كان الفقيه الراشدي رحمه الله، من الرجال الأفذاذ القلائل الذين طبعوا بشخصيتهم القوية وسيرتهم الأخلاقية وأريحيتهم الروحية وعلمهم الفياض حقبة من عمري وعمر بلدتي مريرت الأمازيغية اللسان والهوية والعاشقة لفقهائها وشعرائها وأبطالها، وكل من ترك بصمة في سيرتها كقرية ذات جذور تاريخية بعيدة المدى في عمق الوطن والدولة والناس...
رجل أسمر البشرة، مكتنز القامة، بشوش، دمث الخلق، طيب المعشر، لا تمل من مجالسته، رقيق المشاعر، حنون ، صوت جهوري لكنه رخيم، دافئ، عندما يتلو القرآن لا يمكن أن تشرد لحظة واحدة، مجلسه تحفه الوجوه المشرئبة إلى إسلام مغربي أصيل تعطره نسمات الواحات وسمو أشجار النخيل وبساطة أهل منطقة الرشيدية "قصر السوق" سابقا... من تلك الأرجاء المتعففة جغرافيا وماء وسماء وأرضا وإنسانا قدم الفقيه الراشدي ليحط الرحال بقبائل آيت سكوكو بمريرت، كان ذلك في خمسينيات القرن الماضي، في أحد مساجد القرية كان قد شرع في تعليم الصغار الكتابة والقراءة واستظهار بعض سور القرآن الكريم...
سي بلفقيه رحمه الله، أو الفقيه الفيلالي كما يروق لي تسميته، لم يكن أبدا غريبا عن بلدتنا، أو مختلفا عنها، لقد كان منها، عارفا بروحها، بطقوسها، بعاداتها، بتدين أهلها، وخاصة منهم المرابطون أصحاب تقاليد دينية بزواياهم وجوامعهم المنتشرة بين مداشرهم وقبائلهم، كان رجلا رحمه الله يعرف كيف يخاطب هؤلاء، ملما بتفاصيل مزاجهم، وقد افلح في جلب اهتمامهم، وإثارة انتباه الكبار والصغار إلى علو كعبه في العلوم القرآنية حفظا وقراءة وتفسيرا، لهذا كانت حلقته في المسجد يرتادها أهل الفضل ومحبو القرآن والباحثون عن معانيه بين ثنايا لغة لا يفكون مغالقها بسهولة... لهذا كان "بلفقيه" الراشدي رحمه الله بمثابة ذلك المفتاح النوارني الذي بعثه القدر لينهض بهذه المهمة السامية، ويكرس لها كل وقته واهتمامه وعمره حتى لقي ربه على هذا الحال الإيماني النبيل...
حظي الفقيه الراشدي باحترام كل سكان القرية، لم يكن يبخل عن إسداء النصيحة لمن يطلبها، وإبداء رأي الشرع حينما يقصده المتنازعون للبث في ما هم فيهم مختلفون زواجا حلالا، أو إرثا شرعيا، أو تجارة مباركة...
كان يقول رأيه المشفوع بحجج شرعية، حيث كان يقدمه في صيغة متواضعة لغة وبيانا ليفهمه المتخاصمون فهما جيدا حتى يستعملوه في حل خلافاتهم وجبر الضرر بينهم، كان كل همه رحمه الله هو رأب الصدع بينهم، وقد جعله عمله هذا منارة فقهية جذبت إليها النفوس الطيبة من الباحثين عن الشريعة الحقة والسمحة والرأي الفقهي المتنور الذي لا يغازل هوى، ولا يحرض غريزة، ولا يخلق بلبلة ولا يثير فتنة ولا يفرق بين الأهل والأبناء والأحباب والأسر والأقرباء، لقد كان علمه في خدمة الحق والمودة والصلح والمعاملة الخيرة ونسيان الأحقاد وتفضيل السلم على الشنآن، وكم من شر كنسه رأيه المتزن دون أن يشعر المتنازعون بحكمته ورفعة تعامله مع مشاكل الناس البسطاء في أوضاع اجتماعية هشة ومعقدة...
