الجمعة 29 مارس 2024
مجتمع

حبيبي: استفزاز التلميذ للمدرس.. كيف يتم التغلب عليه وما هو التكتيك؟

حبيبي: استفزاز التلميذ للمدرس.. كيف يتم التغلب عليه وما هو التكتيك؟ عبد الإلاه حبيبي ومشهد عراك عنيف بين أستاذ وتلميذ

لن أنكر أنني تعرضت لاستفزاز خبيث في أول لقاء لي بتلاميذي حوالي سنة 1984، كان فارق السن بيني وينهم ضئيل جدا، بالكاد أربع سنوات أو أقل، أغلبهم كانوا يتحلون ببنية جسدية قوية وقامة طويلة، ورغبة جامحة في رفض سلطة مدرس شاب، يحاول أن يجد له موطئ قدم في بيئة اجتماعية بدوية، تطبعها الغلظة والاندفاع وسرعة الانفعال واستعمال الجسد في كل صدام حتى ولو كان مجرد محاولة تقويم سلوك أرعن...

 

كان الاستفزاز مدروسا لأنه أول درس جدي، بعدما أدرت ظهري للسبورة سمعت أحدهم يغني إحدى أغاني عبد الهادي بالخياط، أغنية شهيرة، منتشرة آنذاك بين الناس، تعمدت الإهمال بحكم انهماكي في الكتابة على السبورة خطاطة الدرس، لكن لما التفتت صوب مصدر الصوت، كانت النظرات الشريرة تلفحني من مؤخرة القسم، كانوا ثلاثة شبان تبدو عليهم علامات النشاز، يعني أن رؤوسهم تغلي من شدة رفضهم الخضوع لسلطة مدرس جديد، وقد تكون فرصة للفوز بجولة الحسم الأولى في رهان السلطة كما يقول المغاربة "في الاولى تيموت المش"... "الاولى علاش كتعول"...

 

تقدمت نحوهم، محاولا التعرف على من منهم أعجبه صوته وانطلق يغني دون مراعاة حرمة المكان وطبيعة العمل ونحن في خضم درس مدرسي، كانوا يستفزونني بنظراتهم الوقحة، قلت لكبيرهم، أي صاحب الجثة الوارفة، هل أنت صاحب الصوت المزعج، ساعتها كنت أعرف أنه الزعيم الورقي الذي أراد اقتحام سلطتي التربوية لكن بطريقة فجة، طلبت منه المغادرة حتى أقرر في مصيره، لكنه رفض، ونهض ليقاوم أمري، واضعا جبهته قريبا جدا من أرنبة أنفي... هههه لن أنكر أنني خبير جدا في عراك الأزقة، ولقد كبرت ونشأت في حارات شعبية تعلمت فيها كل فنون اللكم والضرب بالرأس، ومخاتلة اللكمات ورفع الأجساد من الأسفل، وإسقاط الخصوم بضربة كسر بالقدم وغيرها من الفنون الحربية التي يعرفها جيدا أقراني ونفس المنحدرين من هذه الأزقة الشعبية العارفين بتقنيات الدفاع عن الذات وصد الإهانات... وخاصة بين ذكور المتنافسون على الريادة أو الزعامة...

 

لم يكن أمامي من مخرج سوى أن وجهت له ضربة بالرأس سقط على إثرها أرضا، ولما ساعدته على النهوض حاول الانقضاض علي مرة أخرى، ولكن كنت أكثر شراسة منه، فسحبته نحو السبورة، وقلت له، الآن سنتعلم الملاكمة قبل الفلسفة، وطلبت منه حماية وجهه، وكان مذهولا على الرغم من أنه يمتلك جسدا قويا وأطول مني قامة، وقفت أمامه، ودعوته لإثبات رجولته، وفحولته، وما إن حاول أن يتحرك حتى كانت لكمة قوية على فكه السفلي قد أفقدته وعيه وسقط على الأرض جثة هامدة...

 

نهاية الاستفزاز مع انطلاق أول حصة دراسية في أول لقاء بالقسم وقبل أن أتسلم راتبي الشهري وأنا ساعتها أقيم في القسم الداخلي كحارس داخلية مساعد لأنني لا أستطيع توفير ثمن الكراء والأكل وغيرها، حيث دامت فترة انتظار صرف الحوالة الأولى عاما بكامله، أي قبيل توقيع محضر الخروج بشهر...

