تنشر "أنفاس بريس" نص الزمان المستعاد"، وهو كلمة ألقاها الكاتب والمؤلف المسرحي محمد قاوتي، في افتتاح فعاليات الندوة الوطنية، تخليدا للذكرى الثانية لرحيل أستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي، التي نظمت بمكناس يومي 11 و12 نونبر 2022، من طرف "مؤسسة حسن المنيعي للدراسات المسرحية والإبداع الأدبي والفني"، بتعاون مع "المركز الدولي لدراسات الفرجة".
لَعَلَّ شَيْبَتِي سَبَبُ تَبْوِيئِي مَوْقِعًا لِلْقَوْلِ فِي مَحْفَلِ التَّذَكُّرِ، أوْ هِيَ إثَابَةٌ عَنْ تَشَوُّقٍ لِمُسَارَّةِ «الْحَسَنِ» سَاعَةَ التَّقَعُّرِ؛ فَكَانَ أنْ مَا وَدَّعْتُ الصَّبْرَ حِينَ مَا وَدَّعْتُهُ، وَلَا قَرَعْتُ السِّنَّ حِينَ مَا شَيَّعْتُهُ، وَلَا كَانَ أنْ زِدْتُ فِي خَطْوِي ، وَلَا أبْدَلْتُ دَلَفِي بِشَأْوِي؛ فَحَقَّتِ «الْأَوْ» وَحَقَّتِ «اللَّعَلَّ»، وَخَامَرَنِي بَيْنَ حَدَّيْهِمَا اِرْتِيَابٌ بِأنِّي اِسْتَخْفَفْتُ وِزْرَ مَا عُرِضَ عَلَيَّ مِنْ أمَانَةٍ، فَكُنْتُ، بِهَذَا، ظَلُومًا جَهُولًا؛ لِمَا أنَا فِيهِ، فِي الْمَجَالِ وَالْحَالِ، مِنْ تَعْرِيضِ لِسَانِي لِلْعِثَارِ، وَمَا أخْشَى أنْ يَعْتَرِيَنِي مِن تَوَابِعِ ضِيقِ الصَّدْرِ، وَعُقْدَةِ اللِّسَانِ، وَحُبْسَةِ الْبَيَانِ، وَلَوْ أنِّي أُوصِيتُ بِأنْ أكُونَ «مُعْتَدِلًا فِي التُّهْمَةِ لِنَفْسِي، مُقْتَصِدًا فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهَا» . فَاعْذُرُوا زَلَّةً قَدْ تَبْدُو مِنِّي، وَتَكَرَّمُوا بِالتَّغاضِي عَنْهَا وَعَنِّي؛ «فَمَا أحْسَنَ الْعَفْوَ بِالْقَادِرِ» ... إنَّنَا فِي حَضْرَةِ «طَيْفِ الْحَسَنْ».
وَقَدْ بُوِّئْتُ مَوْقِعَ الْقَوْلِ، فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوصٍ؛ أيْ «الْعِلْمُ وَالْوَفَاءُ»، أبْصَرْتُ، بِجَوَّانِيَّ، «الْعِلْمَ وَالْوَفَاءَ» مَقْرُونَانِ بِـ«الْحَضْرَةِ»، بِمَا هِيَ ِثَالِثَةُ ثَلَاثَةٍ، كَفِعْلِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي الْمَقَالِ، وَمِقْرَنِ الْعِلْمِ بِالْوَفَاءِ فِي الْمَقَامِ، وَتَأهَّبْتُ لِلْقَوْلِ.
أُشْعِرْتُ بِوُجُوبِ الْإيجَازْ، مَعَ الْعِلْمِ أنَّ بَعْضَ الْإيجَازِ إعْجَازْ، لَاسِيَّمَا أنَّ الْقَوْلَ فِي «الْحَضْرَةِ» رُكُوبُ بَحْرٍ ذِي عُبَابْ، وَأنِي جُبِلْتُ عَلَى الْإيضَاحَاتِ بِالْإطَالَةِ وَالإطْنَابْ.
حَسْبُكمْ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ.
الزَّمَانُ الْمُسْتَعَادُ
فَاضَتِ الْمَعْنَى عَلَى الْعِبَارَةِ، وَتَحَرَّيْتُ حُسْنَ الصِّيَاغَةِ، وَاِلْتَمَسْتُ سُؤَالِي، وَدَارَيْتُ أغْلَالِي، وَتَحَوَّلَ السُّؤَالُ سُؤْلَ سَائِلٍ، وَالتَّوَاضُعُ شَرْطٌ لِكُلِّ مُتَوَسِّلٍ. فَبَقَيْتُ عَلَى حَالِي فِي التَّوَسُّلِ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُنِي، وَبَقِيَتْ أحْوَالِي عَلَى حَالِ الْحَثِّ بِمَا يُحْرِجُنِي، إلَى أنْ خَلَّصَنِي مِنْهَا هَفِيفُ نُعَاسٍ تَوَالَى وَسَنًا، ثُمَّ تَرْنِيقًا، ثُمَّ غُمْضًا وَكَرَى، ثُمَّ تَغْفِيقًا، ثُمَّ إغْفَاءً، ثُمَّ تَهْوِيمًا وَغِرَارًا وَتِهْجَاعًا، ثُمَّ رُقَادًا، ثُمَّ هُجُودًا وَهُجُوعًا وَهُبُوعًا، ثُمَّ تَسْبِيخًا، فَاخْتَلَطَتْ كُلُّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَأمْسَكَتْ دَوْرَةُ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَانْصَهَرَ طَفِيفُ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ وَبِمَا حَوْلِي مِمَّا لَمْ آبَهْ بِهِ.
أثْنَاءَ اِخْتِلَاطِ كُلِّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَإمْسَاكِ دَوْرَةِ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَانْصِهَارِ طَفِيفِ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ، رَأيْتُنِي فِي حَضْرَةِ «الْحَضْرَةِ» فِي عَلْيَائِهَا، فَتَبَدَّى مِنِّي جَزَعُ الْهَلَعِ وَالْوَهَنْ، وَقَدْ خُلِقْتُ وَهْنَا عَلَى وَهْنٍ عَلَى وَهَنْ. وَمَعَ هذَا، رَأيْتُنِي اَسْتَبْشِرُ خَيْرًا بِمَا أنَا فِيهِ، وَرَأيْتُ الْفُؤَادَ يَشْدُو شَدْوَ أمَانِيهِ، وَرَأيْتُنِي عَلَّقْتُ مُعَوَّلِي عَلَى «الْحَضْرَةِ»، لِتُسْعِفُنِي بِحَاجَةِ مَا الْتَمَعَ بِخَلَدِي، فَعِيلَ مِنْهُ صَبْرِي وَجَلَدِي، وَتَأهَّبْتُ لِلْقَوْلِ، وَرَأيْتُنِي أسَائِلُ نَفْسِي وَالسُّؤْلُ مَهْدُولْ، مَاذَا عَسَانِي أقُولْ؟
وَعَلَى الْأيْنِ وَالْإعْيَاءِ رَأيْتُ حَالَاتِي تَسْتَحِثُّنِي عَلَى الْكَشْفِ عَنْ شَوَارِدِ فِكَرِي وَالْبَوْحِ بِهَا، فَرَأيْتُنِي أتَوَسَّلُ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُ مِنْوالَ الْكَلَامِ الـْمِطْوَاعِ، وَيُوتِي بِخِرْقَةٍ ذَاتِ نَسَبٍ مُؤْنِقَةٍ لِلْأسْمَاعِ، وَيَتَشَعَّبُ الْقَوْلُ فِيهِ بِمَا يَنْفُذُ كَزَيْتٍ فِي حَلَجِ الْبَصَائِرِ، يُرَاعِي النَّظِيرَ وَيَشُدُّ عَضُدَ النَّظَائِرِ؛ إلَى أنْ تَبَدَّتْ لِي «الْحَضْرَةُ» فَأبْهَرَتْنِي بِمَا تَبَدَّتْ لِي.
أبْصَرْتُهَا فَأدْهَشَتْنِي وَحَيَّرَتْنِي، وَسُرْعَانَ مَا آنَسَتْنِي، فَشَمَلَتْنِي بِأُلْفَةِ مَا عَهِدْتُهُ، وَرَفَعَتْنِي عَنْ غَمْزَةِ مَا اِسْتَهْجَنْتُهُ، فَأدْرَكْتُ كُنْهَهَا مِنْ سِمَةٍ لَصِيقَةٍ بِهَا، لَا تَزَاوَرُ عَنْهَا وَلَا تَمِيلْ، يُوجِزُهَا شِعْرُ السَّلَفِ الْأثِيلْ: «فَظَلَّ يُنَاغِيكَ الْكَلَامَ بِمَنْطِقٍ * رَقِيقِ الْحَوَاشِي زَانَهُ بِافْتِرَارِهِ» ؛ وَرَأيْتُنِي أُدْرِكُ كُنْهَ «الْحَضْرَةِ»، جَوْهَرًا وَحَقِيقَةً، مِنْ ثَغْرٍ مُفْتَرٍّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، طَبْعُهُ وَطَبِيعَتُهُ وَسَجِيَّتُهُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَرُفِعَتِ الْحُجُبُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ «الْحَضْرَةِ»، وَكَانَتْ شَوَاهِدِي مَشْهُودِي مِنْ أبْطَنِ أبْطِنَتِي، وَتَعَيَّنَتْ هَيْئَةُ «الْهُو»، وَقَدْ زَانَهُ مَا زَانَهُ هُو، شَعْشَعَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا تَطَوُّلٍ، اِرْتِقَائِيُّ فِي غَيْرِ مَا تَوَقُّلٍ؛ وَكَانَ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ، وَكَانَ فِي الْأزَلِ مَا هُوَ حَقٌّ لَهَا، تَفَتَّقَتْ أفْهَامِي عَنْ إدْرَاكِهِ، فَصَدَعْتُ لَغْوًا بِإنْشَادِهِ: هُوَ هَوَ هُوَ هُو * هُوَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» هُو. ﴿مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ .
غَمَرَ الْإسْمُ «الْحَضْرَةَ» بِفَيْضِ الْمَعْنَى، وَأجْلَى «طَيْفُ الْحَسَنِ» قَرِينَةَ الْمَعْنَى: حَاؤُهُ حَدُّ الْمَعْرِفَةِ بِهِ. سِينُهُ تَوَقُّلٌ وَهُبُوطٌ فِي مَوْجَاتِ عِلْمِهِ. نُونُهُ جَنَاحُ اِنْبِسَاطٍ لِعِتْرَتِهِ.
