الخميس 6 فبراير 2025
كتاب الرأي

خالد أخازي: المدرسة العمومية تلك المظلومة في زمن صعب

خالد أخازي: المدرسة العمومية تلك المظلومة في زمن صعب خالد أخازي

جميل ومطلوب تأهيل البنيات التحتية لمؤسسات التعليم والتربية...

جميل أن تنافس المؤسسة التعليمية العمومية شقيقتها الوطنية الخصوصية في نوعية طلاء وألوان وتجليات الجمالية من تشجير وبستنة وقاعات بحواسب وإن منتهية الصلاحية وانترنت بصبيب ولو لا يكف الإدارة وحدها لأداء مهام مسار بوابة الجحيم الرقمي..

جميل هذا الخيار الرقمي.... والتهافت مع المبادرات الدولية رغم إفراغها من جوهرها الكيفي وتحولها إلى تنافس عددي بين الأكاديميات...

فتعليمنا منذ زمن صار مسكونا بالمؤشرات والتنافس حولها...والترقي بها ومنها.... لأن الوزارة يدبرها عقل تقني لا تربوي ...

الأرقام في التعليم تزيف الواقع... ولا تشكل مرجعا علميا.

لكن للأسف ما نقوم هو نوع من العبث...

نحن للأسف غدونا مع الزمن جزء من ثقافة الكم لا الكيف...

وزارتنا غدت ظاهرة رقمية... والكل غدا أسير عمليات لا تنتهي ومؤشر نجاحها ليس الأثر التربوي بل المؤشرات...

لنعد إلى ظاهرة طلاء المؤسسات.... التي من أجلها خرج المديرون والمديران من مكاتبهم وظهر صور المتحمسين منهم وهم منهمكون في طلاء الأرصفة ورقي السلالم للوصول إلى السقف..

جميلة هذه الظاهرة... وخصوصا مع السليلفي

 استقبال التلاميذ بالتمر والحليب و" النفاخات" ... رائع ... وسيليفي أكثر من رائع...

من يدري... فقد نؤلف قلوبهم ... نتقي الغاضبين منهم والمتمردين...

جميل كل هذا... في زمن البؤس... والموت بالعوز والمرض...

جميل هذا وسط كل التفاهات التي لم نعد قادرين على الهروب منها...

لكن هنتك مفارقة قاتلة...

 ما نقوم به شبيه بعمل رجل تحترق داره من الداخل وهو منهمك في طلاء جدرانها الخارجية....

هذا التهافت نحو الاهتمام بطلاء المؤسسات التعليمية العمومية بألوان براقة، لتصير مؤسسات جذب واستقطاب فعلا يعيد جزئيا للمدرسة العمومية هيبتها...

ولكن ما يقع وراء الأسوار لا يمكن للصباغة ولا لمختلف الألوان تغطيته وستره...

فالكل يهاجم المدرس والمدرسة....

لأنهما في طليعة جبهة صراع مجتمعي ليسوا طرفا فيه....

فالأسر تتحدث عن أستاذ زمان بنوستجاليا غامرة...

والمجتمع يستحضر مدرسة زمان برومانسية جيل الأسود والأبيض..

يقولون تغير المدرس..

ينسون أن الأسر نفسها تغيرت...

ساءت وتعفنت واستقالت وغلبت وانشغلت بالخبز...

فقدت سلطتها على الأبناء وسلطوا غضبهم الاجتماعي على المدرسة...

وتلاميذ زمان ليسوا تلاميذ اليوم...

ونقابات زمان كان مناضلة مواطنة...

لا سوق مقايضة وريع.... إلا من مازالوا " يستحيون من تاريخهم النضالي"...

الأمس التربوي ليس لوحة يوم مشمس جميل...

فيه من السواد على قدر لون الأمل...

كان الكل... يرفع المعلم عاليا...

كانوا يبجلون الأستاذ حتى جاء يوم فلكمه الأب وشتمته الأم ثم جاء اليوم الذي لكمه فيه التلميذ... وبعدها حولوه إلى كيس إسمنت كل من أتى يفرغ فيه غضبه...

