جلس بمحاذاتي في مقهاه المعهود، شمر على ساعديه، حمل هاتفه الذكي، صاح على النادل أن يأتيه بقهوة سمراء كلون بشرته، أشعل سيجارة من النوع الثمين، وتنهد كأنه سيلج حربا. فكر مليا، كأنه يستنزل الإلهام، فقط ليكتب جملة، لا يفرق فيها بين النكرة والمعرفة كالعادة.
ولأني ألفيت في محياه حماسة المحارب، سألته: أي المواقع تتصفح على النت يا "أخ العرب"؟
بدا أنه لم يستوعب مرمى السؤال. دهشة ارتسمت في عينيه. انطفأت الحماسة.
تضاعف يقيني أن محدثي يرزح تحت وطأة الانفعال، نحتت السؤال بطين الرفق: ماذا تفعل بهاتفك؟ أتى الرد صادما: إنني أعلنها حربا ضد الفساد.
على ناصية المقهى من الجهة الخلفية يجلس الدكتور "وحيد"، منعزلا رفقة حاسوبه. انصرفت عن جليسي لأصافح صديقا، فشد انتباهي انشغال "وحيد" بقراءة كتاب إلكتروني في الطب، لعل عنوانه، إن لم تخني الذاكرة، "أسرار جراحة المفاصل"، بلغة موليير.
قفلت لمكاني، لعلي أظفر من جليسي بعبارة تشبع فضولي. بادرته بالسؤال: غريب أمر الدكتور "وحيد"، وحده الله يعلم سر انزوائه صحبة الحاسوب؟
أجاب محدثي متلعثما: لا غرابة في انطوائه. "وحيد" كتوم، لا يجالس غير نفسه. يختار الامتناع عن التصويت بالانتخابات. وشخصيا لا أستسيغه.
تفحصت شاشة هاتفه بنظرة سريعة، فوجدته يصافح مارك ويخبره بكل ما يروج بالمدينة من أصغر الأمور إلى أكبرها، يطبخ شائعات على نار التفاهة، يرشها بتوابل الكذب، عسى أن تهيج رائحتها شهية المتلهفين. فهذه "سهام" ابنة النجار تبدي إعجابها بالمنشور، وهذا "محمد" نجل رئيس الجماعة القروية وصديقه "مراد" التاجر يرتجلان عبارات الثناء ردا على ما جادت به حماسة الجليس.
تجرفني النوستالجيا إلى سنوات خلت. أتذكر دروسا استثنائية تلقيتها على يد نخبة من الخبراء المتبحرين في عالم التشبيك و"الإعلام الجديد". من قرارة نفسي يتصاعد السؤال جارحا: هل كنا على صواب أم على خطأ حتى تمكن هؤلاء من التقنية اليوم؟ هل الهواتف الذكية وسيلة للتواصل، كما تعلمنا، أم أنها "كلاشينكوف" منحتها حداثة العالم المعاصر للجهلة، كي يمارسوا أبشع أنواع التخريب في حق أوطانهم، كي يعلنوها حربا بالوكالة تحركها أيدي مخابرات خارجية جعلت من التقنية مطية لتتجسس علينا بصفر درهم ، بل والأخطر من ذلك أن توجهنا كالقطيع.
عائدا من متاهات الذكرى والسؤال، استفسرت جليس المقهى: هل أنت على وعي بما تنشر؟ وهل تستشعر حضور من تنشر من أجله؟
لم يدخر جهدا في ارتجال الرد بنبرة التعصب: إنني أفضح الفساد الذي سكتتم عليه أنتم الصحفيون.
لم أتمالك نفسي فباغتته بالسؤال: ماذا تعني بالفساد؟ وهل هو قابل للقياس؟ وهل تبني كلامك على فرضيات بحثية قابلة للإثبات من خلال أدلة ملموسة أم أنها عواطف البعض وخبث البعض الآخر تحركك؟
كنت على يقين راسخ أنه لن يجيب. فوحدها جلسة المقهى هاته كشفت مراميه. لعل صاحبنا ضحية خلافات بين بارونات السياسة الوسخة بالمنطقة. ليس أكثر من أداة تحركها يد عابثة دفعته إلى متاهات "مارك" ودهاليزه المظلمة... مرتديا قناع المحارب الدونكيشوتي، يبحث جليسي عن قوت يومه وعن ثمن علبة سيجارته الرفيعة، رافعا سيف تخليص الوطن من كتائب الفساد، متوهما، أو مصدقا، أنه يحررنا من لصوص يسرقون قوت الضعفاء والمستضعفين، غافلا أن ما يقع هو تحصيل حاصل وأن سيادة الفكر الهدام هي سبب التقهقر، وأن للفساد صنمين كبيرين هما: الجهل والغرور، متجاهلا أن وراء غشاوة الظلام نور لا يريد أنصار البشاعة رؤيته، مسعاهم من ذلك أن يشملنا الشك في النهوض وصناعة التاريخ.
