السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: حب غامر في ضيعة التفاح

عبد الصمد الشنتوف: حب غامر في ضيعة التفاح عبد الصمد الشنتوف

بالأمس القريب، عند عودتنا من حقل التفاح وجدنا شابين أشقرين أمام مدخل إقامتنا بالضيعة، حل علينا جاك وصديقته نتاشا كضيفين بالمزرعة. جاك ابن صاحب الضيعة وصديقته يدرسان الصيدلة في جامعة كانتربري. نتاشا فتاة مثقفة جميلة تنحدر من مدينة ميدستون المجاورة. وهي كذلك ابنة فلاح ثري يمتلك ضيعة مترامية الأطراف في إقليم "كينت".

في الصباح الباكر، استيقظا وارتديا حذائين مطاطيين إلى ركبتيهما، تجرعا فنجاني قهوة في عجالة ثم امتطيا معنا شاحنة الجرار. أخذا مكانهما بجانب حشمت وعصمت فيما جلست أنا قبالتهما متوسطا جوصيه ورفاييل. بدا جاك كشاب وسيم منتشيا بأسارير منفرجة على محياه وهو ذاهب إلى العمل في حقل التفاح، سألني عن تيجاني وقال إنه شخص ملم بالثقافة الفرنسية ويفتقده كثيرا. لم يسعفه الحظ أن يلتقي به هذه المرة، ذلك أنه قضى عطلة الصيف يشتغل في إحدى مطاعم مدينة بنيدورم الإسبانية صحبة صديقته. جاك لا يعرف الكثير عن المغرب لكنه التقى ببعض المغاربة في بنيدورم بسحنات متعبة لا يشبهونني كثيرا على حد قوله. قلت له إن صديقتي سوزان تشبهني بالشبان الصقليين.

 

ما هو معروف عن الشباب الإنجليز، إذا زاروا بلدا سياحيا جميلا واستطابوه، بحثوا عن عمل موسمي ليسددوا به مصاريف عطلتهم الطويلة. بنيدورم مدينة ساحرة ترتاح بين جبال "كوسطا بلانكا" وتعج بسيل من السياح الألمان والإنجليز. جاك ونتاشا أمضيا شهرين كاملين هناك يشتغلان في مطعم إنجليزي يبيعان السمك المقلي والبطاطس.

 

هذا الصباح نزل ضباب كثيف في الحقول، السماء غائمة داكنة، ودرجة الحرارة تكاد تكون تحت الصفر، الطقس بارد والأشجار مبللة عن آخرها، حتى صارت حبات التفاح كقطع ثلجية مستديرة.

إبان قطفي للتفاح توجعني يداي من شدة البرد لأنني لا أرتدي القفازات. لن أستطيع اليوم تحميل مائة صندوق. وتيرة القطف تصبح بطيئة بسبب الطقس الرديء. ربما سأصاب بزكام أو نزلة برد سيما وأن المرآب يتحول إلى مكان شديد البرودة خلال الليل.

 

جاك ونتاشا يعيشان قصة حب غامر، ومنغمسان في حديث العشاق، لست أدري ما الذي أتى بهما للاشتغال معنا في الحقل وهما ينحدران من عائلتين ميسورتين. يتسلقان السلالم بمهارة فائقة، يتوقفان عند منتصف الصعود، فيقوم جاك بإتحاف صديقته الشقراء بعبارات غزلية عبر فتحات الأغصان وأوراق الشجر، ثم يستأنفان التسلق أعلى قمم الأشجار في دعابة ومرح. إذا رأيتهما يصعدان الأشجار لن تظنهما شابين ولدا بملعقة من ذهب في فمهما.

 

سألت جاك: هل تتقاضى أجرا عن عملك ؟ أدهشني برده، قال إنه يتقاضى أربعين قرشا للصندوق مثلنا. حينها أدركت أن أثرياء الإنجليز يدربون أبناءهم على تحمل قساوة العيش والاعتماد على الذات، عكس أغنياء العرب تماما، يزرعون في نفوس أبنائهم الصلف والعجرفة منذ نعومة أظفارهم.

