلطة في قرى مصر٠٠٠٠٠
والأراجوز كلمة مشتقة من اللغة التركية القرقوز، وتعني « ذو العين السوداء، دلالة على النظر إلى الحياة بتشاؤم كبير.
وكذلك هو شأن شخصيات أوريد المتعددة التي تنظر هي الأخرى إلى الحياة بسوداوية على غرار ما يعيشه المجتمع المغربي اليوم من منغصات ومثبطات…
أراجوزات حسن أوريد متعددة الاجناس والاعمار والديانات٠فهنالك المسلمة المتحجبة التي لا تمارس الشعائر، وهناك اليهودية، والمسيحية والفلسطينية والإسرائيلية، ونادلة الحانة « البارميطة » وحارس العمارات والسيارات « بابوشعيب » وهنالك المخبر طبعا، وهناك الوالدة الفاسية.
في تشكيلته الاراجوزية اوقع حسن أوريد بطبيبة متحجبة في حبال شخص تحبه وتمارس الجنس معه خارج إطار الزواج، ثم بعد ذلك يتجاوز بها الروائي كل الحدود ويحولها في آخر المطاف إلى امرأة يهودية تهاجر إلى إسرائيل.
من اراجوزات حسن أوريد كذلك، نادلة حانة « بارميطة " ذكرتني بأحمد، صديق دراستي منذ الطور الثانوي الى الطور الجامعي الذي شغف حبا بنادلة لعوب، وكان قاب قوسين أو أدنى من الزواج بها وهوحديث التخرج من كلية الطب بالرباط…
أراجوزات رواية الموتشو، تتطرق كذلك إلى أهل الحل والعقد في بلادنا، وتجعلنا نتساءل عن هوياتهم:هل هم أولائك الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع، أم هم أولائك الجاثمون في قمقم عفريت والمختبئون في سراديب الظلام حيث لا ينكشفون إلا بأمر كلما دعت الضرورة لذلك…
هذا ما جاء على لسان نعيمة وهي مستسلمة بين أحضان عشيقها…
رواية الموتشو حلقت مرة أخرى بالقارئ في حلم سريالي وجعلت بطل القصة يمشي عاريا كما ولدته أمه ويمارس الجنس مع حبيبته على رمال أحد شواطئ طنجة، وذلك تحت أعين الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي٠BHL
في رؤية أخرى، مثل أوريد بالموتشو وجعله يلقي محاضرة داخل أسوار جامعة إسرائيلية وأمام جمهور متعطش لسماع مثقف عربي يمجد اليهود.
والقلم بيدي استسمح الروائي بأن أتجرأ على بطل قصته الموتشو، وأجعله يعيش هذا الحلم الذي يراودني :
الجوق الوطني بأعضائه الخمسة والعشرين لابسين الزي التقليدي المغربي الأنيق وهم يصدحون بكورال أغنية « يارسول الله خذ بيدي » من تلحين الفنان المبدع المرحوم صالح الشرقي.
إنها الأغنية المغربية الوحيدة التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم بطلب من المرحوم الملك الحسن الثاني.
كان أفراد الكورال يصدحون بإسم النبي محمد صلعم أمام حائط المبكى الذي هو جزء يأتي من خط يمتد من حي المغاربة.
وقد يكون هذا تلميح لأغنية « جا فالميعاد » التي كتب كلماتها أحد أقطاب كتاب الكلمات في المغرب، المرحوم علي الحداني، وأداها المغني المرحوم عبد المنعم الجامعي، وهي إشارة واضحة إلى وجوب عودة الأرض إلى الفلسطينيين، أهلها الشرعيين…
ولكي نبقى في هذا الجو الحالم في رواية الموتشو التي أغرتني شخصيا بالحلم، قد نجعل من الأصوات التي تؤدي أغنية يارسول الله خذ بيدي، خليطا من أصوات وعازفين لمغاربة مسلمين ويهود من أمثال ليونيل المغربي وسليم الهلالي وسامي المغربي والمغني وعازف القانون سليم عزرا الذين بدؤوا وعاشوا حياتهم الفنية في المغرب…
هذه مجرد أحلام يقظة، وكم من أحلام نوم ويقظة تحققت بكل حذافيرها؟
هذه هي إذن رواية الموتشو، تأخذنا على بساط الحلم الدافئ من رؤية إلى أخرى، رؤية حزينة يعتصر من شدة ألمها القلب، وأخرى مضحكة مسلية تدفع أحيانا إلى القهقهة المجلجلة الى درجة الاستلقاء على الظهر.
إن الرواية والموسيقى فنين متكاملين اذ تتخلل هذه الرواية الممتعة أصداء موسيقية تأتي من العيطة ومن أغاني إبراهيم العلمي الشعبية تارة، ومن أنغام عندما يأتي المساء لمحمد عبد الوهاب وموسيقى الجاز تارة أخرى، وهي تقنية ناجحة وظفها الكاتب لربط شخصيات روايته مع بعضها البعض.
وقد كان المرحوم صالح الشرقي الذي جاب القارات الخمس بآلته القانون، كثيرا ما يردد بأن الموسيقى لغة إنسانية فصيحة تؤلف ما بين الشعوب.
إن شخوص رواية الموتشو من أمثال الحاج باسطوف وكريستين وحميصة وبنيس ورامبو وإستير والبارميطة قد تكون مستعارة من شخصيات وأحداث واقعية قد تترك ندوبات مخزنية مترسبة في أعماق لا واعية لن يمحوها الزمن مهما تعاقبت الليالي والأيام وتعاقرت الكؤوس٠وهذا حال كل بني البشر