الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

في الحاجة إلى توثيق رقصة المكاحل الحربية الحمرية كتراث لامادي

في الحاجة إلى توثيق رقصة المكاحل الحربية الحمرية كتراث لامادي نموذج من رقصة المكاحل الحربية الحمرية

ساهمت جريدتي "الوطن الآن" و"أنفاس بريس" في النبش وتوثيق وإعادة إحياء رقصة المكاحل الحربية الحمرية بمشاركة إحدى فرق "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا"، من خلال إقامة حفل خاص على هامش زيارة "مَشْيَخَةْ" زاوية نْوَاصَرْ اَلْخَنُّوفَةْ، في ضيافة العلام عبد الكريم السايسي وارث سر التبوريدة على يد المرحوم الشيخ لمقدم الحاج الطَّاهَرْ اَلْخَنُّوفِي الناصري الحمري، وكان ذلك بمناسبة مساهمة ثلة من أبناء المنطقة في إعداد برنامج تراثي يعنى بالزاويا وصلحاء منطقة أحمر.

لقد كانت الفرصة سانحة للإستمتاع رفقة ثلة من المهتمين والباحثين وضيوف الحفل التراثي بأغاني الخيل والبارود المصحوبة برقصة لمكاحل الحربية، على إيقاع سنابك الخيل وصيحات الفرسان. بالطبع كان هدفنا الأسمى هو رد الاعتبار لموروثنا التراثي بمنطقة أحمر، لأنه يعتبر شكلا تراثيا جماعيا نابعا من أصالة الإنسان المغربي ويتطلب مجهودا من أجل تثمينه وتحصينه ضد النسيان والاندثار.

 

زاوية الخنوفة الناصرية مدرسة "تَارَامِيتْ" التي تخرج منها أشياخ أحمر

"تَارَامِيتْ" هي كلمة عامية مصدرها كلمة الرُّماة التي يعتبر مدلولها المغربي مدلولا قديما عريقا يشمل "الرّْمَا"، وهم أشخاصا تعلموا رماية الأهداف وقنص الطرائد وفحص الأسلحة وصناعة البارود والتفنّن في الحركات الحربية وتربية الخيول الأصيلة وحفظ القوانين الخاصة بِـ "تَارَامِيتْ" حفظا وممارسة مع الانضباط للمقدم/ العلام ومجموعة فرسان السَّرْبَةْ التي تشكل كتيبة الخيالة.

 

يتفق جل الباحثين على أن وظيفة الرماية عند الحمريين بزاوية الخنوفة كانت وظيفة تربوية من أجل ترسيخ الإسلام في النفوس، إذ كان يبدئ امتحان المريد في شؤون دينه بدأ بحفظ القرآن الكريم، وتعليمه مبادئ الوضوء والصلاة، فضلا عن تدرجه وتمكنه في باقي أركان الإسلام، وبعد اجتياز الامتحان يلازمه شيخه بعض الأيام لاستدراك ما يجب استدراكه مما ينقصه في شؤون الدين والسُّنَّةْ، وإذا اتضح للشيخ أن المريد لا يرغب إلا في الفوز بإذن الرّماية فإنه يُهْجَرُ، ولن يفلح المهجور سواء في الفروسية أو القنص أو صناعة البارود أو التفنّن في الحركات الحربية.

 

وتفيد بعض الوثائق التاريخية أنه بعد وفاة الشيخين سعيد الناصري وعلي الناصري، توارث الحمريُّون مَشْيَخَتُهُمْ، فكونوا بتجربتهم وممارستهم وخبرتهم مدرسة متميزة للرّماة، نالت تقدير الناس في ربوع المملكة المغربية وشجعها السلاطين من خلال إرسال بعتاتهم (الأمراء) ليأخذ أفرادها أصول ركوب الخيل والرماية عنهم، وكان السلطان المولى إسماعيل أول من سن ذلك، وبعده أوفد المولى عبد الرحمن وفودا للتعليم في زاوية الخنوفة التي ألحقت بها مدرسة الشماعية.

