الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ:نموذج تنموي وزمن إعلامي

جمال المحافظ:نموذج تنموي وزمن إعلامي جمال المحافظ
بغض النظر عن السياقات التي جاء بها النموذج التنموي الجديد، خاصة وأن الغاية من هذه بعض الأفكار التي أطرحها في هذه الورقة لا تتعلق بتناول مضامين هذا المشروع الذي لا تخفى أهميته البالغة وانعكاساته التي قد تكون جد إيجابية إذا ما جرت ترجمته، بقدر ما سيتم التركيز على موقع الإعلام.
واعتذر إن انطلقت من مسلمة أن وظيفة الصحافي – ليس الاهتمام بالقطارات التي تصل في مواعيدها، ولكن بتلك التي لا تحترم هذه المواعيد.
فالنموذج التنموي الجديد الذي " أريد له أن يكون "سكانير" حقيقي لكشف أمراض بنيوية من أجل وصفة علاج جذرية" استند على "قاموس تقدم في الصياغة، لكن يلاحظ في المقابل أن بعض مفاهيمه أفرغت من محتواها فضلا عن افتقاد التقرير للجرأة الكافية وتجنب الخوض في القضايا التي تمس عمق المشاكل، على الرغم من كون تشريحه للواقع "كان صائبا"، إلا أن " اقتراحاته في المجمل ظلت مجرد متمنيات.."، كما يرى بعض الخبراء.
وبرغم تسجيل "احتشام " في طرح مسائل جوهرية مثل الحسم في الاختيار الديمقراطي على الأرض، أو ما سبق أن سماه الراحل عبد الرحمان اليوسفي، بازدواجية الحكومة والدولة، ولم يستطع الوصول الى المطلب الملكي برفع الحقيقة، فإن النموذج التنموي الجديد" قدم أفكارا جيدة وعلى رأسها الدولة القوية، والمجتمع القوي والميثاق التنموي، وآلية المتابعة ودعم الاقتصاد الاجتماعي"، كما جاء في افتتاحية لإحدى الصحف الأسبوعية في معرض تعليقها على هامش تقديم تقرير النموذج في السنة الماضية.
وبالعودة الى موقع الاعلام بالنموذج التنموي الجديد، فإن تقرير لجنته اعتبر الاعلام " أداة للإخبار والنقاش العام، وتحيين السياسة العمومية للاتصال من أجل تحديد نطاق المرفق العام لوسائل الاعلام، وتحديد الحكامة وطرق التمويل التي يجب أن تسمح باعتماد نموذج اقتصادي، تتوفر له فرص الاستمرارية" فضلا عن كونه إطارا فعالا للتعاون مع الحكومة واستقلالية التسيير، ومواكبة تحوله الرقمي، والتحفيز على الابتكار والجودة مع تقوية العرض الإعلامي الجهوي".
هذه هي الأسطر القليلة والجمل المستقاة من نص تقرير النموذج التنموي والتي يلاحظ أن صاغتها جاءت بعبارات فضفاضة، فضلا عن عدن الإشارة الى الآليات والسبل الكفيلة بجعل الإعلام العمومي بالفعل، يتحول مستقبلا الى أداة للإخبار وفضاء يسمح لكافة الفاعلين والحساسيات للتعبير عن آرائها؟.
وكذلك كيف تتحول وسائل الاعلام خاصة السمعية البصرية، الى فضاء جاد للنقاش العمومي؟. كما لم يحدد تقرير النموذج التنموي الذي يمتد الى سنة 2035 بالضبط، مكامن الخلل والضعف القائم في السياسات العمومية في مجال الإعلام والاتصال؟ وما المقصود بالحكامة والاستقلالية التحريرية، والجودة والعرض الإعلامي المنشود ؟.
فالملاحظ بصفة عامة أن النموذج التنموي الجديد، لا يولى – كما هو حال مشاريع وطنية سابقة– الأهمية التي يستحقها الإعلام الذي أضحى يشكل معادلة حاسمة في أي تطور ديمقراطي ومجتمعي.
وإذا كان النموذج التنموي الجديد - حسب عدد من الفاعلين والمختصين- نجح في التشخيص وتقديم البدائل لمغرب المستقبل، فإن لجنته بالمقابل، لم تتمكن في تسويق عملها اعلاميا ارتباطا بالرهانات والتحديات التي يطرحها هذا المشروع الكبير.
وهذا ما يجعل هذا النموذج خارج الزمن الإعلامي، لأن الصحافة تحولت من سلطة رابعة الى سلطة أولى، تفوق في غالب الأحيان السلط التقليدية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية التي كان قد حددها منذ القرن 17 مونتسكيو في كتابه " روح القوانين" . ونتيجة التطور التكنولوجي، أضحى الإعلام موجها لطريقة تمثلنا للعالم، وأصبحت علاقتنا بهذا العالم، لا تتم وفق تجربتنا، بل وفق ما يقدمه لنا الإعلام جاهزة ويحاول إدخالها في مخيالنا الجمعي.