كانت للفقيه الفيلالي الراحل أسرة، وأبناء، وقد أصبح أحد أبنائه من رفاق دراستي الابتدائية منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، ولم تنفصم عرى الصداقة بيننا منذ ذلك الزمن إلى اليوم، إنه صديقي الراشدي، الأستاذ المتقاعد الآن، هو من بين رفاق طفولتي إلى اليوم، إنه سليل هذه الأسرة الفيلالية المشبعة بقيم النبل والتواضع والسلم والاحترام والسلوك القويم...
عَلّم الفقيه الفيلالي أبناءه القرآن مبكرا، حيث كان يحرص على أن يحفظوه عن ظهر قلب، كنا وقتها من بين الأطفال الذين تحلقوا يوما حول هذا العالم الجليل لسماع صوته الرخيم وهو يتلو القرآن لنأخذ الترتيل مباشرة من مصدر قريب، حي، جميل، متزن وعميق الامتداد في روحانية مغربية متعددة اللغات والهويات لكنها منسجمة في احترام وتقدير ثقافتها الدينية الضاربة الجذور...
كان صوته رحمه الله وهو يؤم صلات التراويح يسمع خارج المسجد منسابا كهدير روحي يلف الأزقة بنفحات تبعث الشجى في الجوارح، وتذكي الحنين في القلوب الهشة، وتبث الخشوع في النفوس الهاربة من ركاكة المعيش ورتابة اليومي القاهر… حينما يتردد صوته بين الجدران تنهض همم السامعين لتسافر في رحاب الحروف إلى أجمل ملكوت... اللهم اجعلها له صدقات جاريات...
قضى حياته رحمه الله في تحصين تدين القرية من كل النزعات الخارجية والمذاهب الغريبة عن ثوابت الملة المغربية عموما، ولم يكن مهادنا في ذلك، بل كان يعض بالنواجد على المذهبية المغربية الفقهية التي رسخها العلماء المغاربة الأوائل فقها وعقيدة وسلوكا أخلاقيا، وفي سياق ذلك كانت غضباته على كل من تجرأ على المس بالتقاليد الطقوسية المغربية وعادات الناس في التدين والتقرب من الله ، غضبات جدية مبررة شرعا وتاريخا... لهذا خصص دروسه المسائية في المسجد الذي انتقل إليه رفقة الذين كانوا يناصرون لمتابعة تصديه لكل البدع الغريبة التي بدأت تتسلل خلسة إلى قريتنا العاشقة لعقيدتها بقدر عشقها لحريتها وأعراسها وحفلاتها وبطولاتها وسماحة قلوب أهلها...
قضى الفقيه الفيلالي حينا من الدهر معتكفا في المسجد الذي اختاره ليرسخ فيه العقيدة الإسلامية السمحة، لا يخاف في ذلك لومة لائم، ولا دعوة غاو، ولا هوى عابر، وظل سكان القرية يحيطونه بهالة من الاحترام والتقدير حتى خفتت نار الدخلاء، وقل تأثيرهم، وفهم الناس أنهم إن هم أضاعوا تقاليدهم في التدين ضاعت منهم شعلة الإيمان التي ورثوها عن أجدادهم المتأصلين فكرا ومعرفة وتدينا ووطنية وغيرة على العقيدة والعرض وكل توابث المغاربة المتوارثة عبر العصور...
حينما أدركه الموت رحمه الله أوصى أهله ومحبيه وناس البلدة بالتصالح مع كل الذين أخطؤوا في فهم عقيدتهم، وانبهروا بمذاهب دخيلة، ودعاهم إلى التعامل معهم بروح إسلامية تجنح للسلم والمودة والقرب وتجنب الضغينة والقطيعة لراب الصدع وتوحيد الصف...
تلكم كانت سيرة الفقيه الفيلالي أحد أعمدة الروحانية الأطلسية التي منها استنشقنا هواء حب السماء وعشق الحق والسير في طريقه إلى يوم الدين... تغمده الله بواسع رحمته وهو دفين مريرت بلدته الروحية، وجعله في مقام الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا... وبارك في أبنائه الطيبين الذين ما زالوا قابضين على أخلاق والدهم كما عرفناهم منذ الصبا إلى اليوم.. ورحم الفقيه المناصر له "بوتموجوت" الذي كان قطبا في هذه الدعوة وهذا العمل الشرعي الطيب، وسنخصص لفقيهنا بوتموجوت مقالة تليق بمقامه رحمه الله...
