السبت 11 مايو 2024
فن وثقافة

جمال الدين حريفي: وصية إلى أبناء المستقبل  قبل الموت بقليل أجيال تستحق الحياة

جمال الدين حريفي: وصية إلى أبناء المستقبل  قبل الموت بقليل أجيال تستحق الحياة جمال الدين حريفي و الكاتبة " فاطمة ياسين"

قدم الناقد جمال الدين حريفي، قراءته في رواية " قبل الموت بقليل" للكاتبة فاطمة ياسين، الصادرة عن دار النشر والتوزيع المدارس سنة2022.

"أنفاس بريس" تنشر قراءة جمال الدين حريفي، للرواية، التي اعتبرها "وصية لأجيال المستقبل: قبل الموت بقليل.. حياة تستحق أن تعاش":

بعد سنوات على الموت المبكر والغامض لعبدو، الموظف الطموح والمثقف الواعد ، تتوصل حياة قرينته في العمر وشريكته في الطموح وفي الحلم بالزواج والأطفال والأسفار في عوالم الأدب والمعرفة، بالمذكرات التي خط عليها  معاناته وآلامه وتأملاتها في أحوال ومآلات  وأنماط سلوك "الكائنات الإدارية" التي جمعته بها رحلة العمر القصير ما بين العمل والانتحار المزعوم.
ستفتح حياة دفتر الماضي من جديد وتقلب صفحاته واحدة واحدة في محاولة لاسترجاع ذكرياتها مع الحبيب ولمعرفة ذلك السبب العجيب الذي أدى به إلى تلك الميتة المبهمة الغامضة. ثم ستقرر وفاءً لروحه ولذكراه أن تشرك معها القارئ في هذا الإرث الذي ستعتبره وصية للأجيال القادمة، ونداء من أجل المستقبل. من أجل مجتمع متقدم وديموقراطي وحداثي، ومن أجل أجيال متفتحة ومعطاءة، لا تقبل بالإحباط ولا تستسيغ الفشل والخيبة.
 " قبل الموت بقليل"، هو العنوان الذي اختارته الكاتبة " فاطمة ياسين" لأول أعمالها الإبداعية. والذي هو في حدود علمي أول عمل إبداعي عربي يجعل من الإدارة موضوعه الخاص، وينشغل بتشريحها وتفكيك آليات عملها الخفية ورصد أنماط سلوك شخوصها إذا صح أن نعتبر العنصر البشري في الإدارة شخوصا يلعبون أدوارا مرسومة سلفا ويمشون في ممرات محددة لا يحيد عنها إلا جاهل بدواليبها وبأساليب عقابها للرؤوس العنيدة. بل والأصح أن نعتبرهم ذواتا فنصف عمل الكاتبة بكونه بحثا في " الذات الإدارية - إذا صح هذا التعبير  -  وأنماطها السلوكية"  في مجتمعات جعلت من الحداثة والديموقراطية واجهة تخفي وراءها كل أنواع الاستبداد والإقصاء والتهميش والقهر الموروثة عن عهود إقطاع غير قابل للتصنيف.
لقد أنشأت الكاتبة لشخوص روايتها مسارات متعددة وكثيرة  كما هو اسم المقهى الذي جمع أول مرة بين البطلين" عبدو و حياة" ـــ "طراك ماش "ـ
ومن خلال مسارات  هذه الشخوص  شرعت في التشريح الدقيق والنقد الصريح لطريقة اشتغال الإدارة المغربية خاصة والعربية عامة باعتبار انتمائهما للواقع والتاريخ والذهنية نفسها، لا فرق في ذلك بين إدارة المؤسسات العمومية، أو إدارة  التنظيمات الحزبية أو النقابية أو الجمعوية. ولا فرق أيضا  بين مجتمع سياسي وآخر مدني إلا بما تيسر من شكل ولون الواجهة.
والكاتبة تتخطى العتبة المعتادة لنقد البيروقراطية التقليدية، بما فيها من تكلس ورتابة وبطء، وهدر للوقت والجهد، وفقدان للإنسانية، لتغوص في أغوار النفسيات وترصد أنماط السلوك الذي ينهجه المسؤولون تجاه مرؤوسيهم، ويحولهم إلى آلة لفرم لحوم المخالفين والمعترضين أو المجتهدين وأصحاب الكفاءات من الشباب الذي يطمح للتغيير، كما تصف باقتدار كبير، ومن زوايا متعددة، طريقة اشتغال هذه الإدارة /  الغول/ والطاحونة، التي تعمل كآلة للتطويع والتركيع  والعسف والإقصاء والتهميش من جهة،  كما تعمل من جهة ثانية كآلة لصنع الموالين والوصوليين والانتهازيين والمرائين والمنافقين.  آلة تتغذى على فسادها وتحوله إلى طاقة رهيبة لإنتاج المزيد من الفساد، آلة بلا مشاعر ولا أحاسيس، وبها يقاس الفرق بين مجتمع المواطنة والمؤسسات ومجتمع/ القبيلة والزاوية والشيخ العارف بسياسة وترويض المريدين.

كل ذلك تتقنه الكاتبة وتمهر فيه، دون أن تفرط في مقومات الرواية شخوصا وأحداثا وأمكنة.  ففي الرواية كل ما يجعل منها عملا إبداعيا ناجحا ورسالة اجتماعية واضحة.