"الرّامي/ الفارس" المتخرج من المدرسة الحربية (اَلنَّاصِرِيَةْ)، يجمع بين الحُسنيين، والتبحّر في علوم العصر، مع التمكن من فنون الرّماية، و يبرع أيضا حتى في وزن مواد صناعة البارود، وإتقان شروط القنص. لذلك فإن تاريخ "تَارَامِيتْ" الغني بالأحداث سواء في زاوية الخنوفة أو الزاوية البوسونية تعززه الظهائر والوثائق وتؤكده صورة للمغفور له محمد الخامس لما زار زاوية الخنوفة سنة 1943.

 

الرقصة الحربية بالمكاحل أو حَرَكَاتْ "اَلتْسَكْوِيطَةْ" الحمرية على صهوة الخيل

إن الحديث عن الرّقصة الحربية التي يؤديها فرسان النواصر دو شجون، على اعتبار أن مجموعات "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا" بمنطقة أحمر وخصوصا المنتسبين للطريقة الناصرية (اَلنْوَاصَرْ)، تألقوا ميدانيا في حركات "اَلتْسَكْوِيطَةْ"، والتي ليست ألعابا بهلوانية كما يصفها البعض، بقدر ما هي استرجاع لأحداث تاريخية تحيل على مشاهد الفرسان المجاهدين والشجعان الذين أبهروا العدو، وأربكوه بحركاتهم على متن صهوة الخيول في ساحة الحرب، حيث جسد الراقص المبدع في حركات الَمْكَاحَلْ ملاحم الشهامة والبطولات خلال اَلْحَرْكَاتْ السلطانية الكبرى لإخماد التمردات والانتفاضات.

 

من المعلوم أن الرقصة الحربية الحمرية التي يتفنن فيها "اَلرّْمَا" ويجيدها فرسان أحمر، تعكس قدرة النّوَاصَرْ المنتسبين للمدرسة الحربية للشّيخين سيدي علي بناصر وسيدي سعيد بناصر، اللذان كانا في زمانهما من تلامذة الشيخ أحمد وموسى بمنطقة تَازَرْوَالَتْ بسوس، وعنه أخذا التَّشَيُّخْ "اَلْمَشْيَخَةْ" في ميدان الرِّماية وركوب الخيل، ثم انتقلا من سوس إلى بلاد أحمر خلال القرن السادس ميلادي ضمن جيش السعديين الذي تصدى للبرتغاليين المتوغلين في الأحواز.

 

من هذا المنطلق، فلا غرابة أن نجد فرسان أحمر يتوارثون أبا عن جد، طقوس وحركات الطريقة النّاصرية في التعاطي مع ركوب الخيل (فن التبوريدة) بكل حمولتها الرمزية والدلالية، وحيثياتها وتفاصيلها الدقيقة، انطلاقا من حَرَكَاتْ "اَلرَّفْعَةْ" (رَفْعْ اَلْمُكَحْلَةْ)، و"اَلتَّشْوِيرَةْ/ اَلْهَدَّةْ" (تَدْبِيبَةْ اَلْخُيُولْ) ثم "اَلْخَرْطَةْ" التي تترجم التحكم في (اَلِّلجَامْ واَلصُّرْعْ) بالإضافة إلى حركة "اَلْـﯕَرْنَةْ" (حين يضع الفارس رَايَةْ اَلْمُكَحْلَةْ عَلَى صدره) انتهاء بِـ "التَّدْرَاعْ" ثم "التَّخْرِيجَةْ" أي إطلاق البارود عند لحظة الصّفر. علما أن كل هذه اَلْحَرَكَاتْ يجب أن تتم في تناغم وتنساق محكم ومنضبط لتعليمات مقدم السربة/ قائد الكتيبة الحربية.