رجل أسمر البشرة، مكتنز القامة، بشوش، دمث الخلق، طيب المعشر، لا تمل من مجالسته، رقيق المشاعر، حنون ، صوت جهوري لكنه رخيم، دافئ، عندما يتلو القرآن لا يمكن أن تشرد لحظة واحدة، مجلسه تحفه الوجوه المشرئبة إلى إسلام مغربي أصيل تعطره نسمات الواحات وسمو أشجار النخيل وبساطة أهل منطقة الرشيدية "قصر السوق" سابقا... من تلك الأرجاء المتعففة جغرافيا وماء وسماء وأرضا وإنسانا قدم الفقيه الراشدي ليحط الرحال بقبائل آيت سكوكو بمريرت، كان ذلك في خمسينيات القرن الماضي، في أحد مساجد القرية كان قد شرع في تعليم الصغار الكتابة والقراءة واستظهار بعض سور القرآن الكريم...
سي بلفقيه رحمه الله، أو الفقيه الفيلالي كما يروق لي تسميته، لم يكن أبدا غريبا عن بلدتنا، أو مختلفا عنها، لقد كان منها، عارفا بروحها، بطقوسها، بعاداتها، بتدين أهلها، وخاصة منهم المرابطون أصحاب تقاليد دينية بزواياهم وجوامعهم المنتشرة بين مداشرهم وقبائلهم، كان رجلا رحمه الله يعرف كيف يخاطب هؤلاء، ملما بتفاصيل مزاجهم، وقد افلح في جلب اهتمامهم، وإثارة انتباه الكبار والصغار إلى علو كعبه في العلوم القرآنية حفظا وقراءة وتفسيرا، لهذا كانت حلقته في المسجد يرتادها أهل الفضل ومحبو القرآن والباحثون عن معانيه بين ثنايا لغة لا يفكون مغالقها بسهولة... لهذا كان "بلفقيه" الراشدي رحمه الله بمثابة ذلك المفتاح النوارني الذي بعثه القدر لينهض بهذه المهمة السامية، ويكرس لها كل وقته واهتمامه وعمره حتى لقي ربه على هذا الحال الإيماني النبيل...
حظي الفقيه الراشدي باحترام كل سكان القرية، لم يكن يبخل عن إسداء النصيحة لمن يطلبها، وإبداء رأي الشرع حينما يقصده المتنازعون للبث في ما هم فيهم مختلفون زواجا حلالا، أو إرثا شرعيا، أو تجارة مباركة...
كان يقول رأيه المشفوع بحجج شرعية، حيث كان يقدمه في صيغة متواضعة لغة وبيانا ليفهمه المتخاصمون فهما جيدا حتى يستعملوه في حل خلافاتهم وجبر الضرر بينهم، كان كل همه رحمه الله هو رأب الصدع بينهم، وقد جعله عمله هذا منارة فقهية جذبت إليها النفوس الطيبة من الباحثين عن الشريعة الحقة والسمحة والرأي الفقهي المتنور الذي لا يغازل هوى، ولا يحرض غريزة، ولا يخلق بلبلة ولا يثير فتنة ولا يفرق بين الأهل والأبناء والأحباب والأسر والأقرباء، لقد كان علمه في خدمة الحق والمودة والصلح والمعاملة الخيرة ونسيان الأحقاد وتفضيل السلم على الشنآن، وكم من شر كنسه رأيه المتزن دون أن يشعر المتنازعون بحكمته ورفعة تعامله مع مشاكل الناس البسطاء في أوضاع اجتماعية هشة ومعقدة...
كانت للفقيه الفيلالي الراحل أسرة، وأبناء، وقد أصبح أحد أبنائه من رفاق دراستي الابتدائية منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، ولم تنفصم عرى الصداقة بيننا منذ ذلك الزمن إلى اليوم، إنه صديقي الراشدي، الأستاذ المتقاعد الآن، هو من بين رفاق طفولتي إلى اليوم، إنه سليل هذه الأسرة الفيلالية المشبعة بقيم النبل والتواضع والسلم والاحترام والسلوك القويم...
