الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

شراد: تكريس لون الأغاني والموسيقى الشبابية جناية في حق الموروث الثقافي المغربي

شراد: تكريس لون الأغاني والموسيقى الشبابية جناية في حق الموروث الثقافي المغربي عبد الرحيم شراد

سجل مراقبون أن القائمين على الشأن الموسيقي والغنائي في المغرب لا يهتمون في زمننا هذا إلا بلون موسيقي ولون غنائي واحد يرتبط بالموسيقى الشبابية، التي تسيطر على المشهد الفني، أما باقي الأنماط فهي مطموسة ومسجونة في دائرة المنسي.

من هذا المنطلق ينتصب سؤال حارق: هل رحم المغرب عقيم إلى هذه الدرجة، ولم نعد قادرين على ضمان استمرارية إنتاج ألوان موسيقية وغنائية من موروثنا الثقافي رافقت الناس في حياتهم منذ عقود؟

من الأنماط الموسيقية والغنائية المغربية المطموسة والمسجونة في دائرة المنسي الأغاني العصرية، فضلا عن طمس الظاهرة الغيوانية إلى جانب تراث فن العيطة، حيث نجد أن نفس الأغاني التي أداها الرّواد يتم تكرارها ويتم إعادة تقديمها بطريقة "عشوائية" تشوّه كلماتها بعيدا عن ضوابط الميزان والإيقاع واحترام أذن المتلقي باستثناء بعض الإشراقات. ونفس الشيء ينطلي على فن الملحون وطرب الآلة الأندلسية بحيث أن إنتاجات الرّواد هي التي تتكرر ويعاد بثها عبر برامج إذاعية وقنوات تلفزيونية.

طبعا نحن لسنا ضد الموسيقى الشبابية، ولكن لابد من طرح السؤال: هل هناك إرادة رسمية من طرف مؤسسات الدولة تتجه نحو إقبار الأنماط التي ذكرنا مقابل إعلاء شأن الأغنية الشبابية (سعد لمجرد ومن على شاكلته) على حساب الموروث الموسيقي والغنائي المغربي (الأغنية العصرية وأغاني فن العيطة والملحون وطرب الآلة، وأنماط الأغاني الشعبية) التي شكلت مرجعا تراثيا وكنوزا ثمينة يفتخر بها كل المغاربة؟

إن دليلنا في هذا الاتهام هو أن بعض القنوات التلفزيونية، و الإذاعات (مركزية وخاصة) لا تذيع ولا تبث إلا لون الموسيقى الشبابية، ومن حين لآخر تتكرم على الشعب المغربي بأغاني عصرية أصيلة وأغاني من الموروث الشعبي في أوقات متأخرة من هزيع الليل، وكأنها تقدم منتوجا لا يصلح إلا لفئة عمرية ومحضور عن فئات أخرى.

السؤال الأكثر غرابة هو لماذا أن أغلب المهرجانات تسير في نفس المنحى الذي ينتصر لنمط الموسيقى الشبابية على حساب الموروث الثقافي والتراث الشعبي، فين حين أن المغرب يزخر بأنماط الموسيقى التقليدية ومن واجب الدولة المغربية أن تنصف وتضمن حق جميع المواطنين في التمتع والاستمتاع بكل الألوان التي تعتبر موروثا لكل المغاربة. ولا حق لأي مسؤول أن يفضل هذا اللون عن الآخر؟.

في هذا السياق وجهنا أسئلتنا للباحث والكاتب الأستاذ عبد الرحيم شراد، حيث عبر عن موقفه من خلال هذه الورقة التي تتقاسمها جريدة "أنفاس بريس" مع القراء.

أشكركم جزيل الشكر على فتحكم باب الحوار الفكري الجاد حول هذا الموضوع بالذات، لما يكتسيه من أهمية. لأن القضية حسب رأيي تتعدى في عمقها الموضوعي والشمولي مسألة الأنماط الموسيقية والغناء، إنها قضية مرتبطة أساسا بالذوق العام. كما تحدده منظومة القيم والأخلاق. إن السؤال الجوهري في هذا الموضوع بالذات هو إعداد أو بناء الإنسان المغربي الذي نريد: أي مواطن لأي مجتمع ؟

إن شعبا مثل الشعب المغربي لا يرضى لنفسه أبدا أن ينسلخ عن هويته وتاريخه وماضيه ويعيش حالة التيه والتمزق والشتات. لقد حافظ أجدادنا على هذه الهوية ومن واجبنا كفاعلين أن نصونها و نرسخها في وجدان أجيال الغد، و عندما نتحدث عن الوجدان نجد أن الموسيقى والغناء إن لم نقل الفن و الأدب على العموم يلعبان دورا بارزا في تشكيل هذا الوجدان و هندسته.

قد يكون من الأمور البديهية اليوم أن نشير إلى تنوع مظاهر الغناء وأنماط الموسيقى بالمغرب. إن هذه التعددية دليل على غنى الموروث الموسيقي والغنائي، كما أن الإنفتاح على موسيقى العالم ميزة يكاد ينفرد بها المغرب عن غيره من بلدان العالم . إن هذا التنوع و هذا الإنفتاح لا يجب أن يحجب أبصارنا على الواقع الحالي للموسيقى و الغناء بالمغرب . شبح ما يترصد لإبداعنا الحقيقي.