 

جاك يقطن مع نتاشا في ضيعة أبيها بميدستون دون أن يثير الأمر أية حساسية لدى ريتا، لو كان جاك عربيا لقالوا عنه أنه أصابته سهام العين ونعتوه بالمسحور، ولبثت والدته تتردد على العرافين والمشعوذات كي تسترد ابنها المغلوب على أمره !

أبناء الطبقة الثرية بإنجلترا لا يشبهون أبناء "الفشوش" عندنا في شيء.

حين يحدثك جاك لا يشعرك بأنه ابن فلاح مليونير تجري في عروقه دماء زرقاء. بل هو بسيط للغاية ويتصرف بتواضع ملفت، دون أن يغفل عن إطلاق ابتسامة وديعة بين الفينة والأخرى. نظرت من حولي فألفيت حشمت جالسا بجانبي، بادرته بالقول: إني أرى ضيعة كوركانس كمدرسة لعلوم تجريبية، قال لي: كيف؟ أجبته: تعلمت فيها قيم التواضع والتسامح والاندماج مثلما تعلمت دروسا في الصراع الطبقي وتناقضات العالم الشيوعي الأحمر. هنا في الضيعة لا قيمة للخطب الرنانة وكتب علوم الاجتماع والفلسفة والنظريات السياسية. في ضيعة كوركانس تحتك بأشخاص أتوا من كل ربوع العالم، فتتسع مداركك الذهنية عبر تلاقح الأفكار وتتعلم أشياء جديدة قد تثري رصيدك المعرفي وتنمي تجربتك الحياتية. لم تعد تستهويني الأفكار الطوباوية والجدليات الإيديولوجية العقيمة. منذ فتحت عيني على هذا العالم، واستنشقت هواء أرض "العباد الصالحين"، وأنا أستمع إلى دروس الفقيه حول النظافة والعدل، يردد على مسامعنا دوما النظافة من الإيمان والناس سواسية كأسنان المشط. فلا رأيت نظافة في فضائنا العام ولا لامست مساواة بين الناس. حياتنا في وطننا العربي تطبعها ازدواجية غامضة و"سكيزوفرينيا" خطيرة. في بلدة هورسماندن لامست قيم التسامح والحس الإنساني عند جاك ونتاشا. من أعلى شاحنة الجرار استشعرت معنى قيمة المساواة مع ابن صاحب الضيعة وصديقته الحسناء نتاشا، واستوعبت مفهوم التشاركية على أرض الواقع. لا أتصور ابن صاحب ضيعات برتقال شاسعة في سيدي سليمان سيمتطي شاحنة تحمل شلة من عمال كادحين مكدسين كسمك السردين في ذل ومهانة، لا أتخيله جالسا بينهم يشاركهم الحديث ويتضاحك معهم، علاوة على تحمل نفس ألوان التزاحم والعناء في العمل، لأنه أصلا يصاب بالقرف والغثيان عند رؤية أبناء "المزاليط" فضلا عن مخالطتهم وتقاسم الأوكسجين معهم!

 

نتاشا فتاة ذكية وفاتنة جدا، إذا نظرت إليك أسرت عيونك وإذا حدثتك أنعشت روحك بلطافتها وأنوثتها. ذات مرة قبلتني على خدي الأيمن فغمرني إحساس جميل وهي تقول "سييو لاتر": نلتقي في فرصة قادمة! تمنيت لو قبلتني على خدي الأيسر وأخذتني معها إلى ميدستون. ذلك أنها فتاة جذابة شقراء بعينين زرقاويين وخدين حمراوين، أما صديقها جاك فهو بدوره أشقر، واسع العينين، ممشوق القوام وفارع الطول مثل أبيه دافيد. يتميز جاك بخفة دمه وحبه للطلبة الأجانب ويستعذب مخالطتهم واستكشاف عاداتهم ونمط تفكيرهم. قد لا أبالغ إذا قلت أن أثرياء الإنجليز مشبعون بقيم التعايش والانفتاح على باقي الشعوب، فهم متفوقون كثيرا على نظرائهم الإسبان والفرنسيين في ثقافة التسامح فضلا عن أثريائنا الصلفاء الذين يعيشون في أبراج عاجية.

