الثلاثاء 19 مارس 2024
فن وثقافة

برنامج "مدارات": الصديق بن العربي مؤلف " كتاب المغرب".. المثقف الذي عاش حياة الزاهدين (1) 

برنامج "مدارات": الصديق بن العربي مؤلف " كتاب المغرب".. المثقف الذي عاش حياة الزاهدين (1)  المرحوم الصديق بلعربي (يمينا) مع الفتيات من تلميذاته بمدرسة النهضة رفقة مؤسسها أبوبكر القادري في مطلع الخمسينات
لمحات من سيرة رجل بمواصفات فريدة
خصص الزميل عبد الإله التهاني حلقة هذا الاسبوع من برنامج "مدارات "، للتعريف بمحطات من سيرة الباحث المحقق المرحوم الصديق بن العربي،الذي تميز بمؤلفه الشهير " كتاب المغرب "، الصادر عام 1952 ، حيث اعتبره  واحدا من أعلام الحركة الأدبية والعلمية والصحفية الحديثة بالمغرب، فضلا عن كفاحه الوطني من أجل استقلال البلاد،  إذ  كان من الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، مرورا  بإشرافه لعقود من الزمن على خزانة جامعة ابن يوسف بمدينة مراكش ، واصفا إياه بأنه كان من صنف الرجال الذين أناروا لنا مسالك الفكر والصلاح، وزرعوا في نفوسنا قيم الورع والمثل الإنسانية الرفيعة.
وأضاف عبدالاله التهاني بأن السيرة النقية  للباحث الجليل المرحوم الصديق بن العربي ، مازالت محفوظة في تاريخ الثقافة المغربية الحديثة، وفي ذاكرة أجيال من الباحثين وطلبة العلم ، ممن تعرفوا إليه ونهلوا من ثقافته وسديد نصحه، واستفادوا من توجيهاته في أبحاثهم الدراسية، فعرفوا قدره ولمسوا فضيلته.
وقال عن نشأة هذا العالم القدير ، بأنه  رأى النور في مدينة سلا عام 1911، في أسرة سلاوية كانت نموذجا في التقوى والصلاح ، حيث عرف والده بانشغاله بعلم التوقيت ، وشغفه بطرب الملحون والموسيقى الأندلسية ، ولاسيما ما تعلق منهما بقصائد المديح النبوي وعن سيرة الرجل ومساره.
وأوضح معد ومقدم البرنامج، بأن المصادر ذات الصلة بسيرة هذا الرجل، لا تفيدنا بالشيء الكثير، سوى بعض المعطيات التي انفرد بتدوينها العلامة الكبير الأستاذ المرحوم أبو بكر القادري ، وخاصة ما أورده  في الجزء السادس من سلسلة كتبه الجميلة ، التي أصدرها تباعا تحت عنوان (رجال عرفتهم من ) ، والتي وثق فيها - يقول الاعلامي عبدالاله التهاني - سيرة عدد من رجالات العلم والفكر والأدب ،  والكفاح الوطني، والسياسة والصحافة والديبلوماسية .
ومن ضمن ذلك ، ما أشار إليه عن انتقال الصديق بلعربي، وهو طفل إلى الدار البيضاء  مع أسرته ، بعد تعيين والده إماما على مسجد مولاي يوسف بدرب السلطان، ولعل هذا الإنتقال قد وفر للصديق بلعربي،  فرصة مواتية لتنويع مصادر تكوينه ، حيث أقبل على تعلم اللغة الفرنسية، إلى جانب تكوينه  باللغة العربية.
وأورد معد البرنامج ، ما روي عن هذه الفترة من حياته ، وأنه كان شديد الحرص على القراءة والتزود بالمعارف ، في حرص وعصامية والتزام بالمطالعة،  ورغبة شديدة في اكتساب العلم. وهو ما سيلفت نظر أقرانه من الشباب الطليعي في مدينة سلا، التي كان الصديق بلعربي قد عاد إليها مع أسرته من الدار البيضاء، فأقبلوا عليه والتفوا من حوله، ليكون زينة مجالسهم ولقاءاتهم وأنشطتهم.
 