 

الرقصة الحربية بالمكاحل تتم عبر حركات إبداعية حربيا وجسديا وفنيا

لامحالة أن هناك علاقة تأثير وتأثّر بين فنون الرماية وركوب الخيل ورقصة لمكاحل الحربية الحمرية، ارتباطا بالشق الجهادي ثم الفني والفرجوي، هذه العلاقة صاغتها تراثيا وفنيا حركات "اَلتْسَكْوِيطَةْ"، على اعتبار أنها تشكل إبداعا جسديا حربيا في الميدان على إيقاع مجموعة "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا اَلنْوَاصَرْ"، حيث كان الفرسان (ومازال البعض منهم) يتقنون حركاتها سواء على صهوة خيولهم أو أثناء تقديم عروض الرقص الممتعة، بعد تلقينهم أصولها وشروطها من طرف أشياخ أحمر من دُرٍّيَةْ "اَلنْوَاصَرْ" الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم المتفردة في ميدان الرّماية وركوب الخيل، بعد أن تشبّعوا بها دينيا وتربويا وأخلاقيا، وتدثروا بلباسها التقليدي الأصيل، وتزينوا بأسلحتهم القديمة لإحياء موروث فن التبوريدة على الطريقة النّاصرية.

 

لا يمكن الشروع في بداية أداء رقصة المكاحل المعروفة تاريخيا وتراثيا بمنطقة النواصر، والتي تسمى بلغة الفرسان بـ "اَلتْسَكْوِيطَةْ"، إلا برفع نداء الفرج و الصلاة والسلام على النبي، والتكبير باسم الله والدعاء بالخير والبركة والتيسير من طرف "شِيخْ اَلرَّمَا"، وتستتبعها النساء بزغاريدهن احتفاء بشهامة رجال أحمر.

 

إنها لحظة مفعمة بعشق الانتماء للأرض الطيبة وملحها المشترك، في لحظة تشرئب لها الأعناق في حضرة شُيُوخْ ومَشَايِخْ نواصر زاوية الخنوفة وفرسانها. وفي بعض الأحيان تذرف أثناء أدائها دموع الناس الطيبين، لأنها تجسد ملاحم المجتمع وتترجم معاني الشهامة والبطولة وتعكس شجاعة الفارس الحمري سليل "مدرسة الأمراء"، وتذكر المتلقي بتاريخ أجداده، لذلك يعتبرها بعض الباحثين من أصعب الرقصات الحربية وأجملها تعبيرا، بحركاتها المنتسبة لفعل الرماية و ركوب الخيل بمنطقة أحمر وفق الطريقة الناصرية.

 

رقصة المكاحل تؤرخ لأحداث تاريخية عن طريق حركة الجسد

أداء الرقصة الحربية بالمكاحل الحمرية، يستعين فيها الراقصون بمجموعة "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا" التي يترأسها المقدم /الشِّيخْ العازف على الآلة النّفخية (اَلْغَيْطَةْ) التي يتفنّن في العزف عليها ثلة من شيوخ أحمر رفقة أمهر ضابطي الإيقاع السريع الذي يناسب سرعة سنابك الخيل و حركة المكاحل، دون إطلاق البارود (حَرَكَةْ اَلتَّخْرِيجَةْ)، لأن المكاحل تكون غير معبأة بمادة البارود خلال تقديم عروض الرقص أمام الجمهور، حيث يكتفي الراقصون بوضع رَايَةْ المكحلة (قاعدة البندقية) على الأرض في إشارة إلى دَكِّ البارود وسط الماسورة بـ "اَلْمْدَكْ" أي القضيب الحديدي الذي يستعمل لهذا الغرض.

 

ويعتمد في رقصة المكاحل على آلات إيقاعية بسيطة الصنع المحلي مثل لَمْقَصَ واَلطَّعْرِيجَةْ، وطَّبْلْ صغير الحجم. فضلا على أن مجموعة "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا" الحمرية تتميز عن باقي المجموعات الشعبية كونهم يضمون بين أعضائها راقصين بالمكاحل، وهذا هو الاستثناء الذي يميز هذا اللون التراثي الشعبي المرتبط تاريخيا بالرماية وركوب الخيل.