 

ذات مساء، حينما فرغنا من قطاف التفاح، رحت مع الأتراك إلى حانة وسط البلدة، في الحقيقة هربنا من البرد القارس الذي اكتسح إقامتنا. كانت الحانة دافئة مكتظة بالرواد الإنجليز. خطف بصري شاب إيطالي بشعر مجعد يعزف على القيثارة، كان أداؤه رائعا في عزف أغنية "صغيري هل ممكن أحضنك" لتريسي شابمان. حلقت بي ذاكرتي في فضاء ساحة "رحبة الزرع" بالعرائش حين كنت مراهقا أجالس صديقي جلال فوق مصطبة إسمنتية وهو يعزف على قيثارته. كان يعزف ونردد معا أغنية "آسف" للرائعة شابمان. كنا صديقين فقيرين بجيوب فارغة، لا نملك شيئا، لكننا نملك المحبة والوفاء. صديقي جلال كان سخيا معي إلى أبعد الحدود. كان يمنحني قطعة من خبزه المدهون بشيء ما كل مرة، أحيانا كان يحتفظ لي بجزء من ساندويش تونة اللذيذ إلى ما بعد مغيب الشمس.

 

الأتراك يشربون الويسكي ليقوا أنفسهم من برودة المرآب، فيما أنا كنت أكتفي بإفراغ جعة لاغر في جوفي لتعديل مزاجي المتململ أحيانا.

استدار نحوي عصمت قائلا:

- أنت محظوظ، لقد كنت متفوقا علينا في حقل التفاح.

سألته:

- لماذا؟

قال:

- لأنك كنت محط أنظار إبن صاحب الضيعة وصديقته الشقراء، وكنت رائعا في التواصل معهما، لقد أثرت اهتمام نتاشا.

- ربما لأنني صديق تيجاني وهما معجبان به كثيرا.

- المهم إنك سعيد الحظ.

تراءى أمامي صديقي حسن وهو يردد على مسمعي نفس العبارة، وأجبت عصمت في انفعال واضح:

 -صديقي حسن كان دوما يردد نفس الكلام، سيما لما اقتحمت أبواب الجامعة بمحض الصدفة.

طفق يرنو إلي للحظات، ثم لاذ بالصمت برهة وكأنه يرتب سؤالا آخر في ذهنه:

- كيف هذه الصدفة، ما قصدك؟

- كنت أدرس مع أصدقائي في قسم الباكالوريا، ورغم مستواي المتواضع في المواد العلمية استطعت اجتياز الامتحان وحدي دونهم.

- هذا يحصل أحيانا إذا حالفك الحظ.

- تماما، هذا ما حصل بالضبط، تفوقت بشكل لافت في مادة الفيزياء التي كنت أستحضرها جيدا في ذهني.

 ردد عصمت مازحا:

- فعلا أنت سعيد الحظ مع نتاشا ومادة الفزياء، ولدي انطباع أن الحياة سترقص لك استقبالا.

أطلقت ابتسامة عريضة وقلت في نفسي: من ملء فيك يا عصمت إلى السماء.