نبوغ مبكر ونضج فكري لافت : 
واستحضر الاعلامي عبدالاله التهاني في هذا السياق،  ما كتبه المرحوم أبو بكر القادري ، حين أشار إلى أنه تعرف على الصديق بلعربي بمدينتهما سلا، في مطلع الثلاثينات، كما يذكر حدثا مهما حصل قبل ذلك التعارف ، ويتمثل في تأسيس جمعية (الوداد) بمدينة سلا سنة 1927، بمبادرة من ثلة قليلة الشباب السلاوي،  كان من بينهم الصديق بلعربي وسعيد حجي ومحمد الغربي ومحمد بن بوبكر شماعو، وعبد الكريم حجي .
وأوضح الزميل  التهاني إلى أن هذه الجمعية، عرفت  بعملها النشيط في مجال التثقيف والتوعية، وتعليم الناس القراءة والكتابة، إلى جانب عملها على بث الشعور الوطني في النفوس، مستشهدا بما ذكره المرحوم القادري،  من أنه كانت  لها ثلاثة أو أربع مجلات خطية باسم جمعية (الوداد).
كما أشار إلى سن المرحوم الصديق بلعربي ، وهو يشرف على لجنة التعليم والتثقيف في هذه الجمعية ، كان لا يتجاوز 17 عاما، الأمر الذي يكشف بنظره عن نبوغه المبكر، وهي خاصية قال أن المرحوم بلعربي كان يشترك فيها، مع العديد من أبناء ذلك الجيل من رواد الثقافة المغربية الحديثة ورجالات  الكفاح الوطني من أجل الاستقلال .
 
من الادارة إلى الصحافة والعمل الوطني  : 
 وعند استعراضه لمساره المهني ، لاحظ الاعلامي عبدالاله التهاني أنه بحكم  الاهتمامات الفكرية للمرحوم الصديق بلعربي، فإنه لم يستأنس بالعمل الإداري،  الذي كان قد انخرط فيه،  بعد تعيينه في المطبعة الرسمية ثم  بمصالح وزارة المالية بالرباط، خلال منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، وأنه تبعا لذلك سيغادر وظيفته،  ويتجه إلى الكتابة في عدد من الصحف المغربية ، التي تأسست في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي كجريدة (المغرب) التي أنشأها رائد الصحافة المغربية المرحوم سعيد حجي سنة 1937، وجريدة (الأطلس) التي كان يصدرها محمد اليزيدي، وجريدة (العمل) لمديرها ومؤسسها عبد اللطيف الصبيحي، إضافة إلى جريدة (رسالة المغرب) التي أصدرها الفقيه غازي".
 وأبرز أن مقالات الصديق بلعربي في هذه الفترة ، كانت تتناول قضايا تاريخية وسياسية واجتماعية ، لكن بعد تنامي الوعي الوطني في مطلع الأربعينات من القرن الماضي،  بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة السياسية مع الإدارة الاستعمارية الفرنسية ، وجد الصديق بلعربي نفسه "مؤهلا ومهيأ ليكون عضوا رئيسيا في تنظيمات الحركة الوطنية المغربية، حيث كان واحدا من أعضاء خلية" فتح" ، إلى جانب قاسم الزيري وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد البقالي والطاهر زنيبر والحاج بوبكر الصبيحي، وبالتالي سيخلد  المرحوم الصديق بلعربي اسمه ، في تاريخ الكفاح الوطني بتوقيعه على عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، باعتباره واحدا من أبرز الوجوه في النخبة الوطنية السلاوية، وأنه سيتحمل من أجل ذلك، ما تحمله غيره من انتقام إدارة المستعمر الفرنسي .
وتوقف  الاعلامي عبدالاله التهاني عند بقية العناوين البارزة في سيرة وحياة المرحوم الصديق بلعربي ، حيث  لخصها  في  توليه عام 1946، مسؤولية مطبعة الأمنية بالرباط، وهي المطبعة التي اعتبرها إحدى مرتكزات المشروع الصحفي والثقافي الكبير ، الذي أطلقه رائد الصحافة المغربية الحديثة المرحوم سعيد حجي، قبل وفاته المبكرة والمفاجئة عام 1942، وهو في الثلاثين من عمره، مشددا على أن هذا  المشروع التحديثي للمرحوم سعيد حجي، كان يشمل الاستمرار في إصدار جريدته اليومية (المغرب)،  ومطبعة الأمنية المتخصصة في إصدار الكتب ، ودارا للنشر والتوزيع وأنشطة أخرى ذات طابع تجاري. 
 
