الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

صفحات من ذاكرة المنجرة: ضربت فرنسيا أهان العرب (ح. 2)

صفحات من ذاكرة المنجرة: ضربت فرنسيا أهان العرب (ح. 2)

برحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة (13 مارس 1933 - 13 يونيو 2013 ) رحل عنا مفكر عربي معاصر من طينة نادرة. رجل أجمع الكثيرون على أنه وطني صادق ونزيه. رجل مواقف ومبادئ، مثقف شجاع. لا يركن إلى المهادنة وتنميق الخطاب. علامة من علامات الثقافة والفكر في العالم. خبير متخصص في علم المستقبليات(وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة). اشتهر المرحوم المهدي المنجرة بجمعه وربطه بين العلم والثقافة، وإعطائهما المكانة التي يفترض أن يساهما من خلالهما في تطوير أسلوب العيش اليومي، وإبداع مشاريع لتنمية الشعوب. كما تميز بأن كانت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين سنة 1980 و1990.

"أنفاس بريس" تفتح صفحات من حياة المرحوم المهدي المنجرة، وتروي مقتطفات من سيرته، حسب أجوبته على أسئلة خاصة بجلسات حوار أجراه معه الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي لفائدة يومية "الاتحاد الاشتراكي"، وقد تمَّ تجميع هذا الحوار في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1997 بعنوان "المهدي المنجرة (مَسَاُر فِكـْر)".

 

الحلقة الثانية:

