Thursday 17 July 2025
سياسة

بعد خروجها المذل من مالي.. هل سيردم المغرب فرنسا ردمة نهائية؟

بعد خروجها المذل من مالي.. هل سيردم المغرب فرنسا ردمة نهائية؟ تعلق الأمر بفرنسا أو غيرها، الملك حسم أمر الشراكات الثنائية بمنظار موقف الدول من الصحراء

يصعب توصيف العلاقات المركبة بين الدول المستعمِرة ومستعمراتها القديمة بمفردات من داخل اعتبارات المنطق والتاريخ، خاصة إذا كانت تلك الدول تعتبر الحالة الاستعمارية قدرا محتوما بحيث تصر على أن يبقى ما تعتبره حبل السرة بينها ومستعمراتها السابقة خيطا ممتدا في الزمن إلى ما لا نهاية.

فرنسا تُعتبر النموذج الأمثل لهذه الحالة رغم ما راكمته من تطورات كبرى نقلتها من القرون الوسطى إلى عصر النهضة فعصر الأنوار إلى أن تشكل ما يسمونه هناك قيم الجمهورية ومبادئها. من ثم صار لهذه الدولة قناعان: الأول يقتضي التحرك في محيطها الداخلي كأحد رعاة حقوق الإنسان والحريات، والثاني يعيدها على المستوى الدولي إلى القرون الوسطى حيث إذلال الإنسان وقهر الأجانب وقمع حريات الشعوب.

من هنا كذلك نفهم جوهر الدولة الفرنسية الذي هو التمثل الحقيقي للكيان الدولتي المزدوج لا فقط لأنه يتحرك عبر منصات العالم بقناعين، ولكن كذلك لأنه يمعن في امتهان كرامة البشر، ويجعل هذا الإمعان عقيدة مترسخة في بناء علاقاته الدولية. وذلك هو الدرس المستخلص من سلوك فرنسا تجاه مستعمراتها السابقة، سواء تلك التي تحررت من الطوق الاستعماري، أو التي تندرج ضمن إطار فرنسا ما وراء البحار. وهو نفس الدرس المستخلص كذلك من سلوكها تجاه قضايا التحرر في العالم، ورهانات استكمال الوحدة الترابية للدول والشعوب.

ذلك بالضبط ما خبره المغاربة الذين عاشوا معاني الاحتلال الفرنسي منذ داهم ترابنا الوطني في مطلع القرن الماضي، وإلى أن تحررت بلادنا بعد أكثر من أربعة عقود لم نفتقد فيها فقط سيادتنا الوطنية بما تعنيه من كرامة وحرية اتخاذ القرار، ولكن ثم إتلاف خيراتنا الطبيعية والمعدنية، بل الأخطر كان هو التلاعب بخريطتنا الترابية، واغتصاب أرضنا حيث ألحقت أجزاء عديدة من ترابنا بالكيان الجزائري حين كانت تعتقد فرنسا أنها مقيمة هناك إلى الأبد.

إننا إذ نسوق هذه المعطيات فذلك يتم من طرفنا لا لأننا مرضى بالذاكرة، أو نبغي استثمارها كأصل تجاري. ولكن لأن فرنسا ذاتها هي من يحيي فينا هذه الذاكرة الجريحة. وإذا كنا قد قلنا، في مطلع المقال، بأن فرنسا هي الحالة المثلى للتصور الاستعماري فإن حكام فرنسا اليوم هم الحالة المثلى لتجديد هذه الحالة، ولتواصل آثارها السيئة، خاصة وأنهم تولوا إدارة شؤون البلاد في لحظة حاسمة من تطور وضعنا إقليميا ودوليا، ومن تطور قضيتنا الوطنية. ولتوضيح الصورة أكثر فلقد تميزت الولاية الأولى للرئيس إيمانويل ماكرون (2017 - 2022) بتواصل نهوض مغربي على المستوى التنموي المتسم بتنوع شراكاته من خلال محاور جديدة في الشرق والغرب، وكذلك من خلال توطيد امتدادنا الإفريقي اقتصاديا وتجاريا وثقافيا. وهذا هو حجر الزاوية المعبر عنه بتحقق انتصارات تهم قضيتنا الوطنية، فخلال تلك الولاية، المتجددة اليوم منذ أبريل الماضي، تم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه في دجنبر 2020، بموازاة إقرار كل  إسبانيا وألمانيا وهولندا بصواب مقترح الحكم الذاتي باعتباره الحل الجدي لقضية صحرائنا. ولأن "العقل" الاستعماري لا منطق له، ولا قدرة له على الحكمة والتحكم فقد كان من الطبيعي أن تنزعج فرنسا لما تحقق للمغرب، سواء على مستوى اختياراته التنموية، أو علاقاته الدولية، أو على مستوى قضيته الوطنية. وهذا هو الذي يفسر السلوك الفرنسي الذي صار يصعب عليه أن يرانا دولة حرة تجسد بالفعل وبالقوة اختياراتها السيادية خارج أية اعتبارات وصائية مهما كان مصدرها.