رَأيْتُنِي لَهِفًا عَلَى مَا لَمْ تُدْرِكْهُ الْأفْهَامُ – أفْهَامِي -، وَمُتَلَهِّفًا إلَى مَا قَدْ يَسَعُ الْإفْهَامَ – إفْهَامِي -، وَعَزَّ عَلَيَّ إخْفَاءُ لَهَفٍ عَلَى مَا تَزَأْبَقَ عَنِ النُّهْيَةِ - وَلَا مَفَرّْ -، وَتَعَذَّرَ إبِطَانُ تَلَهُّفٍ إلَى اِلْتِقَافِ الزَّمَانِ الْمُسْتَعَادِ لِمُسْتَقَّرّْ، وَقَدْ رَبَا زَمَنُ الطَّلَبِ فِي اِسْتِقْصَاءِ غَيَاهِبَ أضَاعَتِ الْمَعْنَى بَيْنَ «وَاحَرَّ قَلْبَاهُ» وَ«أيَّ فتًى أضَاعُوا» وَ«لَوْ أنَّ الْفَتَى حَجَرْ» ؛ وَتَوَالَتْ فِي ذِهْنِي صُوَرٌ مُبْهَمَةٌ تَلَبَّسَ بِهَا ضَبَابُ الْاِلْتِبَاسِ، وَقَدَّرْتُ حَجْمَ خَسَارَةِ الْمُرِيدِ بِلَا شَيْخٍ يَبُتُّ فِي النَّظَائِرِ وَالْعِلَلِ وَالْقِيَاسِ، يُجْلِي الْمَكْنُونَ، يُقَرِّبُ الْـ مَادُونَ، يُنْطِقُ الْمَأْفُونَ.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» وَقَدْ عَلِمَ بِأوَانِ أيْنِي، وَإجْلَاءِ مَا حَالَ بَيْنَ «اِعْلَمْ» وَبَيْنِي، وَقَدَّرَ حَجْمَ التَّمَنِي وَالرَّجَاءِ، وَالتَّرَقُّبِ وَالْاِبْتِغَاءِ، وَكَفِلَنِي بِمَا اِفْتَرَّ عَنْهُ ثَغْرُهُ مِمَّا هُوَ مِنْهُ، وَمِنْ طَبْعِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَهَدَأَ فَزَعِي، وسَكَنَ جَزَعِي، وَاِنْفَسَحَ مَرْتَعِي، وَتَأهَّبَ مَسْمَعِي.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» يُبْصِرُنِي الْقَوْلَ بِعَيْنِ قَلْبِي، فَحَسُنَتِ الرُّؤْيَةُ وَازْدَادَ عُجْبِي. أبْصَرَنِي أحْرُفَ الْمَبَانِي سُرْبَةً تَتَهَادَى وَتُهَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا إلَى مَثْوَى الْكَلِمَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْكَلِمَةَ مُسْتَغْرِقَةً فِي حِوَارٍ سِرِّيٍّ مَعَ الْبَصِيرَةِ، مَوْطِنَ الْإدْرَاكِ وَالْفِطْنَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْكَلِمَاتِ تَأْتَلِفُ بِبَعْضِهَا وَتُعِدُّ لِلْجُمْلَةِ مَا اِسْتَطَاعَتْ مِنْ الرَّكُوبِ الْمُطَهَّمَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْجُمَلَ تَمْتَشِقُ نَفْسَهَا مِنْ غِمْدِ الْعَبَثِ وَتَتَحَلَّى بِالْمَعَانِي الْأثِيلَةِ؛ ثُمَّ كَشَفَ لِي عَنْ تَحْنَانِ الْمَعَانِي الْأثِيلَةِ إلَى الْمَعْنَى، الَّذِي هُوَ جوْهَرُ جَدْوَاهُنَّ الْمَكْنُونُ، وَيَسَّرَ لِي الْمَعْنَى فِي مَعْنَى ﴿ثُمَّ ادْعُوهُنَّ يَأتِينَكَ سَعْيًا﴾ ، حَيْثُ كَانَ ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ .
رَأيْتُنِي أتَمَزَّزُ مَا أُتْحِفْتُ بِهِ، مُسْتَسِيغًا طِيبَ مَنْبَعِهِ، وَالْمَعْنَى تُشِعُّ مِنْ مِشْكَاةِ الْألَقْ، ثُمَّ سُرْعَانَ مَا اِسْتَعْذَبْتُ إتْحَافِي وَاِسْتَطَبْتُهُ فَنَهِلْتُهُ، أهْيَفَ، صَادِيًا، نَهِمًا، لَا يَخْشَى الشَّرَقْ. اِسْتَزَدْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ»، وَالْاِسْتِزَادَةُ فِي الْمَقَامِ مِنْ بَابِ أضْعَفِ الْإيمَانِ، ذَاكَ مَا تَهَيَّأَ لِي، أيْنًا وَحِينَا، فَهْيَ تُزَكِّي السَّائِلَ الْبَحْتَ الصِّرْفَ الْخَالِصَ بِمَا تَجْزِيهِ سُؤْلَهُ، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ . ثُمَّ رَأيْتُنِي مُتَحَرِّجًا مِنْ نَهَمِي، فَثَبَّتَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» قَدَمِي، قَائِلًا – حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: إنَّ لِلْعِلْمِ اِسْتِجَاعَةً. وَاِسْتِجَاعَتُهُ أنَّ صَاحِبَهُ مَنْهُومٌ لَا يَشْبَعْ.
رَأيْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» وَقَدْ اِسْتَبْصَرَنِي، وَأبْصَرَ جَوَّانِيَّ وَهُوَ الْحَاذِقُ الْمُبْصِرُ لِمَا هَالَنِي، وَالنُّقْطَةُ دُونِي وَدُونَهَا دَوَائِرُ فِي مَفَازَاةٍ سُحْقٍ تُحْدِقُ بي، وَخَاطَبَنِي عَلَى مِنْوَالِ مَا عَهِدْتُهُ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فِي رِقَّةٍ وَدِقَّةٍ وَاِفْتِرَارِ ثَغْرٍ عَنْ تَبَسُّمٍ حَسَنٍ، قَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: وَكَأنِّي بِكَ مِنْ زُمْرَةِ مَنْ اِسْتَجَاعَ. قُلْتُ: هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَعَادُ مِمَّا ضَاعَ، عَلَيَّ فِيهِ وِرْدَ «مَنْ اِسْتَطَاعَ». ثُمَّ اِحْتَبَسَتْ جَوَامِحُ الْفِكَرِ وَعَزَّتْ إبَانَتِي، وَعَرْقَلَتْ حُبْسَةُ مَّا ذِهْنِي عَنِ الْإحَاطَةِ، فَسَألْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» عَمَّا خَطَرَ وَالْتَمَعَ فِي خَلَدِي، مِنْ قَبِيلِ الْفَهْمِ وَالْإفْهَامْ، وَفِي سَرِيرَتِي مَا يَعْلَمُهُ مِنْ تَوْقِي لِاتِّسَاعِ فَهْمِي ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ، فَهْمًا يَسَعُ الْأفْهَامْ. قَالَ عَنْ مِنَّةِ ﴿الْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ، وَحُظْوَةِ الْبَشَرِ بِعِلْمِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ أعْمَلَ الْفَيْصَلَ بَيْنَ السُّؤْلِ وَالسُّؤَالِ، وَوَضَعَنِي مَوْضِعَ الْاِسْتِقْصَاءِ بِالسُّؤَالِ.
أبْصَرْتُهُ يَسْألُنِي، - وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا ضَيْرَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ هُوَ، قُلْتُ بِمَا شَاءَ لِي قَوْلَهُ، أوْ تَصَوَّرْتُهُ مِنْهُ هُوَ، فَقُلْتُ - قَالَ «طَيْفُ الْحَسَنِ»: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ فِيهِ مِنَ الرِّقَّةِ وَاللُّطْفِ، وَالْحِذْقِ وَالظَّرْفِ، وَالرَّشَاقَةِ وَالْخِفِّ، مَا تَتَنَاوَلُ عُذُوبَتَهُ وَلَذَاذَتَهُ ألْسُنُ وَمَسَامِعُ الْأَنَامِ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ ثَنَّى السُّؤَالَ، وَثَغْرُهُ مُفْتَرٌّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، وَقَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ طَلْقٍ، فَصِيحٍ، فِيهِ مِنَ الْجَزَالَةِ وَالْحَصَافَةِ وَالْمَضَاءِ مَا لَا يَقِلُ جَانِبُهُ عَنِ الْأفْهَامِ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ ثَلَّثَ السُّؤَالَيْنِ، وَسِيمَاهُ سِيمَاؤُهُ، وَقَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ يَصْقُلُ الْمَعْنَى صِقَالًا، فَيَجْلِي عَنْهَا الْخَبَلَ وَيُيَسِّرُهَا لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي صَمْتٍ مِنْجَابِ، مُسْتَحِثًّا رَجْعَ الْحَدِيثِ فِي كُنْهِ الْجَوَابِ، فَوَقَعْتُ فِي حَيْصَ بَيْصَ وَعَزَّ فَصْلُ الْخِطَابِ، وَبَعْدَ لَأْيٍ، فِي إبْطَاءٍ وَاِحْتِبَاسٍ، نَطَقْتُ، وَكَلَاعِبِ كُرَةٍ أهْوَجَ، تَعَجَّلْتُ الْخَلَاصَ، لَئِلَّا تَأتِي الْغَلَبَةُ عَلَيَّ وَتَضِيعَ الْكَرَةُ مِنِّي وَأصِيرُ هُزْأةً؛ أجَبْتُ، رَأيْتُنِي عَجْلَانَ، قُلْتُ: بَلَى، أنَا تَوَّاقٌ لِلْأمْرِ بِمَا يُرْضِي بَعْضَ الْمُبْتَغَى، وَعِنْدِيَ نَزْعَةٌ إلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ لِي بِمَثَابَةِ «مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ» هَنِيًّا، مِلْءَ جَفْنَيْهِ؛ أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» يَقُولُ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - وَثَغْرُهُ مُفْتَرٌّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ: تَوَقَانُكَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ ذِي لَذَاذَةٍ وَعُذُوبَةٍ، يُحِيطُ بِهِ الْفَهْمُ وَيَسْتَوْعِبُهُ مِنْ غَيْرِ مَا مَشَقَّةٍ، وَيَجِدُ سَبِيلَهُ إلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِأيْسَرَ مَيْسِرَةٍ، حُسِمَ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ، فِي شَتَّى الْأوْجُهِ وَالْأبْوَابِ، مِنْهَا بَابُ الْبَلِيغِ التَّامِّ الصِّرْفِ، بِمَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى نَحْوِ: «فَإنْ أمْكَنَكَ أنْ تَبْلُغَ مِنْ بَيَانِ لِسَانِكَ، وَبَلَاغَةِ قَلَمِكَ، وَلُطْفِ مَدَاخِلِكَ، وَاِقْتِدَارِكَ عَلَى نَفْسِكَ، عَلَى أنْ تُفْهِمَ الْعَامَّةَ مَعَانِيَ الْخاَصَّةِ، وَتَكْسُوَهَا الْألْفَاظَ الْوَاسِطَةَ الَّتِي لَا تَلْطُفُ عَنِ الدَّهْمَاءِ، وَلَا تَجْفُوا عَنِ الْأكْفَاءِ» ، كُنْتَ الْبَلِيغَ التَّامَّ الصِّرْفَ؛ وَمِنْهَا بَابُ الْبَلِيغِ التَّامِّ الْمُلْتَبِسِ، بِمَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى نَحْوِ: «كُلُّ عَقْلٍ وَذَوْقٍ رَاقٍ يَنْتَقِي مَنْ يُرِيدُهُ أنْ يُقَاسِمَ أفْكَارَهُ، وَمُسْتَمِعِيهِ أيْضًا؛ وَفِيمَا هُوَ يَنْتَقِيهُمْ يَضَعُ حَوَاجِزَ أمَامَ الْآخَرِينَ. وَكُلُّ الْقَوَانِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأسْلُوبِ نَابِعَةٌ مِنْ هُنَا: تَصُدُّ، وَتُقِيمُ مَسَافَةً، وَتَمْنَعُ مِنَ "الدُّخُولِ"، أيْ مِنَ الْفَهْمِ» ، كُنْتَ عَلَى غِرَارِ مَنْ لَا يُرِيدُ أنْ يَكُونَ مَفْهُومًا مِنْ طَرَفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي، وَكُنْتَ الْبَلِيغَ التَّامَّ الْمُلْتَبِسَ.