 

كان الليل قد أرخى سدوله، عدنا أدراجنا إلى الضيعة تحت لفحة برد قارس، صوت حفيف الشجر يمتزج بهزيز الرياح فيصم آذاننا، رياح قوية متسربة بين فتحات الأحراش تكاد تعصف بنا، كان الأتراك مخمورين مترنحين في مشيتهم بعدما أتوا على قنينة الويسكي كاملة، طفح السكر على حركاتهم وانهمكوا في الصياح وترديد أغان تركية بأصوات جهورية. عندما بلغنا الضيعة، دلفنا إلى المرآب وأنا أرتجف من شدة البرد، كنت جائعا، فقمت للمطبخ لأحضر أكلة خفيفة أسد بها رمقي، حضرت وجبة طماطم وبيض "أتلتيك" في وقت وجيز، وسحبت كيس نومي ولففته حولي كي أطرد بردا مسموما يسري في أطراف جسدي، ثم انكببت على طبقي ألتهمه بشراهة. كانت الرياح تعوي وتهب خارج المرآب كعواء الذئاب، فيما أنا منكب على صحني انهمكت في التصفير محاكيا هبوب الرياح. بحسه الخفيف والمرح عاتبني أحمد التركي قائلا:

- لا يجوز في الإسلام التصفير خلال تناول وجبة الطعام.

 أجبته ساخرا:

- أنت لا تصوم رمضان وتعاتبني على التصفير أثناء الطعام.

- في تركيا معظمنا لا يصلي ولا يصوم لكننا مسلمون ونحب النبي محمد (ص).

- وتشربون الويسكي أيضا وستدخلون النار !

رد علي محتدا:

- وأنت تشرب الجعة ولا تصلي وستدخل النار أيضا.

- المهم جميعنا مسلمون مذنبون، اللهم اغفر لنا واهدنا إلى الصراط المستقيم.

- آمين! فلهذا عليك أن تقلع عن التصفير خلال تناول الطعام.

أجبته في هدوء ماكر:

- سأفعل، وأنت عليك أن تقلع عن شرب الويسكي يا أحمد !

 

في تلك الأثناء قفزت إلى ذهني حكاية طريفة عايشتها في القسم الداخلي ب"سات فيلاج"، فتوجهت نحو زميلي التركي قائلا: سأروي لك قصة مسلية حدثت لي مع التصفير حين كنت في طنجة منذ شهور مضت.

 رد علي أحمد:

- أحك لي قصتك المسلية لأستأنس بها في هذا البرد الإنجليزي القاتل.

 استرسلت في الحكاية:

"ذات مساء، كنا بداخل غرفتنا نتجاذب أطراف الحديث، فجأة دخل علينا زميلنا هاشمي ممسكا بصحن من الفاصوليا البيضاء، فاستوى على منضدته بجانبنا يلتهم طعامه بنهم شديد. شرع يأكل بيده اليسرى ويصفر في آن واحد، فاحتج عليه صديقنا نوفل قائلا:

- يكفي أنك تأكل بيدك اليسرى يا هاشمي، وهذا سلوك يتعارض مع الدين. عليك أن تتوقف عن التصفير لأنه سيجلب إليك الشياطين فتشاركك طعامك..

فلم يفتأ صاحبنا هاشمي أن رد عليه بعصبيته المعهودة:

- في رأيك السخيف، كيف للشياطين أن تبرح سمك السلمون وكالامار بمطعم فنلادريا وفندق سولازور الفاخر وتأتي في حبور إلى قسم داخلي متهالك لتزاحمني صحن الفاصوليا! هذا هراء في هراء !

- هذا ليس هراء، هذا من الإسلام !

- يبدو أنك فقدت عقلك يا نوفل، هذا ليس من الإسلام في شيء، بل ترهات !

- أنا لا أفهمك يا صديقي، هل صرت متمردا تعترض على الدين؟

- لا لا، أبدا ! أنا لا أعترض على الدين بل أعترض على الترهات والخرافات فقط.

- أنت تحب ريال مدريد وتكره كل شيء !

- أنا أحب ريال مدريد وكل ما هو جميل في هذه الحياة !

- أنت شخص مزاجي عنيد وحانق على كل شيء آت من المشرق !

عندها، اشتد غضب هاشمي وانتصب واقفا يزمجر في وجهه ويصرخ بقوة:

- أنا حانق على المشرق وحانق على المغرب، أنا حانق على العالم بأسره"...