تابع المهدي المنجرة دراسته الابتدائية بليسي غورو بالرباط، وفي سنة 1941 خلال ظروف الحرب العالمية الثانية انتقلت عائلته إلى الدار البيضاء، فتم إلحاقه بمدرسة الأعيان بحي موغادور، وفي نفس الوقت كان يتابع تعليمه بالمسيد على يد الفقيه السعيدي، كما كان يتابع تعليما خاصا بالبيت رفقة إخوته حيث كان يلتحق بهم أستاذ اللغة العربية. التحق بما كان يسمى الليسي الصغير الموجود بالقرب من ساحة فردان، وبعد حصول المهدي على الشهادة الابتدائية التحق بالليسي الكبير "اليوطي".. والمثير أنه كان يحصل خلال كل سنة على التوبيخ، وهو ما دفع بالمؤسسة إلى طرده حيث كان من غير الممكن نهائيا أن يعود إلى ذلك الليسي، مما دفع بوالده إلى اتخاذ القرار بأن يسافر المهدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان غضب مؤسسة "اليوطي" على المهدي المنجرة التلميذ يتعلق في الواقع بتوبيخات سياسية، فقد كان دائم الحصول على نقط دون المستوى في مادتي الفرنسية والتاريخ، لا لضعفه اللغوي والتعبيري، بل لأن أحد أساتذة اللغة الفرنسية كان يشترط عنصرا واحدا ليحصل التلميذ على النقطتين 11 و12: (أن يشيد التلميذ بالعلاقات الفرنسية-المغربية).. وعلم المهدي المنجرة في ما بعد أن بعضا من أصدقائه في الواقع قد احترم هذا الشرط فذهب بعيدا في الحياة، وذكر منهم من كان يستعيد في كل لحظة جملة محفوظة تقول بالحرف (المغاربة والفرنسيون.. يدا في يد). وحده المهدي الطفل لم يكن يستجيب لرغبة ذلك الأستاذ وشرطه، ومرجعه في ذلك مرة أخرى توجيهات والده ونمط التربية التي تلقاها وإخوته. نفس المشكل كان قد حصل مع أستاذ مادة التاريخ، إذ كان المهدي يحتج داخل القسم ويضرب الطاولة عندما تحرف وقائع ما، وهو ما جعل الإدارة تعرض قضيته مرارا على المجالس التأديبية إلى أن اتـُخِذ َ القرار بطرده. بعد ذلك حاول والده أن يسجله في مدرسة خصوصية، لكن مديرها رفض التحاق طفل مغربي مشاغب قد يؤثر على باقي الطلبة. حين كان المهدي يتذكر مثل هذه الوقائع كان يشعر باعتزاز عميق، وكان يعمل بمبدأ مفاده أن على المرء ألا يكبت انفعالاته، وألا يستسلم لقبول الأوضاع كما هي، وعليه كذلك أن يحرص على معانقة التساؤل المستمر. كان إصرار المرحوم والد المهدي كبيرا على أن يتصرف أبناؤه بمثل هذا التصرف، تماما مثلما كان لا يُمانع في أن يتحدث أبناؤه في مجامع الكبار ومنتدياتهم، وكان المهدي يقضي مع الكبار من الناس في هذه الفترة وقتا أطول مما كان يقضيه مع أنداده الصغار. إلى حدود القرار بسفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية كون المهدي صورة شيزوقرينية عن الفرنسي بشكل عام، فهناك من جهة صورة عجيبة وعاطفية ومثالية كانت عائلة المنجرة تتعامل من خلالها مع الفرنسيين بحنان واحترام وأخلاق، مثلما هو الحال مع مربية المهدي وإخوته، والمعلم في مادة التربية البدنية. ومع أحد شركاء والد المهدي في أول مكتب عقاري فتح بالدار البيضاء باسم الأطلس، وكذلك مع عدد من الفرنسيين الذين كانوا يزورون بيت عائلة المنجرة ويجتمعون معها حول مائدة واحدة. وهناك من جهة ثانية صورة ثانية للفرنسي حين يتحرك كجزء من الكيان الاستعماري وكأحد آليات هذا الكيان، وهي الصورة التي كان اللقاء معها بالإدارات ولدى بعض أساتذة الليسي أو التجار أو السلطة. ازدواجية صورة الفرنسي كانت تضع المهدي من حين لآخر أمام هذا السؤال "مع أي فرنسي نتعامل؟" كما كانت تصدمه كثيرا. في سن الحادية عشرة اضطر المهدي إلى ترك عائلته بإيفران والسفر لوحده إلى الدار البيضاء لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية.. خلال الرحلة أقلته شاحنة بها عساكر فرنسيون بعد أن أضاع موعد انطلاق الحافلة. كانت الشاحنة تتجه نحو آزرو، وكان المهدي يرتدي لباسا روحيا وكان شديد الحرص على عدم التعرف على هويته المغربية. كان العساكر طيبون معه. ناولوه العشاء ووفروا له سريرا بثكنة ليقضي به الليل. كانت الرهبة تسكنه في تلك الليلة إذ كان يتساءل: ماذا لو عرفوا هويتي؟. بات المهدي بلابسه حتى لا يكتشف أحد أنه كائن "مُختن". يذكر المهدي واقعة ثانية تبرز الازدواجية صورة الفرنسي. ففي سن الرابعة عشر كان بمسبح إيفران، فاقترب كلب إحدى السيدات الفرنسيات من ماء المسبح، احتج أحد الفرنسيين فأجابه آخر "هناك عرب يسبحون هنا، فلم لا الكلاب؟" لم يتمالك المهدي نفسه. قفز نحو الرجل وضربه، وهي المرة الوحيدة التي عبر فيها عن انفعال عنف باليد، ولسوء حظه فقد كان الرجل الذي ضربه هو رئيس الأمن الإقليمي لمدينة إيفران. اقتيد المهدي إلى دائرة الشرطة حيث اعتقل لمدة أربع أو خمسة أيام، دون علم العائلة التي ظلت تبحث عنه دون جدوى. شكلت هاتان الواقعتان جزءا من مرجعية المهدي المنجرة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وبمبادئ الحرية والاستقلال، فكان يؤمن أنه لن يسمح للاستعمار أبدا، ولا يمكن أن يتعامل معه، أو مع ما يشبهه وهو أشد وأقوى. في سنة 1948 سافر المهدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بمؤسسة تُسمى "باتني"، وهي ثانوية تجريبية كانت آنذاك حديثة العهد بالبناء في إحدى البوادي المكسوة بالثلج.

(يتبع)

ملحوظة: العناوين من اختيار هيأة التحرير