في هذا السياق جاء الطرد المذل من مالي في مطلع السنة الجارية حيث لم تفقد بلاد ماكرون فقط هيبتها ووزنها الإفريقي، بل فقدت موطئ قدم في منطقة الساحل التي كانت تعتبر بالنسبة إلى الفرنسيين محمية ببعد استراتيجي كبير. تلا ذلك مباشرة اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية لتعبث بالعقل الفرنسي بعد أن فشل ماكرون (أيام رئاسته لمجلس لاتحاد الأوروبي) في أن يكون له دور فعلي في إيقاف روسيا عند حدها. ومن ثم صارت بلاده من ضحايا تلك الأزمة بعد أن تبين أنها مهددة بشتاء استثنائي جراء احتمال عدم كفاية الغاز، وبأزمة اجتماعية جراء تمادي طغمة الرأسماليين الفرنسيين في الإجهاز على ما تبقى من القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي.

ضمن هذه التفاعلات قرر الإليزي أن يعود إلى جنرالات الجزائر بعد أن وصفهم، في تصريح سابق، بأنهم يحكمون بلدا يعيش، منذ الاستقلال، على "ريع الذاكرة" متسائلا عن إمكانية وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. كما قرر، في نفس الإطار، تشجيع حاكم تونس قيس سعيد على التمادي في نزوعه الاستبدادي دافعا به إلى الارتماء في حضن الجنرالات، وعبرهم إلى استقبال زعيم البوليساريو ضدا على الوضع التاريخي لتونس منذ أن كرسها الحبيب بورقية كدولة توازن واعتدال في محيطها العربي والدولي.

انزعاج العقل الاستعماري لم يقف عن هذا الحد. بل تمادى إلى افتعال الأزمات مع المغرب بممارسات غير مقبولة مثل اتهامنا بالتجسس، أو بقبول منح وضع اللاجئ لبعض مدعي المعارضة المبتزين، أو بالتضييق على المغاربة للحصول على التأشيرة إلى غيرها من الممارسات التي لم يسبق أن نزلت بالعلاقات الفرنسية المغربية إلى هذا الحضيض.

مجمل القول إن أوضاع المغرب الحالية، بانتصاراتها ومنجزاتها، وكذلك بما يعتورها من كبوات هنا أو هناك قد أقنعت المنتظم الدولي بصواب اختياراتنا. لكنها كشفت لنا على الأقل بأن فرنسا تعاني من داء عدم القدرة على النظر إلى الواقع بموضوعية واعتدال. كما صار يتعذر عليها فهم أن المغرب، قيادة وشعبا، قد أرسى معادلات جديدة في بناء علاقاته الدولية قوامها خيار حداثي يتمثله شعب يعيش الحرية بتدرج، وبخطى هادئة نحو استكمال تحرير ترابه بموازاة استكمال بنائه الديمقراطي.

من هذا المنطلق ينبغي قراءة الخطب الملكية ذات الصلة بهذا الموضوع، خاصة تلك التي وضع فيها الملك النقط على الحروف في ما يهم علاقتنا بالمحيط الإقليمي والدولي، لا فقط ما يخص علاقاتنا بفرنسا، حيث أكد في خطابه الأخير، بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، بأن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات". وهذا ما يفيد بالمعنى الواضح بأننا نريد صداقات حقيقية تقوم أساسا على الاعتراف بحقنا في السيادة الكاملة غير المشروطة، والتي تمر أساسا عبر الاعتراف بمغربية الصحراء. وهنا يتضح مرة أخرى أن المغرب إذ يخاطب مستعمريه السابقين، وكل المنتظم الدولي، فليؤكد القول الصراح بأننا نريد أصدقاء حقيقيين، لا شركاء مقنعين، أو مصابين بداء الدالتون أو عمى الألوان.

 

من هنا البداية ثم المنتهى.

 

تفاصيل أوفى تقرأونها في العدد الجديد من "الوطن الآن"

رابط العدد