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» مُسْتَغْرِقًا فِي صَمْتِهِ، وَأبْصَرْتُ لِهَالَةِ الْمَعَانِي شَعْشَعَةً تُحِيطُ بِهِ، ثُمَّ أبْصَرْتُ ثَغْرَهُ مُفْتَرًّا عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، يَسْتَوْدِعُنِي تَوْصِيَّةً، قَائِلًا - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - : بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ أُوصِيكَ، وَالْوَصَايَا لَا تَرُوقُ إلَّا لِقَائِلِهَا، أقُولُ: حَيْثُ إنَّكَ، فِي صِنَاعَةِ الْأُسْلُوبِ، فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ اللَّيْسِيَّةِ بِمَا تنْفِيهِ وَالْأيْسِيَّةِ بِمَا تُثْبِتُهُ، فَلَا تَهْتَمَّ وَتَحَارَ لِأمْرِ بَلَاغَتِكَ، حَتَّى تَجْعَلَهَا سَجِينَةَ مَحْبِسَيْ جَدْوَى الْمُكُوثِ فِي الْأرْضِ وَعَبَثَ الذَّهَابِ جُفَاءَ، إذْ لَا جَدْوَى وَلَا نَفْعًا وَلَا عَبَثًا وَلَا زَبَدًا بِمَنْأى عَنْ تَقْدِيرِ الْأغْيَارِ؛ فَالْمَعْنَى وَالتَّأوِيلُ وَالتَّقْدِيرُ مَنَاطُ الْأغْيَارِ، بِحُكْمِ الشَّيْءِ الْمَنْصُوصِ وَاِتِّسَاعِهِ، فِي الزَّمَنِ الْمَخْصُوصِ وَاِنْقِبَاضِهِ. ثُمَّ أبْصَرْتُهُ وَقَدْ نَظَرَ إلَيَّ مَلِيًّا يَحْسُمُ فَصْلَ الْخِطَابِ، فِي شَتَّى الْأوْجُهِ وَالْأبْوَابِ، قَائِلًا - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: لَعَلَّ سَعْيَكَ لِاِمْتِلَاكِ نَاصِيَّةِ الْأُسْلُوبِ بِمَا تَشْتَهِي الْأُسْلُوبِيَّةُ، وَهَلْهَلَةِ الْخِطَابِ السِّرِّيِّ السَّارِي بَيْنَ السَّدَى وَاللُّحْمَةِ وَالنِّيرَةِ، وَإلْزَامِكَ لِنَفْسِكَ شَيْئًا لَيْسَ يَلْزَمُهَا مِنَ الْقَوْلِ التَّلِيدِ، وَإبْدَالِ السَّهْلِ الْمُنْسَاقِ بِالْمُتَمَنِّعِ الْمُجِنِّ عَنِ التَّوْلِيدِ، هُوَ مِلَاحَةٌ بِأسْطُرْلَابٍ مَخْصُوصٍ، لَا مَكْمُولٍ وَلَا مَنْقُوصٍ، بَيْنَ أرْخَبِيلَاتِ الثُّلُثِ الْخَالِي، حَيْثُ تَعِزُّ الْفُلْكُ وَالْمَرَافِئُ وَالنَّوَاتِيُّ وَالْمَلَّاحُونَ وَالصَّوَارِي وَالْقِلَاعْ، وتَتَعَرَّضُ السَّفُونُ الْمُهَرَّبَةُ إلَى نَقِيرِ الصُّخُورِ الْبَاطِنِيَّةِ فَيُعَرْقَلُ إبْحَارُهَا، وَتَعْهَنُ عُهُونَا، وَيَمَّحِي جِسْمُهَا وَيَنْدَرِسُ رَسْمُهَا، وَمَا بِهَا جُمُوحٌ وَلَا بِهَا اِنْصِيَاعْ. وَالْقَوْلُ، وَأَنْتَ تَمْتَحُ لِمُعَاقَرَةِ الْمَعْنَى، مِنْ سُقْيَا أطْيَبِ الْأُرُومَةِ، نُجَارًا؛ وَأَنْتَ تَجْنُحُ لِمُعَاقَرَةِ الْمَبْنَى عَلَى مَا لَا يَقِلُّ مِنْ جَزَالَةٍ وَحَلَاوَةٍ وَحَصَافَةٍ مِنْ أبْلَغِ الْقَوْلِ، اِقْتِدَارًا، يَتَجَلَّى الْمَعْنَى وَالْمَبْنَى وَالْمَعِيَّةُ تَخْفِرُهُمَا، وَجْهَانِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مُتَقَارِبَانِ وَلَا تَشَابُهَ. وَاحِدٌ فِي أحَدِ. فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُهُمَا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَرَمَانِي بِالسُّؤَالِ: «وَهَلْ يَكُونُ الذَّاكِرَانِ إلَّا مَعًا؟» . ثُمَّ أضَافَ: وَفِي خِضَمِّ هَذَا، قَدْ نَتَجَاهَلُ أنَّ حَاجَتَنَا لِمَبْنًى وَمَعْنًى، وَاحِدٌ فِي أحَدٍ، لَا مِرَاءَ فِيهَا، وَنَجْهَلُ أنَّ لَنَا حَاجَةً مَاسَّةً لِلْآذَانِ وَالْإنْصَاتِ ، وَالْأذْهَانِ وَالْأفْئِدِةِ وَالْأبْصَارِ، وَلِمَا يُذَكِّي قَبَسَهَا فَتَبْدُو جَلِيَّةً لِلْأنْظَارِ. ثُمَّ أرَادَنِي عَلَى اللَّغْوِ، فَاسْتَلْغَانِي، وَقَالَ «قُلْ».
أشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي فَجَفَلْتُ فَزَعَا، وَرَاجَعْتُ نَفْسِي فَتَلَاشَتْ جَزَعَا. أبْصَرْتُهُ، وَقَدْ أحَسَّ بِمَا ألْجَمَنِي، فَبَسَطَ «حَاءَهُ» رَحْمَةً، فَجَزَّعَنِي، وَاِسْتَبْطَنَ مَعِينَهُ، فَافْتَرَّ ثَغْرُهُ، وَأنْطَقَ فِعْلَ شَرْطٍ فِي طَيِّهِ الْخَبَرُ، وَزَكَّى الْفِعْلَ الْمَرْهُونَ بِقَوْلِ: «وَإِنْ صَبَرْنَا فَإِنَّا مَعْشَرٌ صُبُرُ» . وَأبْصَرْتُهُ وَقَدْ أجْزَعَ بِي وَادِي الْمَخَاوِفِ وَالظُّنُونْ، أوْفَى الْكَيْلَ وَمَا ضَنَّ عَلَيَّ وَمَا كُنْتُ بِمَغْبُونْ، «فَسَهُلَ مَا كَانَ وَعْرًا، وَهَانَ مَا كَانَ عَزِيزًا، وَلَانَ مَا كَانَ شَدِيدًا» ، وَتَحَرَّجْتُ مِنْ خِيَارِ «قُلْ أوْ زُلْ»، وَتَلَبَّسْتُ دَوْرِي فِي غَيَاهِبِ «قُلْ».
رَأيْتُ خِيَارَ «قُلْ أوْ زُلْ» يَتَحَرَّشُ بِي وَيُرْبِكُنِي، إلَى أنْ اِلْتَمَعَ بِخَاطِرِي سُؤْلُ مُوسَى فَالْتَمَعَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» حَقِيقَةَ مَا اِلْتَمَعَ بِخَاطِرِي، وَخَاطَبَنِي - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - : «لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمعَانِي لِلْمُتَوَانِي وَلَا الْفَانِي» ، إذْ لَنْ تُؤْتَى سُؤْلَكَ إلَّا وَأنْتَ عَلَى «سَفَرٍ كَبِيرٍ».
رَأيْتُنِي أسْتَيْقَظُ عَلَى طَعْمِ السَّفَرِ الْكَبِيرِ فِي صَدْرِي، وَحَقَّ عَلَيَّ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ، وَأشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي مِنْ سِينِهِ وَأمْوَاجِهَا وَمَا يَلْتَمِعُ بَيْنَ ﴿وزْرَكَ﴾ وَ﴿ذِكْرَكَ﴾ . ثُمَّ رَأيْتُنِي أُعَاوِدُ حَالِي فِي التَّوَسُّلِ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُنِي، وَبَقِيَتْ أحْوَالِي عَلَى حَالِ الْحَثِّ بِمَا يُحْرِجُنِي، إلَى أنْ اِخْتَلَطَتْ كُلُّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَأمْسَكَتْ دَوْرَةُ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَاِنْصَهَرَ طَفِيفُ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ وَبِمَا حَوْلِي مِمَّا لَمْ آبَهْ بِهِ.
رَأيْتُنِي وَقَدْ طُوِيَتْ مَسَافَاتُ «السَّفَرِ الْكَبِيرِ» طَيَّ كِتَابٍ، وَأنَاخَتِ الْبَيْضَاءُ غُرَّتَهَا بِمَكْنَاسَةَ الزَّيْتُونَ، فِي غَيْرِ مَا اِسْتِغْرَابٍ. وَرَأيْتُنِي أتَفَقَّدُ أمَاكِنَ الْعُهْدَةِ بِهِ، تِبَاعًا تِبَاعَا، وَفِي نَفْسِ الْآنِ الْآنِ، وَلَا رَوْعَ لَا اِرْتِياعَ، أسْتَنْبِئُ حَمْرِيَّةَ عَنْ حَاءٍ هِيَ حَدُّ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَعَنْ سِينٍ هِي تَوَقُّلٌ وَهُبُوطٌ فِي مَوْجَاتِ عِلْمِهِ، وَعَنْ نُونٍ هِيَ جَنَاحُ اِنْبِسَاطٍ لِعِتْرَتِهِ.
ثُمَّ رَأيْتُ سُبَاتِي يَجْنَحُ بِي مِنْ حَمْرِيَّةَ إلَى سَرَاگْ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيَّ طَرْفِي، وَأنَا فِي وَسَنْ، وَرَأيْتُنِي أحَاوِلُ تَحَدِّي مَمْنُوعَاتِ زَمَنِ كُورُونَا لِأُشَيِّعَ الْحَسَنَ إلَى الْمَثْوَى الْحَسَنْ. وَرَأيْتُ مَا دُونِي وَدُونَ «بِينْ الُقْبَبَ» عَسَسٌ مُطَهَّمَةٌ مُدَجَّجَةٌ بِصِيَغِ الْمَمْنُوعَاتِ، وَرَأيْتُنِي مُحَاصَرًا بِمَا تَمَنَّعَ، وَمَا تَعَذَّرَ، وَمَا تَرَتَّبَ عَمَّا تَعَذَّرَ، وَمَا خَرَجَ عَنْ إمْكَانَاتِي. وَرَأيْتُنِي رَفُوسًا ألُوكُ اللِّجَامَ مِنْ غَبَنِي، أتَرَقَّبُ الْجِنَازَةَ بَعَشْرِ مُشَيِّعِينَ، حَسَبَ الْمَسْمُوحِ بِهِ الْمَمْنُوعِ بِهِ، فَإذَا الْمَوْكِبُ جَمْهَرَةٌ لَا عَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، تَلْتَفُّ حَوْلَ النَّعْشِ، تُشِيدُ بِهِ.