من العين انهمر الدمع، تذكرت ميدان التحرير بالقاهرة، تذكرت خطواتي هناك، خنقني الحنين إلى رفاق لي بالتداريب، من تونس ومصر وليبيا وسوريا، بعضهم وجد نفسه في السجن والبعض الآخر باع نفسه للغرب، يطالعنا، بابتسامة متكلفة كل مساء، على شاشة قناة ليعبث بحرمة أوطاننا ويكيل لها كل أشكال الاتهامات.
اعتراني إحساس فظيع، إحساس أن أكون أداة بها أضحى السمارتفون كالكلاشينكوف. تتصاعد نار السؤال: هل ما وقع، ويقع، ببلداننا حرية أم ألسنة لهب مرصودة؟ هل من يتطوع بنشر "المباشر" يسعى إلى تقريبنا من الحقيقة الحية أم يرمي إلى تقديمنا قرابين حية؟ أليست هذه السلوكات تمهيدا غير واع لمجيء التتر الجدد ناهبين خيراتنا في أبشع صور الاستغلال والاستعمار الجديد؟
ولكي أخرج من محنة التفكير المؤلم طلبت من النادل أن يسعفني بقهوة إيطالية. وجدت صاحبنا متماديا في نشر كوكتيل جديد من الإساءات، شتم وسب واتهامات، ووجدت سهام ومراد وفيين لتصفح التفاهات: "انت الرجل الوحيد بالمدينة"، علقت سهام. "جيم.. ناضل يا مناضل" تفاعل "مراد". تعليقات تنبعث منها رائحة نفاق ملغوم، فقبل أيام سمعت "سهام" ابنة الحي تخبر مراد، بخبث، أن "العربي" مريض بجنون العظمة وأنها تسخره للتعريض بنجل رجل الأعمال الذي تركها بعد أن جاب جغرافيا جسدها بوعد الزواج.
وجدت نفسي مجبرا على الصراخ: ما هذا القرف؟ هل أنت على اطلاع بقانون الصحافة والنشر؟.. قهقه الغافل: إنني أكتب باسم مستعار..
بوجه مكشوف يفتضح جهل "العربي". وحدهم أذكياء الشبكة يدركون حقيقة مفادها أن الكتابة باسم مستعار وهم. إن أكبر قراصنة العالم من النوع الأسود يتركون خلفهم آثارا تمكن من كشف هويتهم، فما بالك بشخص يجهل أبجديات البرمجة وأبسط وسائل التشفير. هل هو الجهل المضاعف لشخص يدون تفاهات على جدار آيل للسقوط، كمن يرسم الموناليزا بالغائط على جدار مدرسة؟؟....
أن تكون ميسرا أمر جميل، وأن تكون حقوقيا أمر أجمل، وأن تكون ناشطا مجتمعيا تتطوع لفعل الخير غاية الجمال، لكن أن تقضي سحابة يومك بالمقهى لا تفعل شيئا سوى التعريض بالخلق بدون سند واقعي، أو انتقاد الدولة والحاكم، بدون رؤية تؤسس لبديل، فهذا جرم بعيد عن الفعل النضالي الشريف. فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.
المواطنة حقوق والتزامات، فلا يعقل أن نلعن واقعنا ونحن سبب ويلاته، من أعلى قمة المسؤولية الى قاعدة الهرم، لا أحد يقوم بدوره على أحسن وجه والكل ينتقد، سؤال أضحى يؤرقنا جميعا..... وكما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.
مجد الأمم ينبني بالعمل والعطاء والقيام صباحا للبناء قبل التهديم، والقضاء على كل أشكال الجهل والأمية، ولنفخر حينئذ بمجتمع يقوم على التعاون والعيش المشترك، لبناء الحداثة في مفهومها الشامل بمنظور شرقي جميل.
وإذا كان الدكتور "وحيد" اختار النجاح بمهنته كطبيب وصديقنا اختار الفشل كمتاه يفضي إلى الهاوية، فإن الصواب يقتضي تعاون النخبة المثقفة مع الفئة الهشة لنبعد وطننا عن صراع طبقي لا طائل من ورائه، على الدكتور أن يشرح للعربي روح القانون وأن يكون قدوته في الحياة، لا أن ينعزل في برجه، ويجعل جمع المال همه الوحيد، بينما بارونات السياسة والمال يجالسون بعضهم في أكبر صور النفاق، وفي الصباح يسخرون المعطوبين فكريا لمهاجمة بعضهم وللتعريض بمن يريدون تطويعه من المسؤولين.
وإلى أن يتصالح "وحيد" و"العربي" سيظل البعض يرسم الفشل في كل مكان حتى يفقد الوطن قدرته على الصياح بفخر: "أنا المغرب، أرض تراث يعانق الحداثة، وطن حلم لا يلتفت إلى المستحيل...".