ثم تحول إلى نكتة... وصار لقب الأستاذ مشاعا ينادى به النادل والسائق والمجرم....

 للأسف تتعالى الأصوات عن أزمة المدرسة....

والكل يقفز على أقصر حائط هو المدرس والمدرسة...

في الفرعيات النائية في مغرب التهميش لا يتورع التافهون والأمويون من بعض السكان عن فرض سلطتهم على المدرس... ولأنه غريب... يمارس عليه الاضطهاد...

والتكالب... والتآمر...

قد يشتم المعلم فقط من أجل أن يظهر تافه جاهل فحولته لزوجته ويثبت للناس مكانته..

أو من أجل حكاية في السوق الأسبوعي لبطل أعرابي نهر الأستاذ كاد أن يرمي به في" المطفية" والجمع منبهر بالحكاية...بين ضاحك وفخور وشامت..

قد ينتهك السكن الوظيفي...وتسرق الملابس والأثاث وتروع المدرسات

قد تهاجم المدرسات ليلا...ويعيشون ليالي الرعب..

لا أحد مستعد لإعادة الحق الرمزي للمدرس..

يرمونهم عند تنقلهم بين الدواب والأكياس وقنينات الغاز...

يأخذون منهم ثمن الرحلة...

يقطعون الطريق والسبل الوعرة على أقدامهم...

ولا تقف لهم سيارات وشاحنات الوجهاء....

وألذ ما يستلذ بهم مقدم دوار أو شيخ اشترى منصبه هو إظهار سلطته على حساب المدرس...بكل الوسائل المتاحة....

ليكبر في عين الدواوير عليه أن يضطهد المدرس ويولم لرجال الدرك ورجال السلطة...

أم المنتخبون فبعضهم... يجدون في المدرسة وسيلة لرفع قيمتهم الانتخابية....

فتغدو جبهة بدل أن تكون شريكا....

جميل أن نطلي المؤسسات بأقواس قزح...

لكننا...كرجل معتوه يطلي جدران بيته الخارجية بينما المنزل يحترق من الداخل..

من يرددون نوستالجية المدرسة القديمة...

هم واهمون وينشرون الوهم...

كانت المدرسة القديمة غير مكلفة فعلا...

وكان الامتحانات الإشهادية ترمي بالآلاف إلى الشارع...

من خمسين تلميذا كان لا ينتقل غير أربعة على الأكثر...

ما هي نسب الباكالوريا إلى حدود الثمانينيات؟

عودوا للتاريخ وتبينوا الأرقام للقيام بالمقارنة الموضوعية....

لم يتغير المدرس ولا المدرسة...

بل تغير المجتمع...

استقالت الأسرة من مهمتها ...

فقدت السيطرة على أبنائها....

فكيف للمدرسة أن تربي وتعلم العاق والجانح والمتمرد والغاضب والمهلوس والمستهتر...؟

كانت المدرسة العمومية خليطا من أبناء الشعب... من الأعيان والطبقة الوسطى والحرفيين والصناع والفقراء...

فكان التوازن الاجتماعي... وكانت للمدرسة جبهة مجتمعية متراصة تحميها وتبجل الأستاذ..

فأفرغناها من التنوع...

من سر الحياة...

من جوهر الاستقرار وتبادل القيم..

تركها الأعيان والموظفون والطبقة الوسطى والرموز...

لم يبق غير الفقراء والمعوزون....

فغاب عنصر تفاعل القيم والتضامن..

وغدت المدرسة فضاء للعنف والغضب وبنية عاكسة لما يقع في الأحياء الساخنة الهامشية..

المدرسة العمومية مظلومة لأنها بلا صمامات أمان مجتمعية...

 في مواجهة مباشرة مع الشعب الذي يعاني من الهشاشة والعوز والغضب...

تؤدي وظيفة أكبر من حجمها...