وَرَأيْتُ كُلَّ الْأحْوَالِ اِتَّسَقَتْ فِي سَكِينَةِ الْحَالِ الْأوْحَدِ، وُكُلُّ دَوْرَةٍ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أمْسَكَتْ عَنْ دَأْبِهَا الْمُتَعَوَّدِ، فَأدْهَشَنِي مَا رَأيْتُ وَحَيَّرَنِي وَأرْبَكَنِي، وَفِي لُجَّةِ الدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ وَالْإرْبَاكِ أسْكَنَنِي، فَغَمَرَتْنِي هَدْأَةٌ، وَقَادَتْنِي إمْرَةٌ، وَتَخَلَّيْتُ عَنِ النَّظَرِ، وَتَطَلَّعْتُ إلَى الْخَبَرِ، حَتَّى لَمَسَ كَتِفِي رَجُلٌ مُشْتَبَهُ الْعُمُرِ وَالْأعْمَارْ، عَلَيْهِ هَالَةٌ تَكَادُ تَلْمِسُ الْبَصَرَ وَالْأبْصَارْ، حَدَسْتُ أنَّهُ الْخَضِرَ، مُعَلِّمُ الْمَعْرِفَةِ السِّرِّيَّةِ، وَالْغَوْثُ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ مِنَ الْمِحَنِ الرُّوحِيَّةِ، وَأدْرَكْتُ لَهُ قَوْلًا جَوَّانِيًّا مَفَادُهُ: «اِسْتَقْدَمْتُ مَا اِجْتَمَعَ مِنَ الْمَاءِ إلَى الْمَاءِ مِنْ كُتَّابٍ وَأُدَبْاءٍ وَشُعَرَاءٍ وَفُقَهَاءٍ وَمُتَكَلِّمَةٍ وَمُعْتَزِلَةٍ وَصُوفِيَّةٍ وَمِنَ الْأهْلُونِ وَأهْلِ الْأهْلُونِ، لِأنْ لَا يَدْخُلَ الْحَسَنُ الْبَرْزَخَ وَأعْيُنُ الْأهْلُونِ كَلِيلَةٌ، وَهِمَمُهُمْ ضَئِيلَةٌ.» وَتَهَيَّأَ لِي مِنْهُ أمْرُ «اِبْصِرْ»، فَجَلَوْتُ الْغَشَاوَةَ عَنْ نَظَرِي، وَاسْتَكَنْتُ إلَى بَصَرِي، فَأبْصَرْتُكُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، جَمِيعًا جَمِيعًا، تَمْشُونَ فِي الْجَمْهَرَةِ، وَتَهَيَّأَ لِي مِنْهُ قَوْلُ: «هُوَ الْوَافِدُ الْمَجْبُورُ وَالْحَامِلُ الَّذِي * إِذَا النَّعْلُ يَومًا بِالْعَشِيرَةِ زَلَّتِ» ، ثُمَّ تَخَفَّى عَنِّي وَتَرَكَنِي مُعَلَّقًّا فِي «إنِّي»، فَاسْتَلْغَيْتُ «إنِّي» وَبَاحَتْ بِظَنِّي. قَالَتْ: بُوِّئْتَ مَوْقِعَ الْقَوْلِ، فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوصٍ؛ وَأبْصَرْتَ، بِجَوَّانِيَّكَ، الْعِلْمَ وَالْوَفَاءَ مَقْرُونَيْنِ كَفِعْلِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي الْمَقَالِ، وَمِقْرَنِ الْعِلْمِ بِالْوَفَاءِ فِي الْمَقَامِ؛ وَوَقَفْتَ عَلَى الْوَفَاءِ عِرْفَانًا لِلْعَالِمِ ذِي الْعِلْمِ الْمُهْرَاقِ، وَشَاهَدْتَ وَمْضَةً رَبَّانِيَّةً اِلْتَفَّتْ فِيهَا السَّاقُ بِالسَّاقِ. وَتَذَارَكَتْ «مَا وَدَّعْتَ الصَّبْرَ حِينَ مَا وَدَّعْتَهُ، وَلَا قَرَعْتَ السِّنَّ حِينَ مَا شَيَّعْتَهُ، وَلَا كَانَ أنْ زِدْتَ فِي الْخَطْوِ، وَلَا أبْدَلْتَ دَلَفَكَ بِالشَّأْوِ»، وَعَفَّتْ «إنِّي» عَنْ فَضْحِ ظَنِّي.
وَفِي «رَوْضَةِ مُولَايْ اِسْمَاعِيلْ» حَسُنَ تَوْدِيعِيَ الْحَسَنَ. وَحَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي، طَلَبْتُ الْخَتْمَ مِنْهُ فَتَلَطَّفَ وَأوْمَأَ بِرَأسِهِ إلَيْكُمْ وَتَشَهَّى. قَالَ: «إنَّا قَوْمٌ مُنْقَطَعٌ بِنَا، فَحَدِّثُونَا أَحَادِيثَ نَتَجَمَّلُ بِها.»
وَقَدْ بُوِّئْتُ مَوْقِعَ الْقَوْلِ، فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوصٍ؛ أيْ «الْعِلْمُ وَالْوَفَاءُ»، أبْصَرْتُ، بِجَوَّانِيَّ، «الْعِلْمَ وَالْوَفَاءَ» مَقْرُونَانِ بِـ«الْحَضْرَةِ»، بِمَا هِيَ ِثَالِثَةُ ثَلَاثَةٍ، كَفِعْلِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي الْمَقَالِ، وَمِقْرَنِ الْعِلْمِ بِالْوَفَاءِ فِي الْمَقَامِ، وَتَأهَّبْتُ لِلْقَوْلِ.
أُشْعِرْتُ بِوُجُوبِ الْإيجَازْ، مَعَ الْعِلْمِ أنَّ بَعْضَ الْإيجَازِ إعْجَازْ، لَاسِيَّمَا أنَّ الْقَوْلَ فِي «الْحَضْرَةِ» رُكُوبُ بَحْرٍ ذِي عُبَابْ، وَأنِي جُبِلْتُ عَلَى الْإيضَاحَاتِ بِالْإطَالَةِ وَالإطْنَابْ.
حَسْبُكمْ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ.
الزَّمَانُ الْمُسْتَعَادُ
فَاضَتِ الْمَعْنَى عَلَى الْعِبَارَةِ، وَتَحَرَّيْتُ حُسْنَ الصِّيَاغَةِ، وَاِلْتَمَسْتُ سُؤَالِي، وَدَارَيْتُ أغْلَالِي، وَتَحَوَّلَ السُّؤَالُ سُؤْلَ سَائِلٍ، وَالتَّوَاضُعُ شَرْطٌ لِكُلِّ مُتَوَسِّلٍ. فَبَقَيْتُ عَلَى حَالِي فِي التَّوَسُّلِ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُنِي، وَبَقِيَتْ أحْوَالِي عَلَى حَالِ الْحَثِّ بِمَا يُحْرِجُنِي، إلَى أنْ خَلَّصَنِي مِنْهَا هَفِيفُ نُعَاسٍ تَوَالَى وَسَنًا، ثُمَّ تَرْنِيقًا، ثُمَّ غُمْضًا وَكَرَى، ثُمَّ تَغْفِيقًا، ثُمَّ إغْفَاءً، ثُمَّ تَهْوِيمًا وَغِرَارًا وَتِهْجَاعًا، ثُمَّ رُقَادًا، ثُمَّ هُجُودًا وَهُجُوعًا وَهُبُوعًا، ثُمَّ تَسْبِيخًا، فَاخْتَلَطَتْ كُلُّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَأمْسَكَتْ دَوْرَةُ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَانْصَهَرَ طَفِيفُ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ وَبِمَا حَوْلِي مِمَّا لَمْ آبَهْ بِهِ.
أثْنَاءَ اِخْتِلَاطِ كُلِّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَإمْسَاكِ دَوْرَةِ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَانْصِهَارِ طَفِيفِ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ، رَأيْتُنِي فِي حَضْرَةِ «الْحَضْرَةِ» فِي عَلْيَائِهَا، فَتَبَدَّى مِنِّي جَزَعُ الْهَلَعِ وَالْوَهَنْ، وَقَدْ خُلِقْتُ وَهْنَا عَلَى وَهْنٍ عَلَى وَهَنْ. وَمَعَ هذَا، رَأيْتُنِي اَسْتَبْشِرُ خَيْرًا بِمَا أنَا فِيهِ، وَرَأيْتُ الْفُؤَادَ يَشْدُو شَدْوَ أمَانِيهِ، وَرَأيْتُنِي عَلَّقْتُ مُعَوَّلِي عَلَى «الْحَضْرَةِ»، لِتُسْعِفُنِي بِحَاجَةِ مَا الْتَمَعَ بِخَلَدِي، فَعِيلَ مِنْهُ صَبْرِي وَجَلَدِي، وَتَأهَّبْتُ لِلْقَوْلِ، وَرَأيْتُنِي أسَائِلُ نَفْسِي وَالسُّؤْلُ مَهْدُولْ، مَاذَا عَسَانِي أقُولْ؟
وَعَلَى الْأيْنِ وَالْإعْيَاءِ رَأيْتُ حَالَاتِي تَسْتَحِثُّنِي عَلَى الْكَشْفِ عَنْ شَوَارِدِ فِكَرِي وَالْبَوْحِ بِهَا، فَرَأيْتُنِي أتَوَسَّلُ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُ مِنْوالَ الْكَلَامِ الـْمِطْوَاعِ، وَيُوتِي بِخِرْقَةٍ ذَاتِ نَسَبٍ مُؤْنِقَةٍ لِلْأسْمَاعِ، وَيَتَشَعَّبُ الْقَوْلُ فِيهِ بِمَا يَنْفُذُ كَزَيْتٍ فِي حَلَجِ الْبَصَائِرِ، يُرَاعِي النَّظِيرَ وَيَشُدُّ عَضُدَ النَّظَائِرِ؛ إلَى أنْ تَبَدَّتْ لِي «الْحَضْرَةُ» فَأبْهَرَتْنِي بِمَا تَبَدَّتْ لِي.
أبْصَرْتُهَا فَأدْهَشَتْنِي وَحَيَّرَتْنِي، وَسُرْعَانَ مَا آنَسَتْنِي، فَشَمَلَتْنِي بِأُلْفَةِ مَا عَهِدْتُهُ، وَرَفَعَتْنِي عَنْ غَمْزَةِ مَا اِسْتَهْجَنْتُهُ، فَأدْرَكْتُ كُنْهَهَا مِنْ سِمَةٍ لَصِيقَةٍ بِهَا، لَا تَزَاوَرُ عَنْهَا وَلَا تَمِيلْ، يُوجِزُهَا شِعْرُ السَّلَفِ الْأثِيلْ: «فَظَلَّ يُنَاغِيكَ الْكَلَامَ بِمَنْطِقٍ * رَقِيقِ الْحَوَاشِي زَانَهُ بِافْتِرَارِهِ» ؛ وَرَأيْتُنِي أُدْرِكُ كُنْهَ «الْحَضْرَةِ»، جَوْهَرًا وَحَقِيقَةً، مِنْ ثَغْرٍ مُفْتَرٍّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، طَبْعُهُ وَطَبِيعَتُهُ وَسَجِيَّتُهُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَرُفِعَتِ الْحُجُبُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ «الْحَضْرَةِ»، وَكَانَتْ شَوَاهِدِي مَشْهُودِي مِنْ أبْطَنِ أبْطِنَتِي، وَتَعَيَّنَتْ هَيْئَةُ «الْهُو»، وَقَدْ زَانَهُ مَا زَانَهُ هُو، شَعْشَعَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا تَطَوُّلٍ، اِرْتِقَائِيُّ فِي غَيْرِ مَا تَوَقُّلٍ؛ وَكَانَ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ، وَكَانَ فِي الْأزَلِ مَا هُوَ حَقٌّ لَهَا، تَفَتَّقَتْ أفْهَامِي عَنْ إدْرَاكِهِ، فَصَدَعْتُ لَغْوًا بِإنْشَادِهِ: هُوَ هَوَ هُوَ هُو * هُوَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» هُو. ﴿مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ .
غَمَرَ الْإسْمُ «الْحَضْرَةَ» بِفَيْضِ الْمَعْنَى، وَأجْلَى «طَيْفُ الْحَسَنِ» قَرِينَةَ الْمَعْنَى: حَاؤُهُ حَدُّ الْمَعْرِفَةِ بِهِ. سِينُهُ تَوَقُّلٌ وَهُبُوطٌ فِي مَوْجَاتِ عِلْمِهِ. نُونُهُ جَنَاحُ اِنْبِسَاطٍ لِعِتْرَتِهِ.
رَأيْتُنِي لَهِفًا عَلَى مَا لَمْ تُدْرِكْهُ الْأفْهَامُ – أفْهَامِي -، وَمُتَلَهِّفًا إلَى مَا قَدْ يَسَعُ الْإفْهَامَ – إفْهَامِي -، وَعَزَّ عَلَيَّ إخْفَاءُ لَهَفٍ عَلَى مَا تَزَأْبَقَ عَنِ النُّهْيَةِ - وَلَا مَفَرّْ -، وَتَعَذَّرَ إبِطَانُ تَلَهُّفٍ إلَى اِلْتِقَافِ الزَّمَانِ الْمُسْتَعَادِ لِمُسْتَقَّرّْ، وَقَدْ رَبَا زَمَنُ الطَّلَبِ فِي اِسْتِقْصَاءِ غَيَاهِبَ أضَاعَتِ الْمَعْنَى بَيْنَ «وَاحَرَّ قَلْبَاهُ» وَ«أيَّ فتًى أضَاعُوا» وَ«لَوْ أنَّ الْفَتَى حَجَرْ» ؛ وَتَوَالَتْ فِي ذِهْنِي صُوَرٌ مُبْهَمَةٌ تَلَبَّسَ بِهَا ضَبَابُ الْاِلْتِبَاسِ، وَقَدَّرْتُ حَجْمَ خَسَارَةِ الْمُرِيدِ بِلَا شَيْخٍ يَبُتُّ فِي النَّظَائِرِ وَالْعِلَلِ وَالْقِيَاسِ، يُجْلِي الْمَكْنُونَ، يُقَرِّبُ الْـ مَادُونَ، يُنْطِقُ الْمَأْفُونَ.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» وَقَدْ عَلِمَ بِأوَانِ أيْنِي، وَإجْلَاءِ مَا حَالَ بَيْنَ «اِعْلَمْ» وَبَيْنِي، وَقَدَّرَ حَجْمَ التَّمَنِي وَالرَّجَاءِ، وَالتَّرَقُّبِ وَالْاِبْتِغَاءِ، وَكَفِلَنِي بِمَا اِفْتَرَّ عَنْهُ ثَغْرُهُ مِمَّا هُوَ مِنْهُ، وَمِنْ طَبْعِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَهَدَأَ فَزَعِي، وسَكَنَ جَزَعِي، وَاِنْفَسَحَ مَرْتَعِي، وَتَأهَّبَ مَسْمَعِي.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» يُبْصِرُنِي الْقَوْلَ بِعَيْنِ قَلْبِي، فَحَسُنَتِ الرُّؤْيَةُ وَازْدَادَ عُجْبِي. أبْصَرَنِي أحْرُفَ الْمَبَانِي سُرْبَةً تَتَهَادَى وَتُهَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا إلَى مَثْوَى الْكَلِمَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْكَلِمَةَ مُسْتَغْرِقَةً فِي حِوَارٍ سِرِّيٍّ مَعَ الْبَصِيرَةِ، مَوْطِنَ الْإدْرَاكِ وَالْفِطْنَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْكَلِمَاتِ تَأْتَلِفُ بِبَعْضِهَا وَتُعِدُّ لِلْجُمْلَةِ مَا اِسْتَطَاعَتْ مِنْ الرَّكُوبِ الْمُطَهَّمَةِ؛ وَأبْصَرَنِي الْجُمَلَ تَمْتَشِقُ نَفْسَهَا مِنْ غِمْدِ الْعَبَثِ وَتَتَحَلَّى بِالْمَعَانِي الْأثِيلَةِ؛ ثُمَّ كَشَفَ لِي عَنْ تَحْنَانِ الْمَعَانِي الْأثِيلَةِ إلَى الْمَعْنَى، الَّذِي هُوَ جوْهَرُ جَدْوَاهُنَّ الْمَكْنُونُ، وَيَسَّرَ لِي الْمَعْنَى فِي مَعْنَى ﴿ثُمَّ ادْعُوهُنَّ يَأتِينَكَ سَعْيًا﴾ ، حَيْثُ كَانَ ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ .
رَأيْتُنِي أتَمَزَّزُ مَا أُتْحِفْتُ بِهِ، مُسْتَسِيغًا طِيبَ مَنْبَعِهِ، وَالْمَعْنَى تُشِعُّ مِنْ مِشْكَاةِ الْألَقْ، ثُمَّ سُرْعَانَ مَا اِسْتَعْذَبْتُ إتْحَافِي وَاِسْتَطَبْتُهُ فَنَهِلْتُهُ، أهْيَفَ، صَادِيًا، نَهِمًا، لَا يَخْشَى الشَّرَقْ. اِسْتَزَدْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ»، وَالْاِسْتِزَادَةُ فِي الْمَقَامِ مِنْ بَابِ أضْعَفِ الْإيمَانِ، ذَاكَ مَا تَهَيَّأَ لِي، أيْنًا وَحِينَا، فَهْيَ تُزَكِّي السَّائِلَ الْبَحْتَ الصِّرْفَ الْخَالِصَ بِمَا تَجْزِيهِ سُؤْلَهُ، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ . ثُمَّ رَأيْتُنِي مُتَحَرِّجًا مِنْ نَهَمِي، فَثَبَّتَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» قَدَمِي، قَائِلًا – حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: إنَّ لِلْعِلْمِ اِسْتِجَاعَةً. وَاِسْتِجَاعَتُهُ أنَّ صَاحِبَهُ مَنْهُومٌ لَا يَشْبَعْ.
رَأيْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» وَقَدْ اِسْتَبْصَرَنِي، وَأبْصَرَ جَوَّانِيَّ وَهُوَ الْحَاذِقُ الْمُبْصِرُ لِمَا هَالَنِي، وَالنُّقْطَةُ دُونِي وَدُونَهَا دَوَائِرُ فِي مَفَازَاةٍ سُحْقٍ تُحْدِقُ بي، وَخَاطَبَنِي عَلَى مِنْوَالِ مَا عَهِدْتُهُ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فِي رِقَّةٍ وَدِقَّةٍ وَاِفْتِرَارِ ثَغْرٍ عَنْ تَبَسُّمٍ حَسَنٍ، قَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: وَكَأنِّي بِكَ مِنْ زُمْرَةِ مَنْ اِسْتَجَاعَ. قُلْتُ: هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَعَادُ مِمَّا ضَاعَ، عَلَيَّ فِيهِ وِرْدَ «مَنْ اِسْتَطَاعَ». ثُمَّ اِحْتَبَسَتْ جَوَامِحُ الْفِكَرِ وَعَزَّتْ إبَانَتِي، وَعَرْقَلَتْ حُبْسَةُ مَّا ذِهْنِي عَنِ الْإحَاطَةِ، فَسَألْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» عَمَّا خَطَرَ وَالْتَمَعَ فِي خَلَدِي، مِنْ قَبِيلِ الْفَهْمِ وَالْإفْهَامْ، وَفِي سَرِيرَتِي مَا يَعْلَمُهُ مِنْ تَوْقِي لِاتِّسَاعِ فَهْمِي ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ، فَهْمًا يَسَعُ الْأفْهَامْ. قَالَ عَنْ مِنَّةِ ﴿الْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ، وَحُظْوَةِ الْبَشَرِ بِعِلْمِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ أعْمَلَ الْفَيْصَلَ بَيْنَ السُّؤْلِ وَالسُّؤَالِ، وَوَضَعَنِي مَوْضِعَ الْاِسْتِقْصَاءِ بِالسُّؤَالِ.