من مدرسة النهضة مع القادري ، إلى مدارس محمد الخامس مع بلافريج
واستحضر  معد ومقدم  البرنامج ، ما كان قد دونه  المرحوم أبوبكر القادري ، حين أشار إلى أنه بعد تعرضه للسجن ثم النفي ، من طرف المستعمر الفرنسي سنة 1953، "تولى ابن شقيقه المرحوم عبد الرحمن القادري ، الإشراف على مدرسة النهضة بمدينة سلا، التي كان قد أسسها أبو بكر القادري وأدارها بنفسه، وأنه خلال هذه الفترة بالذات، التحق المرحوم الصديق بلعربي للعمل بهذه المدرسة ،  حيث تولى تدريس  مواد الادب والتاريخ والجغرافيا،  مشيرا
 إلى أنه سيواصل التدريس في مدارس محمد الخامس التي أسسها بالرباط المرحوم الأستاذ بلافريج ، حيث التحق بها سنة 1956 .
 
من السلك الديبلوماسي إلى عالم الكتب والمخطوطات
وهو يستعراض مراحل من المسار المهني للمرحوم الصديق بلعربي، أشار الزميل عبد الإله التهاني إلى الفترة التي التحق خلالها الاستاذ بلعربي للعمل بالسلك الديبلوماسي،، حيث عين في منصب السكرتير الأول للسفارة المغربية بتونس، بيد 
أن تفضيله لأجواء العلم ، سيدفعه إلى التخلي مبكرا عن مساره الديبلوماسي ، وتغيير مساره الوظيفي، حيث اتجه إلى العمل في وزارة الثقافة، وأصبح  محافظا على خزانة جامعة بن يوسف بمدينة مراكش، وهي واحدة من أهم خزائن الكتب النفيسة والمخطوطات النادرة في المغرب، وبذلك سيتحقق له في النهاية ، ما كان يرجوه دوما في حياته من العيش بين الكتب والمخطوطات. 
 
المرحلة الذهبية في ظلال مراكش
 وأضاف الزميل الاعلامي عبدالاله  التهاني، بأن المرحوم بلعربي قضى هاته المرحلة الذهبية من حياته،في خزانة جامعة ابن يوسف بمراكش،  وتحديدا من سنة 1958 إلى غاية تقاعده، وأنه آثر رحمه الله حتى بعد تقاعده ، أن يقضي بقية حياته في مدينة مراكش ، قريبا من خزانة الكتب التي أحبها، وصرف فيها أجمل سنوات عمره،  إلى أن توفي رحمه الله عام 1995، بعد مرضه الطويل الذي لقي خلاله عناية خاصة من المغفور له الملك الحسن الثاني، وبقي الحال كذلك إلى أن  اختاره الله إلى جواره".
 
الناسك  العارف بأسرار المصنفات والمخطوطات
وفي ذات السياق قال معد ومقدم البرنامج ، بأن العالم المحقق  المرحوم الصديق بلعربي، عرف  خلال تحمله مسؤولية الإشراف على خزانة ابن بن يوسف بمراكش ، بتفانيه في العناية بشؤونها، وأنه 
كان مطلعا بدقة على نفائسها وذخائرها من الكتب والمخطوطات، ملما بموضوعاتها ، عارفا بأسرارها العلمية.كما لم يكن يبخل على طالبي العلم ،  وعلى الدارسين والباحثين من داخل المغرب وخارجه،  بسديد نصحه وتوجيهه، وجميل إفاداته، مما أكسبه مكانة راسخة في القلوب وتقديرا تابتا لأفضاله وثناء على سيرته.
واستحضر الإعلامي عبد الإله التهاني في هذا السياق ،  ما كان قد  كتبه العلامة أبو بكر القادري بلغة مؤثرة ، حين قال عن المرحوم  الصديق بلعربي ، بأنه عاش حياة المؤمنين الزاهدين، حيث لم ترهبه قوى البطش الاستعماري، كما لم تغريه الدنيا ولم تجذبه الاضواء .
 
كتابه غير المسبوق عن المغرب
وفي الجزء الثاني من حديثه خلال هذه الحلقة ، أسهب الاعلامي عبدالاله التهاني في التعريف بالمؤلف الفريد الذي أغنى به المرحوم الصديق بن العربي ، رصيد الخزانة المغربية والعربية ، والذي كان قد ألفه وأصدره سنة 1952 ، تحت عنوان ( كتاب المغرب ) ، وكان في وقته تأليفا غير مسبوق ، بالنظر للجهد الذي بذله المرحوم بلعربي في إنجازه ، حيث جعله في شكل دليل شامل ، يعرف ببلاد المغرب من عدة جوانب ، بمنهجية في غاية الدقة والضبط والترتيب.

ملحوظة:
سنقدم في ورقة لاحقة، أبرز ما ورد في هذه الحلقة من معطيات بشأنه