فبالتوسع الهائل لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، تحول الفضاء العام الى فضاء إعلامي بامتياز، يشكل داخله الاعلام والاتصال بوسائله المتعددة، النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على انتاج المعنى، وعلى تمثلات الرأي العام المختلفة. وفي ظل هكذا وضع كان الأمل في أن يجرى استحضار هذه المعطيات والاستفادة من الثورة الرقمية التي هي ثورة ثقافية للتجاوب مع تطلعات المهنيين من جهة وانتظارات المواطنات والمواطنين من جهة أخرى.
ومما يزيد الطين بلة، غياب "الربط الجدلي" ما بين تصورات المشاريع الإعلامية، وكمثال على ذلك مشروع "الهولدينغ الإعلامي الجديد" الذي تزامن الإعلان عنه من طرف وزير الثقافة والشباب والرياضة السابق في لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب في 25 ماي 2021 في ذات يوم تقديم تقرير النموذج التنموي، وهو ما غابت معه عناصر الالتقائية والملائمة والتنسيق بين التوجهات العامة التي يقتضيها بناء مشاريع من هذا القبيل، مما أنتج "جزرا" متباعدة لا رابط ولا انسجام بينها ما بين "النموذج" و"الهولدينغ" مشروع الهيكلة الجديدة للقطب الإعلامي العمومي الجديد بالمغرب الذي تصير معه الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة "شركة قابضة" من خلال اشتراك بنسبة مائة في المائة في رأسمال القناتَين الثانية، و"ميدي 1 تيفي".
وإذا كانت وسائل الإعلام قد احتفت كثيرا بالنموذج التنموي الجديد في مرحلة اعداده واقراره - لم نعد يسمع عنه أي الآن-، فإن الهولدينغ الإعلامي الجديد لم يحظى بأي اهتمام. فالنموذج التنموي والهولدينغ، يلتقيان مع ذلك في تركيزهما على النتائج وإهمال البحث عن أسباب الفشل سابقا.
لذا فإن الأمر يتطلب الانكباب أولا على تقييم هذه المؤسسات الإعلامية العمومية على مستوى مدى جدواها وتقييم مردوديتها الاقتصادية والمهنية، لتقويم ما قد يعتريها من اختلالات في مجالات التدبير والتسيير والحكامة، بهدف إصلاحها وتأهيلها، حتى يشكل انضمامها إلى الهولدينغ قيمة مضافة، في حالة ما إذا فكرت الحكومة التي اختارت شعار" الدولة الاجتماعية الرجوع الى هذا المشروع القديم الجديد مستقبلا.
بيد أن الحاجة تظل ماسة الى مخطط وطني شامل بديل عن المخططات القطاعية - كما يجرى به العمل حاليا- إذ يعود غياب الانسجام في المخططات الى أن كل مخطط - ومنه ما يتعلق بقطاع الصحافة والاعلام والاتصال- يتم تحضيره واعداده بشكل معزول ومستقل عن باقي مخططات القطاعات الأخرى.
فالتغيير المنشود في الإعلام، يجب أن يحدث عبر مناهج بيداغوجية، وبواسطة الإقناع، وإقرار " اعلام الحقيقة " وتبنى استراتيجية واضحة المعالم بآليات تنظيمية مؤهلة وذات مصداقية تستند على ضوابط مهنية وأخلاقية، وذلك حتى تتمكن الصحافة من أداء رسالتها كاملة في ظل ضمان كرامة الصحفيين.
فالصحافة تظل في كل الظروف جهاز إنذار وأداة لليقظة وللرقابة المجتمعية، لذا فإن المأمول اتخاذ المبادرات التي من شأنها إحداث انفراج حقيقي وتصفية الأجواء في المشهد الصحفي والإعلامي، حتى نتمكن من الانتقال من علاقات اللبس والتوتر السائد الذي يعود في جانب منه الى سوء الفهم الكبير إلى علاقات تكون عناوينها الرئيسة الاستقلالية المهنية والتكامل، والمساهمة في توطين الاعلام وحرية الصحافة في المقررات والمناهج الدراسية ارتباطا ذلك بالاختيار الديمقراطي والمسار التنموي.
 
مداخلة في ندوة " الصحافة المغربية:تحديات ورهانات" نظمها نادي الصحافة بالمغرب وقطاع الثقافة والفنون والاتصال لحزب التقدم والاشتراكية في فاتح نونبر 2022 بالرباط