الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

مصطفى المتوكل : من دروس عاشوراء، بناء الدولة على الإيمان العملي بالعدل والكرامة

مصطفى المتوكل : من دروس عاشوراء، بناء الدولة على الإيمان العملي بالعدل والكرامة

قال تعالي : "وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ" سورة البقرة. وقال أيضا"وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ" سورة هود.
" عن الغرق نقول: عينان غارقتان في الدُّموع. غَرِقَ فِي الدُيُونٍ. غرِق في النَّومِ . غرِق في الهمِّ. غرق في الذنوب والمعاصي.غرق في البحر أو الماء. غرق في الجهل. غرق في الفقر".
إن التأمل في تاريخ الرسالات السماوية ودور الأنبياء سيجد أنهم جاءوا لنصرة المظلومين والثورة على كل مظاهر التخلف والقهر بتحويل الناس من عبادة البشر والخضوع لهم، إلى عبادة الله وتكريم الانسان ، وكانوا صلوات الله عليهم يوازنون بين أداء أمانة الرسالة على الوجه الأفضل وبين خصوصيات واقعهم ومستويات المعرفة عند الناس حتى يتمكنوا من تمرير خطابهم واستقطاب الأنصار وإصلاح ما يمكن إصلاحه، فمنهم من تخصص في قومه ومنهم من جاء للناس كافة.وعلى اعتبار أن كل الديانات السماوية مصدرها الله، فإنها جاءت متسلسلة يهيئ بعضها لبعض ويكمل بعضها بعضا حتى تصل إلى كل الناس، فمن بلغته أية رسالة فهو مخير بين الإيمان بها من عدمه وهذا هو الأصل في الإيمان الذي لا إكراه فيه، وواقع الحال أن العديد من البشر لم تصلهم بعد أخبار السماء ولا الأنبياء و هي عند البعض الآخر وصلت محرفة ومعدلة ومشوهة بفعل التعصب الديني والمذهبي، والتوظيف السياسوي للدين بقصد التحكم المطلق في الشعب والحكم والمؤسسات، كما حدث قبل الإسلام وبعده في أغلب الامبراطوريات .ومن نافلة القول فالديانات السماوية تشترك في المبادئ والأركان العظمى وعلى رأسها التوحيد كما تشترك في الدعوة لفعل الخير والعمل الصالح وتشترك في العديد من الأعمال منها الصلاة والصيام والإحسان والعدل...وما عشناه بالعالم الاسلامي والمجتمع اليهودي في العشر الأوائل من الشهر الأول من السنة بالتقويم الهجري ومنها يوم عاشوراء، يعيش اليهود مثله بطقوسهم وعاداتهم في الشهر الأول من السنة العبرية، وهي أيام معتبرة دينيا سواء عند المسلمين أو عند اليهود بغض النظر عن نقط الالتقاءوالاختلاف ..ومن المظاهر التي ارتبطت باليوم العاشر من محرم وأصبحت تؤثر في ثقافة إحياء الحزن على استشهاد سيدنا الحسين بن علي والعديد من أفراد أسرته وأنصاره في يوم مثله ، حيث يرش ويوزع الماء للتذكير بالعطش الذي عانى منه سيدنا الحسين في صحراء كربلاء، و تشعل النيران في تشبيه بالحرارة المفرطة التي عانوا منها، ويضاف إلى ذلك اللطم والضرب بالأدوات الحادة وجلد الذات مبالغة في الحزن وعدم القدرة على النصرة .إن ما نراه في الساحة هو خلط وتداخل بين عادات اليهود في عاشورائهم، مع ما أحدثه بعض الشيعة من طقوس وعادات لا أصل لها في زمن النبوة ، مع بعض مظاهر الفرح الاحتفالية الغريبة التي نشاهدها من إشعال النيران وصب المياه على المارة، وأضاف الموروث المغربي ازدهار تجارة بيع "الطعارج "و"البنادر" وتفجير المفرقعات والشهب النارية ..إننا بين أحداث تفصل بينهما مئات السنين منها :
ـ الأول : نجاة سيدنا موسى والمؤمنين من ظلم و بطش فرعون حيث أجمل القرآن الوضع في : " إن فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" سورة القصص، وقال تعالى " وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ "سورة طه .فأصبحت واقعة نجاة سيدنا موسى عيدا " كيبور" /يوم الغفران والذي يؤرخ له في اليوم العاشر من الشهر الأول بالتقويم العبري ولهذا فهو أيضا عاشوراء يصومه اليهود وهو متمم للأيام العشرة المقدسة المخصصة للتوبة ، وجاء في التاريخ أنه في مثل هذا اليوم نزل النبي موسى ومعه ألواح الشريعة ..