في الرواية حب هادئ وجارف في الآن نفسه، وفيها بطولة ومروءة وشهامة، وفيها تسلط واستبداد وأنانية ونفاق ورياء وخيانة ووفاء. فيها ما في المجتمع من انحرافات وتناقضات ومفارقات، من خير وشر ومن فضيلة ورذيلة، ومن مسعى للتقدم وانجراف إلى الوراء.

فيها الحنو واللطف والقسوة والعنف.
وكل شخص من شخوصها يحمل في قلبه وعلى لسانه ما تيسر له التغذي عليه من هذه القيم في مجتمعه.

 تضع الكاتبة يدها بشكل خاص على ثلاث من البؤر التي تحضن الفساد وتنتجه وتؤبده، وتقوم بعرض كاف وواف ليس لأجسادها المريضة، وإنما لجثثها التي يتواصل تفسخها وتعفنها بشكل يبدو بلا نهاية. أمام الأعين والعقول، لمن شاء أن يرى ويفهم واحدا من أهم أسباب تخلفنا - الفساد -

1- مؤسسة/الإدارة:  والأعطاب الملازمة لها، سواء تعلق الأمر  بعلاقة الرؤساء والمدراء بالمرؤوسين والموظفين، أو  بعلاقة الإدارة بالتحولات السياسية والاجتماعية وبتعاقب مختلف  الأحزاب على تدبير قطاعاتها، وما يترتب عن ذلك من تغيير أو تثبيت في المناصب والمسؤوليات ومن حملات انتقام وعسف وتركيع للمختلفين أو ترقية للموالين.
2- المؤسسات العلمية: وخاصة الجامعات وما طرأ عليها من انهيار للقيم،  وانحطاط في السلوك، وتحول في الأدوار، حتى صارت موئلا وملاذا للمهووسين بالجنس، ولطالبات النجاح ببيع الجسد، بعد أن كانت الجامعات منارات علم ومعرفة، وساحات تبار ثقافي وسياسي بين مختلف وجهات النظر في المجتمع.

3- المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية: أي التنظيمات السياسية والمدنية التي يفترض فيها تأطير المجتمع، ويناط بها دور الريادة والقيادة والتنوير،  والتي لا تختلف  هي نفسها في تدبيرها وتسييرها عن الإدارة التي تنتقدها أو تعارضها، بله عن الزوايا والمشيخات التي يتحول فيها الفرد إلى مريد طيع خانع تحت أقدام السادة أولياء الأضرحة الجديدة.
وبين هذا وذاك، قدمت الكاتبة   قصة حب تليق بعملها الروائي وتشكل خلفية لتنامي وتطور أحداثه. 

قصة شاب لم يحالفه الحظ في التأقلم مع واقع عنيد  وعصي على الفهم، لا يقبل بأن تكون للفرد عزة نفس أو كرامة.
قصة صداقة بين موظفتين تتبادلان شجون العمل وخيباته، وتتفقان وتختلفان دون أن تنفك آصرة الصداقة بينهما.
قصة أخت عطوف حنون، تكرس حياتها للعناية بالأخ ورعاية مستقبله.
قصة أم تحمل هم ابنتها بين جفنيها ولا تنام إلا لتحلم بسعادتها في بيت الزوجية محاطة بالبنات والبنين.
قصة الشاف المفرمة.
قصة الحارس الذي لا يرتاح إلا وقد شنق أحلامه داخل واحد من مكاتب الإدارة التي يحمل في قلبه إلى جانب هم أبنائه هموم روادها من موظفين وموظفات.
قصة الأستاذ المهووس بالجنس، وتغيير الخليلات.
قصص المرائيين والوصوليين والانتهازيين.
قصص الشرفاء والأوفياء والمخلصين.
قصص النقابيين والحزبيين والأساتذة والمناضلين.
قصص الأباء والأمهات.
قصص المدن والأحياء.
قصة الفرد
قصة جيل
قصة مجتمع.
إذن، ف" قبل الموت بقليل" تملك راهنية لا يمكن في واقعنا الحالي غض الطرف عنها أو  تجاوزها. لأنها تعرض مكامن ضعفنا وأوجه تخلفنا الفعلية، كما تعرض كذلك مواطن قوتنا وأوجه تقدمنا المشرقة الوضاءة.  هي مرثية لفجيعتنا في العقول والقلوب. كما أنها مديح لمقومات النهوض الذي يثلج الصدور ويستحث الهمم.
" قبل الموت بقليل"، في النهاية، يمكن أن تعتبر  وثيقة وشهادة على حقبة من تاريخ تخلفنا، هذا إذا ما كان لنا حظ مستقبلا بفضل الأجيال المقبلة  -التي يخاطبها عبدو ويخصها بوصيته-  في التقدم، كما يمثل مادة غزيرة لمن شاء أن يفكر أو يتأمل أو يشتغل على فكرة الإصلاح. دون نسيان أنه  تشخيص دقيق لأمراضنا المزمنة والقاتلة لكل طاقة وجهد، المعطلة لكل كفاءة ولكل اجتهاد. لقد قامت فاطمة ياسين بعملية استغوار في عمق الكهوف المظلمة، وأعطت للهمهمات والهمس والوشوشة والإشاعات التي تخاف من التعبير عن رأيها وموقفها بوضوح، صوتا عاليا يعلن عن حقيقة تخلفنا وأسبابه وأعطابه.
فلها الشكر على هذا المجهود القيم والتوثيق الدقيق والشهادة الصادقة. لها الشكر على هذه الرواية الممتعة.
ف" قبل الموت بقليل" أجيال تستحق الحياة.