لا يمكنها أن تكون ضحية الفشل السياسي في تدبير شؤون الناس...؟

وحدها في مواجهة... كل هذا....

هي والملاعب...وأحياء تركوها لقطاع الطرق والفتوات..

غدت كيس الملاكمة الذي يفرغ فيه الغاضبون والمعوزون غصبهم.... نساء... رجالا.... أسرا... بل حتى بعض المسؤولين الذين فشلوا في امتحانات" القياد" فاضطروا لولوج المهنة بطموح القائد...

الذين يتحدثون عن ضعف المردودية في التعليم العمومي يجهلون الحقيقة السوسيو بيداغوجية للتعليم المقارن..

التعليم الخصوصي صار ملاذا للطبقة الوسطى والأغنياء والمتعلمين وغيرهم من الأطياف المجتمعية والرموز....

قد كان إلى زمن قريب مؤسسات الفرصة الثانية... مؤسسات تستقبل من طردوا من التعليم العمومي.. طوق نجاة لمن فشلوا في التعليم العمومي..

كان المدرسة الخصوصية تقتات من الفشل الدراسي...

فغدت تقتات من البؤس المجتمعي التربوي..

قوة المدرسة الخصوصية في نخبويتها... وفي فلترة التلاميذ بهاجس مؤشرات النجاح التي هي نتاج صيرورة من الفلترة...

والدليل أن أبناء وبنات المؤسسات العمومية من الأسر غير المستقيلة من مهامها هم من يكونون في الصدارة....

ما العمل...؟

على الذين تحركهم رومانسيا تربوية ماضوية أن يعلموا أن المدرس لم يتغير... بل هم من تغيروا... ففيهم من تخلى عنها وألحق أبناءه بالبعثات الأجنبية أو المدراس الخاصة جدا... ومنهم من يزيف الحقيقة حين يخفي الواقع المرير... ويزايد بمقالات طائشة كبندقية فارس في حلبة الفروسية الفرجوية...

الانفلات القيمي الأسري والمجتمعي وهروب الطبقة المتوسطة من المدرسة العمومية... تركوها بلا روح قيمية ولا تماسك مجتمعي....

تذكروا أسرة زمان...

أب زمان...

أم زمان....

زقاق زمان...

رائحة زمان...

دور سكان الدرب جميعا قبل أن تملأ قلوبهم الأحقاد وتتعاظم الأنوات وتدبر الازمات بالخبث..

أقسام زمان... التي تجمع ابن الإسكافي وابن المدير وابن المحامي وابن القاضي وابن الفلاح وابن العاطل....

اختفت... فاختفت روح المجتمع كما اختفت في مدن السكن الاقتصادي... بإنشاء مجتمعات حاقدة معزولة مهمشة مقهورة..

تذكروا أن ديمغرافية زمان... وحاجيات الدولة للأطر... حيث كانت المدرسة سبيلا للرقي الاجتماعي...

توقفوا عن جلد المدرس والمدرسة...

فالتلميذ الذي يهين أستاذه ويعنفه...

آت من وسط يصحو على العنف وينام على العنف..

والأسرة التي لا تجد غضاضة في الهجوم عليه وعلى المدرسة....هي من تصنع تلميذا عنيفا...بلا طموح ولا أمل

والمجتمع الصامت عن قول الحقيقة ومواجهة أقلام حقودة أو جاهلة... لن يرقى بالمؤسسة العمومية....

لأنها بكل بساطة في خط التماس مع الغضب الشعبي...

ولأن الاسرة تغيرت...

والتلميذ تغير...

تحول إلى الأسوء...

في فضاء مجتمعي ينخره الفساد وترويج المخدرات واللصوصية وانتشار العقوق والانحلال والتفكك الأسري..

وبالتالي فأضعف حلقة في بناية يعلو فوقها العلم الوطني هو المدرس....

فلا تستحضروا الأمس وأنتم تعلمون أن المقارنة مستحيلة إن لم تأخر بعين الاعتبار كل المتغيرات السوسيو ثقافية.