أبْصَرْتُهُ يَسْألُنِي، - وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا ضَيْرَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ هُوَ، قُلْتُ بِمَا شَاءَ لِي قَوْلَهُ، أوْ تَصَوَّرْتُهُ مِنْهُ هُوَ، فَقُلْتُ - قَالَ «طَيْفُ الْحَسَنِ»: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ فِيهِ مِنَ الرِّقَّةِ وَاللُّطْفِ، وَالْحِذْقِ وَالظَّرْفِ، وَالرَّشَاقَةِ وَالْخِفِّ، مَا تَتَنَاوَلُ عُذُوبَتَهُ وَلَذَاذَتَهُ ألْسُنُ وَمَسَامِعُ الْأَنَامِ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ ثَنَّى السُّؤَالَ، وَثَغْرُهُ مُفْتَرٌّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، وَقَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ طَلْقٍ، فَصِيحٍ، فِيهِ مِنَ الْجَزَالَةِ وَالْحَصَافَةِ وَالْمَضَاءِ مَا لَا يَقِلُ جَانِبُهُ عَنِ الْأفْهَامِ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ ثَلَّثَ السُّؤَالَيْنِ، وَسِيمَاهُ سِيمَاؤُهُ، وَقَالَ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: ألَسْتَ مِنَ التَّوَّاقِينَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ يَصْقُلُ الْمَعْنَى صِقَالًا، فَيَجْلِي عَنْهَا الْخَبَلَ وَيُيَسِّرُهَا لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ؟... ثُمَّ أبْصَرْتُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي صَمْتٍ مِنْجَابِ، مُسْتَحِثًّا رَجْعَ الْحَدِيثِ فِي كُنْهِ الْجَوَابِ، فَوَقَعْتُ فِي حَيْصَ بَيْصَ وَعَزَّ فَصْلُ الْخِطَابِ، وَبَعْدَ لَأْيٍ، فِي إبْطَاءٍ وَاِحْتِبَاسٍ، نَطَقْتُ، وَكَلَاعِبِ كُرَةٍ أهْوَجَ، تَعَجَّلْتُ الْخَلَاصَ، لَئِلَّا تَأتِي الْغَلَبَةُ عَلَيَّ وَتَضِيعَ الْكَرَةُ مِنِّي وَأصِيرُ هُزْأةً؛ أجَبْتُ، رَأيْتُنِي عَجْلَانَ، قُلْتُ: بَلَى، أنَا تَوَّاقٌ لِلْأمْرِ بِمَا يُرْضِي بَعْضَ الْمُبْتَغَى، وَعِنْدِيَ نَزْعَةٌ إلَيْهِ، إنَّمَا هُوَ لِي بِمَثَابَةِ «مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ» هَنِيًّا، مِلْءَ جَفْنَيْهِ؛ أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» يَقُولُ - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - وَثَغْرُهُ مُفْتَرٌّ عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ: تَوَقَانُكَ إلَى جَوَامِعِ كَلِمٍ ذِي لَذَاذَةٍ وَعُذُوبَةٍ، يُحِيطُ بِهِ الْفَهْمُ وَيَسْتَوْعِبُهُ مِنْ غَيْرِ مَا مَشَقَّةٍ، وَيَجِدُ سَبِيلَهُ إلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِأيْسَرَ مَيْسِرَةٍ، حُسِمَ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ، فِي شَتَّى الْأوْجُهِ وَالْأبْوَابِ، مِنْهَا بَابُ الْبَلِيغِ التَّامِّ الصِّرْفِ، بِمَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى نَحْوِ: «فَإنْ أمْكَنَكَ أنْ تَبْلُغَ مِنْ بَيَانِ لِسَانِكَ، وَبَلَاغَةِ قَلَمِكَ، وَلُطْفِ مَدَاخِلِكَ، وَاِقْتِدَارِكَ عَلَى نَفْسِكَ، عَلَى أنْ تُفْهِمَ الْعَامَّةَ مَعَانِيَ الْخاَصَّةِ، وَتَكْسُوَهَا الْألْفَاظَ الْوَاسِطَةَ الَّتِي لَا تَلْطُفُ عَنِ الدَّهْمَاءِ، وَلَا تَجْفُوا عَنِ الْأكْفَاءِ» ، كُنْتَ الْبَلِيغَ التَّامَّ الصِّرْفَ؛ وَمِنْهَا بَابُ الْبَلِيغِ التَّامِّ الْمُلْتَبِسِ، بِمَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى نَحْوِ: «كُلُّ عَقْلٍ وَذَوْقٍ رَاقٍ يَنْتَقِي مَنْ يُرِيدُهُ أنْ يُقَاسِمَ أفْكَارَهُ، وَمُسْتَمِعِيهِ أيْضًا؛ وَفِيمَا هُوَ يَنْتَقِيهُمْ يَضَعُ حَوَاجِزَ أمَامَ الْآخَرِينَ. وَكُلُّ الْقَوَانِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأسْلُوبِ نَابِعَةٌ مِنْ هُنَا: تَصُدُّ، وَتُقِيمُ مَسَافَةً، وَتَمْنَعُ مِنَ "الدُّخُولِ"، أيْ مِنَ الْفَهْمِ» ، كُنْتَ عَلَى غِرَارِ مَنْ لَا يُرِيدُ أنْ يَكُونَ مَفْهُومًا مِنْ طَرَفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي، وَكُنْتَ الْبَلِيغَ التَّامَّ الْمُلْتَبِسَ.
أبْصَرْتُ «طَيْفَ الْحَسَنِ» مُسْتَغْرِقًا فِي صَمْتِهِ، وَأبْصَرْتُ لِهَالَةِ الْمَعَانِي شَعْشَعَةً تُحِيطُ بِهِ، ثُمَّ أبْصَرْتُ ثَغْرَهُ مُفْتَرًّا عَنِ الْاِبْتِسَامَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهُ، يَسْتَوْدِعُنِي تَوْصِيَّةً، قَائِلًا - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - : بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ أُوصِيكَ، وَالْوَصَايَا لَا تَرُوقُ إلَّا لِقَائِلِهَا، أقُولُ: حَيْثُ إنَّكَ، فِي صِنَاعَةِ الْأُسْلُوبِ، فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ اللَّيْسِيَّةِ بِمَا تنْفِيهِ وَالْأيْسِيَّةِ بِمَا تُثْبِتُهُ، فَلَا تَهْتَمَّ وَتَحَارَ لِأمْرِ بَلَاغَتِكَ، حَتَّى تَجْعَلَهَا سَجِينَةَ مَحْبِسَيْ جَدْوَى الْمُكُوثِ فِي الْأرْضِ وَعَبَثَ الذَّهَابِ جُفَاءَ، إذْ لَا جَدْوَى وَلَا نَفْعًا وَلَا عَبَثًا وَلَا زَبَدًا بِمَنْأى عَنْ تَقْدِيرِ الْأغْيَارِ؛ فَالْمَعْنَى وَالتَّأوِيلُ وَالتَّقْدِيرُ مَنَاطُ الْأغْيَارِ، بِحُكْمِ الشَّيْءِ الْمَنْصُوصِ وَاِتِّسَاعِهِ، فِي الزَّمَنِ الْمَخْصُوصِ وَاِنْقِبَاضِهِ. ثُمَّ أبْصَرْتُهُ وَقَدْ نَظَرَ إلَيَّ مَلِيًّا يَحْسُمُ فَصْلَ الْخِطَابِ، فِي شَتَّى الْأوْجُهِ وَالْأبْوَابِ، قَائِلًا - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي -: لَعَلَّ سَعْيَكَ لِاِمْتِلَاكِ نَاصِيَّةِ الْأُسْلُوبِ بِمَا تَشْتَهِي الْأُسْلُوبِيَّةُ، وَهَلْهَلَةِ الْخِطَابِ السِّرِّيِّ السَّارِي بَيْنَ السَّدَى وَاللُّحْمَةِ وَالنِّيرَةِ، وَإلْزَامِكَ لِنَفْسِكَ شَيْئًا لَيْسَ يَلْزَمُهَا مِنَ الْقَوْلِ التَّلِيدِ، وَإبْدَالِ السَّهْلِ الْمُنْسَاقِ بِالْمُتَمَنِّعِ الْمُجِنِّ عَنِ التَّوْلِيدِ، هُوَ مِلَاحَةٌ بِأسْطُرْلَابٍ مَخْصُوصٍ، لَا مَكْمُولٍ وَلَا مَنْقُوصٍ، بَيْنَ أرْخَبِيلَاتِ الثُّلُثِ الْخَالِي، حَيْثُ تَعِزُّ الْفُلْكُ وَالْمَرَافِئُ وَالنَّوَاتِيُّ وَالْمَلَّاحُونَ وَالصَّوَارِي وَالْقِلَاعْ، وتَتَعَرَّضُ السَّفُونُ الْمُهَرَّبَةُ إلَى نَقِيرِ الصُّخُورِ الْبَاطِنِيَّةِ فَيُعَرْقَلُ إبْحَارُهَا، وَتَعْهَنُ عُهُونَا، وَيَمَّحِي جِسْمُهَا وَيَنْدَرِسُ رَسْمُهَا، وَمَا بِهَا جُمُوحٌ وَلَا بِهَا اِنْصِيَاعْ. وَالْقَوْلُ، وَأَنْتَ تَمْتَحُ لِمُعَاقَرَةِ الْمَعْنَى، مِنْ سُقْيَا أطْيَبِ الْأُرُومَةِ، نُجَارًا؛ وَأَنْتَ تَجْنُحُ لِمُعَاقَرَةِ الْمَبْنَى عَلَى مَا لَا يَقِلُّ مِنْ جَزَالَةٍ وَحَلَاوَةٍ وَحَصَافَةٍ مِنْ أبْلَغِ الْقَوْلِ، اِقْتِدَارًا، يَتَجَلَّى الْمَعْنَى وَالْمَبْنَى وَالْمَعِيَّةُ تَخْفِرُهُمَا، وَجْهَانِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مُتَقَارِبَانِ وَلَا تَشَابُهَ. وَاحِدٌ فِي أحَدِ. فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُهُمَا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَرَمَانِي بِالسُّؤَالِ: «وَهَلْ يَكُونُ الذَّاكِرَانِ إلَّا مَعًا؟» . ثُمَّ أضَافَ: وَفِي خِضَمِّ هَذَا، قَدْ نَتَجَاهَلُ أنَّ حَاجَتَنَا لِمَبْنًى وَمَعْنًى، وَاحِدٌ فِي أحَدٍ، لَا مِرَاءَ فِيهَا، وَنَجْهَلُ أنَّ لَنَا حَاجَةً مَاسَّةً لِلْآذَانِ وَالْإنْصَاتِ ، وَالْأذْهَانِ وَالْأفْئِدِةِ وَالْأبْصَارِ، وَلِمَا يُذَكِّي قَبَسَهَا فَتَبْدُو جَلِيَّةً لِلْأنْظَارِ. ثُمَّ أرَادَنِي عَلَى اللَّغْوِ، فَاسْتَلْغَانِي، وَقَالَ «قُلْ».
أشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي فَجَفَلْتُ فَزَعَا، وَرَاجَعْتُ نَفْسِي فَتَلَاشَتْ جَزَعَا. أبْصَرْتُهُ، وَقَدْ أحَسَّ بِمَا ألْجَمَنِي، فَبَسَطَ «حَاءَهُ» رَحْمَةً، فَجَزَّعَنِي، وَاِسْتَبْطَنَ مَعِينَهُ، فَافْتَرَّ ثَغْرُهُ، وَأنْطَقَ فِعْلَ شَرْطٍ فِي طَيِّهِ الْخَبَرُ، وَزَكَّى الْفِعْلَ الْمَرْهُونَ بِقَوْلِ: «وَإِنْ صَبَرْنَا فَإِنَّا مَعْشَرٌ صُبُرُ» . وَأبْصَرْتُهُ وَقَدْ أجْزَعَ بِي وَادِي الْمَخَاوِفِ وَالظُّنُونْ، أوْفَى الْكَيْلَ وَمَا ضَنَّ عَلَيَّ وَمَا كُنْتُ بِمَغْبُونْ، «فَسَهُلَ مَا كَانَ وَعْرًا، وَهَانَ مَا كَانَ عَزِيزًا، وَلَانَ مَا كَانَ شَدِيدًا» ، وَتَحَرَّجْتُ مِنْ خِيَارِ «قُلْ أوْ زُلْ»، وَتَلَبَّسْتُ دَوْرِي فِي غَيَاهِبِ «قُلْ».
رَأيْتُ خِيَارَ «قُلْ أوْ زُلْ» يَتَحَرَّشُ بِي وَيُرْبِكُنِي، إلَى أنْ اِلْتَمَعَ بِخَاطِرِي سُؤْلُ مُوسَى فَالْتَمَعَ «طَيْفُ الْحَسَنِ» حَقِيقَةَ مَا اِلْتَمَعَ بِخَاطِرِي، وَخَاطَبَنِي - حَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي - : «لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمعَانِي لِلْمُتَوَانِي وَلَا الْفَانِي» ، إذْ لَنْ تُؤْتَى سُؤْلَكَ إلَّا وَأنْتَ عَلَى «سَفَرٍ كَبِيرٍ».
رَأيْتُنِي أسْتَيْقَظُ عَلَى طَعْمِ السَّفَرِ الْكَبِيرِ فِي صَدْرِي، وَحَقَّ عَلَيَّ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ، وَأشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي مِنْ سِينِهِ وَأمْوَاجِهَا وَمَا يَلْتَمِعُ بَيْنَ ﴿وزْرَكَ﴾ وَ﴿ذِكْرَكَ﴾ . ثُمَّ رَأيْتُنِي أُعَاوِدُ حَالِي فِي التَّوَسُّلِ إلَى مَدَدٍ يُسْعِفُنِي، وَبَقِيَتْ أحْوَالِي عَلَى حَالِ الْحَثِّ بِمَا يُحْرِجُنِي، إلَى أنْ اِخْتَلَطَتْ كُلُّ الْأحْوَالِ فِي هَزِيعٍ أوْحَدَ، وَأمْسَكَتْ دَوْرَةُ الزَّمَانِ وَالْـمَكَانِ عَنْ دَأْبِهَا، وَاِنْصَهَرَ طَفِيفُ النُّعَاسِ بِغَرِيقِ التَّسْبِيخِ وَبِمَا حَوْلِي مِمَّا لَمْ آبَهْ بِهِ.