 

هذا اللون من "تَارَامِيتْ" بمنطقة أحمر معروف بتعدد أشكاله الفنية التراثية، إذ نجد مجموعة أولاد ابراهيم التي ترتكز موسيقيا على الآلة "النَّفْخِيَةْ" و"الطَّبْلْ" و"الطَّعْرِيجَةْ" و"الدَّفْ" و"الَمْقَصْ"، وعلى شاكلتها نجد فرقة لَمْصَابِيحْ، ومجموعة أَوْلَادْ لَمُّنِي المعروفين بمتونهم الغنائية المرتبطة بالمجتمع الرعوي وبمواضيع اجتماعية مختلفة، ويؤدون أيضا أغانيهم بتشخيص أدوار ساخرة وكوميدية تعتمد على التمثيل ونقل الواقع المغربي بشكل سهل وممتنع على مستوى الأداء في "الحلقة" بالمواسم والمهرجانات وبساحة جامع لفنا وحتى الأعراس.

 

لن ننسى طبعا أن "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا" بمنطقة أحمر يتقنون حفظا وغناء وأداء النمط (اَلْعْرُوبِي) الشَّيَظْمِي واَلْهْوِيرْ المعروف في منطقة إيغوذ بإقليم اليوسفية. وتتمركز أغلب المجموعات الشعبية بمنطقة نْوَاصَرْ اَلجْنَادْغَةْ بجماعة لَخْوَالْقَةْ، حيث يمارسون فنهم الذي يوثق لذاكرة الفروسية (فرقة أولاد ابراهيم أو فرقة لمصابيح)، نظرا لامتيازهم بسرعة إيقاع شَدَّانْ اَلْمِيزَانْ، المطلوب أثناء أداء رقصة المكاحل التي أشرنا إليها في قاموس فرسان أحمر ارتباطا بالمدرسة الناصرية. لأن هذه الرقصة تتطلب السرعة في العزف والإيقاع.

 

خلال فترة السبعينيات كانت الفرقة الشعبية ذات الصلة بموروث فن التبوريدة وكنوزها التراثية، مكونة من منتخب شيوخ عبيدات الرما بمنطقة أحمر، وتتكون من تمثيلية عدة فرق ومجموعات تنحدر من القبيلة، إذ نجد حينئذ الشيخ لَهْدِيلِي بعزفه الممتاز والجيد على آلة اَلْغَيْطَةْ، والشِّيخْ عِيَّادْ بألعابه وحركاته المبهرة و الساحرة وهو ينقر على آلة الطَّعْرِيجَةْ، والشِّيخْ اَلْعَرْبِي الذي يبهر المتلقي بإيقاعه المتميز على آلة الْمِقَصْ، وشيوخ آخرين من أمهر ضابطي الإيقاع والميزان الذي يحيل على سرعة الخيول.

 

الحديث عن تراث فن "عْبِيدَاتْ اَلرّْمَا" والرقصة الحربية الناصرية، يدل فعلا على أن منطقة أحمر كمعبر تاريخي، ومستقر للزوايا والأولياء والصالحين كانت مختبرا لفن العيطية، وفضاء لتعليم الرماية وركوب الخيل على يد أشياخ رجال أحمر، على اعتبار أن شرفاء شُيُوخْ اَلنِوَاصَرْ، هم من يهبون "الْبَرَكَةْ" لطالب "تَارَامِيتَ"، سواء كان الشَّيْخْ اَلنَّاصْرِي من نْوَاصَرْ اَلْخَنُّوفَةْ، أومن نْوَاصَرْ اَلْبَازْ، أو من نْوَاصَرْ لَقْبُبْ، أو من نَوَاصَرْ اَلزِّيتُونَةْ.... أو أي زاوية ناصرية، بمعنى أن زوايا مدرسة النواصر منتشرة بتراب القبيلة وتمارس طقوسها وعاداتها في صمت.

 

ونحن نودع أهل الزاوية الناصرية بالخنوفة، ختمنا لقاء الحفل بطرح سؤال حول مآل هذا الموروث الإنساني التراثي العميق بمنطقة ساهمت في صنع تاريخ المغرب، ورددت صداه جبال وهضاب المنطقة وهي منتصبة في شموخ وكبرياء رغم مواجع الجفاف وانعكاسات الجائحة على حياة البشر والحيوان والحجر، "ألم يحن الوقت لتثمين وتحصين موروثنا الثقافي الشعبي؟ متى يتم تسجيل الرقصة الحربية بالمكاحل ضمن الموروث الإنساني العالمي مثل ما عرفته رقصة تيسكيوين".