عَلّم الفقيه الفيلالي أبناءه القرآن مبكرا، حيث كان يحرص على أن يحفظوه عن ظهر قلب، كنا وقتها من بين الأطفال الذين تحلقوا يوما حول هذا العالم الجليل لسماع صوته الرخيم وهو يتلو القرآن لنأخذ الترتيل مباشرة من مصدر قريب، حي، جميل، متزن وعميق الامتداد في روحانية مغربية متعددة اللغات والهويات لكنها منسجمة في احترام وتقدير ثقافتها الدينية الضاربة الجذور...
كان صوته رحمه الله وهو يؤم صلات التراويح يسمع خارج المسجد منسابا كهدير روحي يلف الأزقة بنفحات تبعث الشجى في الجوارح، وتذكي الحنين في القلوب الهشة، وتبث الخشوع في النفوس الهاربة من ركاكة المعيش ورتابة اليومي القاهر… حينما يتردد صوته بين الجدران تنهض همم السامعين لتسافر في رحاب الحروف إلى أجمل ملكوت... اللهم اجعلها له صدقات جاريات...
قضى حياته رحمه الله في تحصين تدين القرية من كل النزعات الخارجية والمذاهب الغريبة عن ثوابت الملة المغربية عموما، ولم يكن مهادنا في ذلك، بل كان يعض بالنواجد على المذهبية المغربية الفقهية التي رسخها العلماء المغاربة الأوائل فقها وعقيدة وسلوكا أخلاقيا، وفي سياق ذلك كانت غضباته على كل من تجرأ على المس بالتقاليد الطقوسية المغربية وعادات الناس في التدين والتقرب من الله ، غضبات جدية مبررة شرعا وتاريخا... لهذا خصص دروسه المسائية في المسجد الذي انتقل إليه رفقة الذين كانوا يناصرون لمتابعة تصديه لكل البدع الغريبة التي بدأت تتسلل خلسة إلى قريتنا العاشقة لعقيدتها بقدر عشقها لحريتها وأعراسها وحفلاتها وبطولاتها وسماحة قلوب أهلها...
قضى الفقيه الفيلالي حينا من الدهر معتكفا في المسجد الذي اختاره ليرسخ فيه العقيدة الإسلامية السمحة، لا يخاف في ذلك لومة لائم، ولا دعوة غاو، ولا هوى عابر، وظل سكان القرية يحيطونه بهالة من الاحترام والتقدير حتى خفتت نار الدخلاء، وقل تأثيرهم، وفهم الناس أنهم إن هم أضاعوا تقاليدهم في التدين ضاعت منهم شعلة الإيمان التي ورثوها عن أجدادهم المتأصلين فكرا ومعرفة وتدينا ووطنية وغيرة على العقيدة والعرض وكل توابث المغاربة المتوارثة عبر العصور...
حينما أدركه الموت رحمه الله أوصى أهله ومحبيه وناس البلدة بالتصالح مع كل الذين أخطؤوا في فهم عقيدتهم، وانبهروا بمذاهب دخيلة، ودعاهم إلى التعامل معهم بروح إسلامية تجنح للسلم والمودة والقرب وتجنب الضغينة والقطيعة لراب الصدع وتوحيد الصف...
تلكم كانت سيرة الفقيه الفيلالي أحد أعمدة الروحانية الأطلسية التي منها استنشقنا هواء حب السماء وعشق الحق والسير في طريقه إلى يوم الدين... تغمده الله بواسع رحمته وهو دفين مريرت بلدته الروحية، وجعله في مقام الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا... وبارك في أبنائه الطيبين الذين ما زالوا قابضين على أخلاق والدهم كما عرفناهم منذ الصبا إلى اليوم.. ورحم الفقيه المناصر له "بوتموجوت" الذي كان قطبا في هذه الدعوة وهذا العمل الشرعي الطيب، وسنخصص لفقيهنا بوتموجوت مقالة تليق بمقامه رحمه الله...