رَأيْتُنِي وَقَدْ طُوِيَتْ مَسَافَاتُ «السَّفَرِ الْكَبِيرِ» طَيَّ كِتَابٍ، وَأنَاخَتِ الْبَيْضَاءُ غُرَّتَهَا بِمَكْنَاسَةَ الزَّيْتُونَ، فِي غَيْرِ مَا اِسْتِغْرَابٍ. وَرَأيْتُنِي أتَفَقَّدُ أمَاكِنَ الْعُهْدَةِ بِهِ، تِبَاعًا تِبَاعَا، وَفِي نَفْسِ الْآنِ الْآنِ، وَلَا رَوْعَ لَا اِرْتِياعَ، أسْتَنْبِئُ حَمْرِيَّةَ عَنْ حَاءٍ هِيَ حَدُّ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَعَنْ سِينٍ هِي تَوَقُّلٌ وَهُبُوطٌ فِي مَوْجَاتِ عِلْمِهِ، وَعَنْ نُونٍ هِيَ جَنَاحُ اِنْبِسَاطٍ لِعِتْرَتِهِ.
ثُمَّ رَأيْتُ سُبَاتِي يَجْنَحُ بِي مِنْ حَمْرِيَّةَ إلَى سَرَاگْ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيَّ طَرْفِي، وَأنَا فِي وَسَنْ، وَرَأيْتُنِي أحَاوِلُ تَحَدِّي مَمْنُوعَاتِ زَمَنِ كُورُونَا لِأُشَيِّعَ الْحَسَنَ إلَى الْمَثْوَى الْحَسَنْ. وَرَأيْتُ مَا دُونِي وَدُونَ «بِينْ الُقْبَبَ» عَسَسٌ مُطَهَّمَةٌ مُدَجَّجَةٌ بِصِيَغِ الْمَمْنُوعَاتِ، وَرَأيْتُنِي مُحَاصَرًا بِمَا تَمَنَّعَ، وَمَا تَعَذَّرَ، وَمَا تَرَتَّبَ عَمَّا تَعَذَّرَ، وَمَا خَرَجَ عَنْ إمْكَانَاتِي. وَرَأيْتُنِي رَفُوسًا ألُوكُ اللِّجَامَ مِنْ غَبَنِي، أتَرَقَّبُ الْجِنَازَةَ بَعَشْرِ مُشَيِّعِينَ، حَسَبَ الْمَسْمُوحِ بِهِ الْمَمْنُوعِ بِهِ، فَإذَا الْمَوْكِبُ جَمْهَرَةٌ لَا عَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، تَلْتَفُّ حَوْلَ النَّعْشِ، تُشِيدُ بِهِ.
وَرَأيْتُ كُلَّ الْأحْوَالِ اِتَّسَقَتْ فِي سَكِينَةِ الْحَالِ الْأوْحَدِ، وُكُلُّ دَوْرَةٍ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أمْسَكَتْ عَنْ دَأْبِهَا الْمُتَعَوَّدِ، فَأدْهَشَنِي مَا رَأيْتُ وَحَيَّرَنِي وَأرْبَكَنِي، وَفِي لُجَّةِ الدَّهَشِ وَالْحَيْرَةِ وَالْإرْبَاكِ أسْكَنَنِي، فَغَمَرَتْنِي هَدْأَةٌ، وَقَادَتْنِي إمْرَةٌ، وَتَخَلَّيْتُ عَنِ النَّظَرِ، وَتَطَلَّعْتُ إلَى الْخَبَرِ، حَتَّى لَمَسَ كَتِفِي رَجُلٌ مُشْتَبَهُ الْعُمُرِ وَالْأعْمَارْ، عَلَيْهِ هَالَةٌ تَكَادُ تَلْمِسُ الْبَصَرَ وَالْأبْصَارْ، حَدَسْتُ أنَّهُ الْخَضِرَ، مُعَلِّمُ الْمَعْرِفَةِ السِّرِّيَّةِ، وَالْغَوْثُ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ مِنَ الْمِحَنِ الرُّوحِيَّةِ، وَأدْرَكْتُ لَهُ قَوْلًا جَوَّانِيًّا مَفَادُهُ: «اِسْتَقْدَمْتُ مَا اِجْتَمَعَ مِنَ الْمَاءِ إلَى الْمَاءِ مِنْ كُتَّابٍ وَأُدَبْاءٍ وَشُعَرَاءٍ وَفُقَهَاءٍ وَمُتَكَلِّمَةٍ وَمُعْتَزِلَةٍ وَصُوفِيَّةٍ وَمِنَ الْأهْلُونِ وَأهْلِ الْأهْلُونِ، لِأنْ لَا يَدْخُلَ الْحَسَنُ الْبَرْزَخَ وَأعْيُنُ الْأهْلُونِ كَلِيلَةٌ، وَهِمَمُهُمْ ضَئِيلَةٌ.» وَتَهَيَّأَ لِي مِنْهُ أمْرُ «اِبْصِرْ»، فَجَلَوْتُ الْغَشَاوَةَ عَنْ نَظَرِي، وَاسْتَكَنْتُ إلَى بَصَرِي، فَأبْصَرْتُكُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، جَمِيعًا جَمِيعًا، تَمْشُونَ فِي الْجَمْهَرَةِ، وَتَهَيَّأَ لِي مِنْهُ قَوْلُ: «هُوَ الْوَافِدُ الْمَجْبُورُ وَالْحَامِلُ الَّذِي * إِذَا النَّعْلُ يَومًا بِالْعَشِيرَةِ زَلَّتِ» ، ثُمَّ تَخَفَّى عَنِّي وَتَرَكَنِي مُعَلَّقًّا فِي «إنِّي»، فَاسْتَلْغَيْتُ «إنِّي» وَبَاحَتْ بِظَنِّي. قَالَتْ: بُوِّئْتَ مَوْقِعَ الْقَوْلِ، فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوصٍ؛ وَأبْصَرْتَ، بِجَوَّانِيَّكَ، الْعِلْمَ وَالْوَفَاءَ مَقْرُونَيْنِ كَفِعْلِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي الْمَقَالِ، وَمِقْرَنِ الْعِلْمِ بِالْوَفَاءِ فِي الْمَقَامِ؛ وَوَقَفْتَ عَلَى الْوَفَاءِ عِرْفَانًا لِلْعَالِمِ ذِي الْعِلْمِ الْمُهْرَاقِ، وَشَاهَدْتَ وَمْضَةً رَبَّانِيَّةً اِلْتَفَّتْ فِيهَا السَّاقُ بِالسَّاقِ. وَتَذَارَكَتْ «مَا وَدَّعْتَ الصَّبْرَ حِينَ مَا وَدَّعْتَهُ، وَلَا قَرَعْتَ السِّنَّ حِينَ مَا شَيَّعْتَهُ، وَلَا كَانَ أنْ زِدْتَ فِي الْخَطْوِ، وَلَا أبْدَلْتَ دَلَفَكَ بِالشَّأْوِ»، وَعَفَّتْ «إنِّي» عَنْ فَضْحِ ظَنِّي.
وَفِي «رَوْضَةِ مُولَايْ اِسْمَاعِيلْ» حَسُنَ تَوْدِيعِيَ الْحَسَنَ. وَحَسْبَمَا تَهَيَّأ لِي، طَلَبْتُ الْخَتْمَ مِنْهُ فَتَلَطَّفَ وَأوْمَأَ بِرَأسِهِ إلَيْكُمْ وَتَشَهَّى. قَالَ: «إنَّا قَوْمٌ مُنْقَطَعٌ بِنَا، فَحَدِّثُونَا أَحَادِيثَ نَتَجَمَّلُ بِها.»
الْبَيْضَاءُ غُرَّتُهَا، بتاريخ 7 نونبر 2022
جُنُوحٌ عَلَى أشْعارِ أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون: «وَدَّعَ الصَّبْرَ مُحِبٌّ وَدَّعَكْ * ذَائِعٌ مِن سِرِّهِ مَا اِسْتَوْدَعَكْ ** يَقرَعُ السِنَّ عَلَى أَنْ لَمْ يَكُنْ * زَادَ في تِلْكَ الْخُطا إِذْ شَيَّعَكْ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
عَنِ الجاحظ، بتصرف. البيان والتبيين. ص. 88. تحقيق حسن السندوبي. نشر مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة. 2022: «وقال [أبو الأشعث]: من علم حق المعنى أن يكون الاسم له طبقًا، وتلك الحال له وفقًا، ويكون الاسم له لا فاضلًا ولا مفضولًا، ولا مُقصرًا، ولا مُشتركًا ولا مُضمنًا، ويكون مع ذلك ذاكرًا لما عقد عليه أول كلامه، ويكون تصفُّحه لمصادره في وزن تصفُّحه لموارده، ويكون لفظه مُؤنقًا، ولهَول تلك المقامات مُعاودًا. ومدار الأمر على إفهام كل قوم بقدر طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار مَنازلهم، وأن تُواتيَه آلته، وتتصرَّف معه أداته، ويكون في التهمة لنفسه مُعتدلًا، وفي حُسن الظن بها مُقتصدًا؛ فإنه إن تجاوَز مقدار الحق في التهمة لنفسه ظلمها، فأودعها ذلة المظلومين، وإن تجاوَز الحق في مقدار حسن الظن بها أمنها، فأودعها تهاوُن الآمنين، ولكل ذلك مقدار من الشغل، ولكل شغل مقدارٌ من الوهن، ولكل وهن مقدارٌ من الجهل.»
علي بن الجهم. كان مُعَاصِرًا لِأبي تمام. قَبْسٌّ مِنْ قَصِيدَتِهِ الْقَصِيرَةِ: «مَا أَحْسَنَ الْعَفوَ مِنَ الْقَادِرِ * لَا سِيَّمَا عَنْ غَيْرِ ذِي نَاصِرِ * إِنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ وَلَا ذَنْبَ لِي * فَمَا لَهُ غَيْرُكَ مِنْ غَافِرِ * بِحُرْمَةِ الْوُدِّ الَّذِي بَيْنَنَا * لَا تُفسِدِ الْأَوَّلَ بِالْآخِرِ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
قرآن كريم: ﴿وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ سورة لقمان. الآية 14.
ابن الرومي. قَبْسٌ مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا: «حَلِيفُ سُهادٍ لَيْلُهُ كَنَهَارِهِ * يَبِيتُ شِعَارُ الْهَمِّ دَونَ شِعَارِهِ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
قرآن كريم. سورة البقرة. آية 31.
قرآن كريم. سورة النجم. الآية 11.
جُنُوحُ عَلَى أبي الطيب المتنبي، مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتي مَطْلَعُهَا: «وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلبُهُ شَبِمُ * وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ سَقَمُ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
جُنُوحٌ عَلَى أبي عمر العرجي، مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتي مَطْلَعُهَا: «أَضاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضاعُوا * لِيَومِ كَريهَةٍ وَسِدادِ ثَغرِ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net شِعْرُ. أبو عمر عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العَرْجي، شاعر الغزل الصريح، ينحو نحو عمر بن أبي ربيعة. يقال أنه تغزل في أم إسماعيل خال الخليفة هشام بن عبد الملك فسجنه وعذبه ثم قتله وكان ذلك في عهد هشام فدب الذعر في نفوس الشعراء جرير والفرزدق وغيرهم فكفوا عن الشعر فترة.)