 

في الغد عادت الأمور إلى نصابها، تدخلت الإدارة وأبعدت ثلاثة عناصر من القسم، محذرة إياهم من أنهم لن يعودوا إلى متابعة الدراسة حتى أوافق على ذلك... وذات صباح كنت جالسا بمقهاي المعتاد أحتسي فنجاني الصباحي، حتى رمقتهم هناك في الجهة الأخرى للشارع، صعدت في جسدي حرارة الأدرنالين، وقلت اليوم ستكون معركة حامية الوطيس، وعبأت كل طاقتي الاحتياطية لأية مواجهة محتملة، لكن تبين لي أنهم يريدون شيئا آخر، تقدم نحوي ألطفهم، وما إن أصبح قريبا من مائدة المقهى حتى قفزت نحوه، وبسرعة سألته، هل تريد عراكا، قال وهو يتوخي الحذر والسلم، لا يا أستاذ نحن نريد أن نتصالح معك، لقد ارتكبنا في حقك خطأ، وإن لم تغفر لنا لن نعود أبدا للدراسة، على إثر هذا التوسل طلبت منه أن ينادي على صديقيه، لما حضرا، كان خصمي واقفا لكنه منكسر المزاج، نادما على فعلته، ومطأطأ الرأس كان يعتذر ويعدني بسيرة حسنة وصداقة حقيقية... تبادلنا التحيات بالأيادي وقلت لهم، غدا سندرس إذن الفلسفة...

 

بهذا الحكي السريع لهذه الواقعة الحقيقية، كنت أريد أن أشير إلى أمر مهم، وهو أن المدرس معرض باستمرار للاستفزاز من لدن نمط معين من التلاميذ، يكون هدفهم هو نسف سلطته وسحقها أمام التلاميذ، حتى يحولوا حصته إلى فترة استراحة ولعب ولهو و"تقشاب"...

 

لهذا فالمدرس الذي يقع في العنف الجسدي غالبا ما يكون قد تعرض لاستفزاز لفظي خبيث، وبحكم مقام اللحظة وكبرياء الوظيفة لن يتمالك نفسه ليرد الاعتبار لنفسه ولمهنته.. لكن في كل هذا تطرح أسئلة على التلاميذ الذين يعيدونهم إلى الصفوف لأجل استئناف المسار الدراسي بعد فشلهم لأكثر من ثلاث سنوات في تلمس طريق النجاح "المستعطفون"، وهذا النمط له خاصية نفسية تجعله يشعر بالحقد والضغينة اتجاه المدرسة والمدرس والرفاق الذين يكبرهم سنا ولا يجد وسيلة للتواصل معهم غير العنف... لهذا وجب إخضاع المدرسين لتداريب مكثفة على طرق وأساليب التحكم في الانفعالات والردود السريعة حينما يتعرضون للاستفزاز الخبيث من لدن تلاميذ مصابون بداء اختراق المنظومة الأخلاقية بالبذاءة والعنف اللفظي انتصارا لثقافة الأزقة السفلية وثقافات جماعات الانحراف والنشاز... والبحث لهؤلاء المستعطفون عن حل بعيدا عن قسم عادي يفرضون فيهم سلطتهم الشاذة على تلاميذ صغار سيحرمون من حقهم الطبيعي في التواجد في فصل دراسي تسوده الألفة والمحبة والتواصل والتنافس الطبيعي والسلم المدني...

 

ورغم كل ما حكيت وبصدق، فإنني أرفض العنف كرد وحيد  على الاستفزاز، خاصة بالنسبة لواقع مدرسي مغاير، التلاميذ اليوم يتمتعون بسن أصغر من تلاميذ الثمانينيات، وخاصة بالنسبة للثانوي التأهيلي، ويأتون بأفكار مخالفة وتعابير عن الجسد والذات بدورها ذات خصوصية نوعية، إلى جانب أن أغلب الآباء اليوم يعرفون معنى التربية والمسؤولية والمدرسة ويرغبون في أن يتفوق أبناؤهم بأقل ما يمكن من الخسائر المادية والمعنوية...