من يريد طمس هويتنا ومحو ذاكرتنا؟ ولمصلحة من؟ لن نكون الغراب الذي ما هو بمشيته و لا هو بمشية الحمامة، نريد أن نكون كما نحن . لنا موسيقانا التي تشبهنا ونشبهها ولنا أغانينا الصادقة التي تنبعث كلماتها وأنغام ألحانها من وجداننا.

إن الراديو والتلفزيون مسؤولان بالدرجة الأولى على الحفاظ على الذوق العام، عليهما الإستئذان قبل دخول بيوتنا والتسلل إلى وجداننا، وشرط الإستئذان مرتبط بسؤال: ماذا يريد المغاربة؟.

إن تكريس النموذج الواحد تحت ذريعة أن الأغاني والموسيقى الشبابية مطلوبة و مرغوب فيها هو جناية في حق بقية الأنماط والألوان الموسيقية التي يتم الإجهاز عليها وإقبارها. الكثير من الفنانين والمبدعين وكتاب الكلمات طالهم الإهمال و النسيان و في المقابل ظهرت وجوه و أسماء باهتة، قد يبدو من الحمق أن نبدل عملة حقيقية بأخرى مزيفة.

استطلاع بسيط للجانحين والمنحرفين من المراهقين والشباب حول الأغاني و الموسيقى التي يستمعون إليها سيكشف إلى أي درجة تغذي هذه الموسيقى سلوكاتهم المنحرفة بكلمات أغنيات تمجد العنف وتنتصر للحقد والتعصب والغضب و تشجع على الإنحراف. إنها موسيقى هدامة للقيم والأخلاق، لا ترقى بالمدارك الحسية والجمالية لمستمعيها، للأسف وجدت طريقها إلى شبابنا عبر وسائل التواصل الإجتماعي، فأصبحت المواقع تعج بضجيجها. حروب وهمية بين فناني "الرَّابْ" هدفها الرفع من منسوب المشاهدة و تحقيق الأرباح المالية، والجمهور من الشباب التائه ينتظر متى سيفرغ هذا المطرب ذخيرته في قلب مطرب خصم، حتى أنهم أوجدوا لهذه الضربات المتبادلة إسما خاصا " الَكْلَاشْ ."

إن المتتبع للبرامج الفنية والسهرات الموسيقية على شاشة التلفزيون سيدرك حتما كيف غابت وجوه وأسماء بارزة لفنانين مغاربة لهم بصمتهم الخاصة والمتميزة، بينما فتحت أبواب الأستوديو على مصراعيها لصنف آخر من مطربي الأعراس و "اَلْعَمَّارِيَّةْ". هناك وجوه أصبحت تسكن التلفزيون وتطل على الجمهور دون استئذان أكثر من مرة خلال الموسم الواحد، فأصبحنا لا نعرف إن كنا أمام تلفزيون أم في حضرة متعهد حفلات خاصة، أستسمح إن أنا استعملت عبارة "لْقَايْجِيَةْ". الذين حلوا محل العازفين المهرة، وأصبحت برامجنا و سهراتنا تضج بالأنغام النشاز التي تفسد الذوق الفني.

أرى أنه من واجبنا كنخبة مثقفة تهتم بهذا المجال، التنظير لخطاب يؤطر الممارسة الفنية للعديد من الأنماط الغنائية والموسيقية المتداولة بالمغرب ومن بينها فن العيطة، التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تصحيح نظرة الناس إليها. صحيح أن أغلب المغاربة يحبون العيطة و يطربون لها، لكن رغم هذا تظل في وعينا الجمعي مرتبطة بالخمر والرقص المثير والمستفز أحيانا للمشاعر أو الخادش للحياء.

يجب تشذيب العيطة من كل هذه الأشواك الجارحة، العيطة نمط موسيقي طربي مغربي أصيل، متونها قصائد كتبها شعراء حقيقيون، لها ضوابطها وأصولها وقواعدها من حيث البناء و اللحن والغناء.

هذه الحقيقة يجب أن تدرس في المعاهد الموسيقية ويجب أن تكون لها أنطولوجيا تحفظ متونها القديمة حتى تهتدي بها الأجيال من الفنانين من أجل أن يحققوا لها الإمتداد في الزمان و في المكان . علينا في هذه المعاهد أن نبحث عن الأصوات الحقيقية التي يمكنها أن تؤدي فن العيطة و أن ندربها كما ندرب أصوات الموشحات العربية .

أذكر ذات مرة في جلسة جمعتني و صديقي مطرب الملحون الدكتور جمال الدين بنحدو أنه قال لي بالحرف عن منشد الملحون المرحوم الحسين التولالي بأنه قال له: "من أراد أن ينشد الملحون فعليه أن يترجل، ومن أراد أن يغني العيطة فعليه أن يتأنث "، أكيد أن المرحوم الحاج الحسين التولالي كان يقصد الميوعة والإسفاف الذي وصلت إليه العيطة على يد بعض المتطفلين، حتى كادت أن تصبح فن المخنثين وبائعات الهوى. وهذه هي الأشواك الجارحة التي تحتاج إلى التشذيب حتى نعيد الإعتبار لفن العيطة ونرقى به .