جُنُوحٌ عَلَى تميم بن مقبل، مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا: «أَنَاظِرُ الْوَصْلُ أمْ غَادٍ فَمَصْرُومُ * أمْ كُلُّ دَيْنِكَ مِنْ دَهْمَاءَ مَغْرُومُ»، إلَى أنْ يَقُولَ: «مَا أطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْ أنَّ الْفَتَى حَجَرٌ * تَنْبُو الْحَوَادِثُ عَنْهُ وَهُوَ مَلْمُومُ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net (يُعَدُّ تميم بن مقبل مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، وَقَدْ اِعْتَبَرَهُ الجمحي فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتُ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ «شاعرًا مجيدًا مُغلَّبًا» وَصَنَّفَهُ فِي الطَّبَقَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، مُقَدِّمًا إيَّاهُ عَلَى عمرو بن كلثوم وَالحارث بن حلزة وَعنترة بن شداد الَّذِينَ وَضَعَهُمْ فِي الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ.)
قرآن كريم. سورة البقرة. الآية 260.
قرآن كريم. سورة آل عمران. الآية 59.
قرآن كريم. سورة يوسف. الآية 22.
الجاحظ. البيان والتبيين. ص. 83. تحقيق حسن السندوبي. نشر مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة. 2022: (دغفل بن حنظلة السدوسي الشيباني. كَانَ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي مَعْرِفَتِهِ أنْسَابَ الْعَرَبِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: »أنْسَبُ مِنْ دغفل». وَقَدْ وَصَفَ الْعِلْمَ فَقَالَ: «إنَّ لِلْعِلْمِ آفَةً وَإضَاعَةً، وَنَكَدًا وَاِسْتِجَاعَةً؛ فَآفَتُهُ النِّسْيَانُ، وَإضَاعَتُهُ أنْ تُحَدِّثَ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِأهْلِهِ، وَنَكَدُهُ الْكَذِبُ فِيهِ، وَاِسْتِجَاعَتُهُ أنَّ صَاحِبَهُ مَنْهُومٌ لَا يَشْبَعْ.»
قرآن كريم. سورة العلق. الآية 4.
قرآن كريم. سورة القلم. الآية 1.
أبو الطيب المتنبي: «مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ * تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ»، مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا: «بِمَا التَّعَلُّلُ لَا أهْلٌ وَلَا وَطَنُ * وَلَا نَدِيمٌ وَلَا كَأسٌ وَلَا سَكَنُ». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
الجاحظ. البيان والتبيين. ص. 114. تحقيق حسن السندوبي. نشر مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة. 2022. (الْمُقْتَطَفُ مِمَّا مَا جَاءَ فِي صَحِيفَةٍ تَوْجِيهِيَّةِ فِي مَوْضُوعِ الْخَطَابَةِ لِأبِي سَهْلْ بِشْرْ بْنُ الْمُعْتَمِرْ - وَهُوَ مِنْ وُجُوهِ أهْلِ الْكَلَامِ، وَمِنْ أفَاضِلِ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْ أكَابِرِ بُلَغَاءِ الدَّهْرِ وَأبْيِنَائِهِ.)
فريدريش نيتشه (Friedrich Nietzche). «الْعِلْمِ الْمَرِحِ» (le Gai Savoir) ص. 363. ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. بيروت – بغداد 2017. «نَحْنُ لَا نُرِيدُ فَقَطْ أنْ يَتِمَّ فَهْمُنَا عِنْدَمَا نَكْتُبُ، بَلْ وَبِكُلِّ تَأكِيدٍ أنْ لَا نُفْهَمَ أيْضًا. وَلَا يُمْكِنُ أنْ نَعْتَبِرَ ذَلِكَ نَقِيصَةً فِي كِتَابٍ إطْلَاقًا إذَا وَجَدَهُ هَذَا أوْ ذَاكَ غَيْرَ مَفْهُومٍ: فَلَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ نِيَّةٍ وَقَصْدٍ مِنْ كَاتِبِهِ، أيْ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ أنْ يَكُونَ مَفْهُومًا مِنْ طَرَفِ الْجَمِيعِ وَأيِّ أحَدٍ. فَكُلُّ عَقْلٍ وَذَوْقٍ رَاقٍ يَنْتَقِي مَنْ يُرِيدُهُ أنْ يُقَاسِمَ أفْكَارَهُ، وَمُسْتَمِعِيهِ أيْضًا؛ وَفِيمَا هُوَ يَنْتَقِيهُمْ يَضَعُ حَوَاجِزَ أمَامَ الْآخَرِينَ. وَكُلُّ الْقَوَانِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأسْلُوبِ نَابِعَةٌ مِنْ هُنَا: تَصُدُّ، وَتُقِيمُ مَسَافَةً، وَتَمْنَعُ مِنَ "الدُّخُولِ"، أيْ مِنَ الْفَهْمِ.»
جُنُوحُ عَلَى أبي الطيب المتنبي، مِنَ الْقَصِيدَةِ الَّتي مَطْلَعُهَا: «وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلبُهُ شَبِمُ * وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ سَقَمُ». حَتَّى يَاْتِيَ إلَى «ألْزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئًا لَيْسَ يَلْزَمُهَا * أنَ لَا يُوارِيَهمْ أَرضٌ وَلَا عَلَمُ * أكُلَّمَا رُمْتَ جَيْشًا فَانْثَنَى هَرَبًا * تَصَرَّفَتْ بِكَ فِي آثَارِهِ الْهِمَمُ * عَلَيْكَ هَزمُهُمُ فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ * وَمَا عَلَيْكَ بِهِمْ عَارٌ إذَا اِنْهَزَمُوا». الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
جُنُوحٌ عَلَى كِتَابِ الطَّوَاسِين لِأبِي الْمُغِيثِ الْحَسَيْنِ بْنِ مَنْصُورْ بْنِ مَحْمَى الْبَيْضَاوِي. حَقَّقَهُ وَأصْلَحَهُ بولس نويّا اليسوعي. مَنْشُورَاتُ الجمَل. كولونيا (ألمانيا) – بغداد 1997. الطَّبْعَةُ الثَّالِثَةُ، مُصَحَّحَةٌ وَمَزِيدَةٌ. قَالَ فِي «طَاسِينِ النُّقْطَة»، ص. 165: «َفَقَالَ مُوسَى "الْآنَ تَذْكُرُهُ؟" قَالَ يَا مُوسَى، الذِّكْرُ لَا يُذْكَرُ! أنَا مَذْكُورٌ وَهُوَ مَذْكُورٌ. "ذِكْرُهُ ذِكْرِي وَذِكْرِي ذِكْرُهُ * هَلْ يَكُونُ الذَّاكِرَانِ إلَّا مَعًا؟"
فريدريش نيتشه (Friedrich Nietzche). «الْعِلْمِ الْمَرِحِ» (le Gai Savoir) ص. 276. ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. بيروت – بغداد 2017. « نَبْحَثُ عَنْ كَلِمَاتٍ، وَلَعَلَّنَا نَبْحَثُ أيْضًا عَنْ آذَانٍ».
قَبَسٌ مِنْ رَائِيَّةِ أَعْشَى بَاهِلَةَ رثائِهِ لِأخِيهِ لْأُمِّهِ المنتشر بن وهب بن سلمة ، قَالَ: «فإِنْ جَزِعْنا فإِنَّ الشرَّ أَجْزَعَنَا * وَإِنْ صَبَرْنا فَإِنَّا مَعْشَرٌ صُبُرُ». (الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net). أَعْشَى بَاهِلَةَ هُوَ عامر بن الحرث بن رياح بن أبي خالد بن ربيعة بن معن الباهلي، وَيُكَنَّى بأبي قحفان الباهليّ؛ هُوَ شَاعِرٌ مُجِيدٌ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَلَّ ذِكْرُهُ فِي كُتُبِ الْأعْلَامِ وَالشُّعَرَاءِ الْعَرَبِ الْجَاهِلِيِّينَ.
ابن حزم. طوق الحمامة. بَابُ الْإذَاعَةِ. ص. 149. المكتبة الشاملة. طَبْعَةٌ إلِكْتْرُونِيَّةٌ. رَابِطُ الْمَوْقِعِ بِتَارِيخِ 30 أكتوبر 2022، shamela.ws/book «وَكَمْ مَصُونِ السِّتْرِ مُسْبَلَ الْقِنَاعِ مَسْدُولَ الْغِطَاءِ قَدْ كَشَفَ الْحُبُّ سَتْرَهُ مَثَلًا، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إلَيْهِ الْفَضِيحَةَ فِيمَا لَوْ مَثَّلَ لَهُ قَبْلَ الْيَوْمِ لَاِعْتَرَاهُ النَّافِضُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَلَطَالَتْ اِسْتِعَاذَتُهُ مِنْهُ، فَسَهُلَ مَا كَانَ وَعْرًا، وَهَانَ مَا كَانَ عَزِيزًا، وَلَانَ مَا كَانَ شَدِيدًا.»
قرآنٌ كَرِيمٌ: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴿٢٦﴾ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴿٢٧﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴿٢٨﴾﴾ سُورَةُ طه.
جُنُوحٌ عَلَى كِتَابِ الطَّوَاسِين لِأبِي الْمُغِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورْ بْنِ مَحْمَى الْبَيْضَاوِي الْحَلَّاج. حَقَّقَهُ وَأصْلَحَهُ بولس نويّا اليسوعي. مَنْشُورَاتُ الجمَل. كولونيا (ألمانيا) – بغداد 1997. الطَّبْعَةُ الثَّالِثَةُ، مُصَحَّحَةٌ وَمَزِيدَةٌ. قَالَ فِي «طَاسِينِ الْفَهْمِ»، ص. 154: «لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمعَانِي لِلْمُتَوَانِي وَلَا الْفَانِي وَلَا الْجَانِي وَلَا لِمَنْ يَطْلُبُ الأمَانِي. كَأنِّي كَأنِّي، أوْ كَأنِّي هُوَ، أوْ هُوَ أنِّي: لَا يُرَوِّعُنِي إنْ كُنْتُ أنِّي.»
قرآن كريم. سورة الشرح. الآية 1.
قرآن كريم. سورة الشرح. الآية 2.
قرآن كريم. سورة الشرح. الآية 4.
قَبَسٌ مِنْ رِثَاءِ جرير للفرزدق: «فَلَا حَمَلَتْ بَعْدَ الْفَرَزدَقِ حُرَّةٌ * وَلَا ذَاتُ حَمْلٍ مِنْ نَفَاسٍ تَعَلَّتِ ** هُوَ الْوَافِدُ الْمَجْبُورُ وَالْحَامِلُ الَّذِي * إِذَا النَّعْلُ يَومًا بِالْعَشِيرَةِ زَلَّتِ» الديوان. طبعة إلكترونية. الرابط، بتاريخ 30 أكتوبر 2022، www.aldiwan.net
البيان والتبيين. الجاحظ. ص. 186. تحقيق حسن السندوبي. نشر مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة. 2022. «وكان ميمون بن سِياه إذا جلس إلى قوم قال: إنا قومٌ منقطَع بنا، فحدِّثونا أحاديث نتجمَّل بها.»