ـ الثاني: استشهاد سيدنا الحسين والعديد من آل البيت بمذبحة كربلاء الشهيرة ، وهو اليوم العاشر من محرم ، والذي شكل منعطفا كبيرا في الصراع بين المسلمين والذي وصل مستويات تسببت في انقسامهم إلى سنة وشيعة على اختلاف مرجعياتهما ومذاهب كل واحد منهما.كما تعود الناس عندنا بالمغرب على جعل شهر محرم هو الشهر الذي يحصون فيه ما يملكون من أموال و .. ليخرجوا فيه الزكاة، فأصبح عاشوراء اسم من أسماء "الزكاة /الصدقة" ، لهذا يكون الطلب كثيرا في العشر الأوائل من محرم وخاصة اليوم العاشر للحصول على "عاشوراء " من طرف جحافل من المتسولين الذين هم على العموم أغلب المستفيدين من كل أنواع الإحسان والدعم، ويضاف إليهم أفواج من مختلف الأعمار وخاصة الأطفال الذين ينتهزون الفرصة للحصول على دريهمات لشراء المفرقعات أو أغراض أخرى.
إن استشهاد سيدناالحسين بن علي عليه السلام الذي تتناقل الأجيال مأساته/مأساتنا في مواجهة أقصى درجات العجرفة والظلم وسلب الحريات والقتل العمدي، والعمل الممنهج لتكميم الأفواه و إخضاع الناس لنزوات الحاكم الذي لم يتردد في قتل أحب الناس إلى النبي والذين قال فيهما عليه الصلاة والسلام " من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني" مازالت آثاره وانعكاساته تفعل الأفاعيل بين مكونات أمة الاسلام إلى اليوم، وكأن الحدث وقع بيننا بالأمس القريب .إن مظاهر إحياء هذه الذكرى مختلطة ومتضاربة حيث الاحتفالات والفرجة و الفرح بالعديد في بعض البلدان الإسلامية وخاصة المحسوبة على "السنة" ، وحيث لقاءات وتظاهرات "الشيعة" من عقد الحسينيات حيث تقرأ قصة وواقعة كربلاء وقصائد شعريه في أهل البيت ويشحن الجو بالحزن والبكاء، كما تشهد بعض التظاهرات مظاهر تعنيفية للأجساد لطما وبكاء، إلى احتفاليات وصيام وصلوات اليهود عندما يصل عاشورائهم. أوجه غريبة تجتمع وتتعارض، ونجد أغلب تجلياتها حاضرة في بعض الاحتفالات المعاصرة.إن أكبر أعداء للإنسان الفقر والجهل / الامية، وإذا أطرهما ظلم - من النفس ومن الآخر - وقهر وجفاء يصبح الواقع جاهزا لإنبات مزيد من التخلف ومظاهره التقليدية والحداثية، حيث يتكامل الجور والتضليل مع متاهات الظلام، فتنقلب الأمور ليصبح الخير والعدل والحق وأهله غرباء ومحاصرين، ويصبح العبث والسفه وقلة المروءة والجهل المركب ميزة يتبجح بها ولا حرج.
لقد اجتمع في عاشوراء الفرح عند اليهود وكل المؤمنين بنجاة موسى والموت غرقا لفرعون رمز الطغيان ليكون آية للظالمين واجتهد خطباؤنا وخطباء اليهود في شرح انتصار الله لموسى واغراق واحد من أكبر جبابرة التاريخ الانساني، فالغرق أنواع، وللموت أسباب فمن موت الروح إلى موت الجسد إلى فنائهما معا، قال الشاعر "من لم يمت بالسيف مات بغيره/ تعددت الأسباب والموت واحد "
إن الحسين بن علي رمز للكفاح ضد الظلم والاستبداد ورمز للتضحية وهو الذي أثر عنه أنه قال: "الصِّدقُ عِزٌّ، والكِذبُ عجزٌ، والسِرُّ أمانةٌ، والجِوارُ قَرابةٌ، والمعونةُ صَداقةٌ، والعَملُ تَجربَةٌ، والخُلْقُ الحَسَنُ عِبادةٌ، والصَّمتُ زَيْنٌ، والشُّحُّ فقرٌ، والسَّخاءُ غِنًى، والرِّفقُ لُبٌّ".إن الأنبياء وكل المؤمنين بالعدل والمساواة وكل من يحترم الإنسان ويكرمه ويوقره ويسعى لمصلحته ومصلحة أمته والإنسانية تكون طريقهم مليئة بعراقيل ومؤامرات خصوم وأعداء الحق والإصلاح الذين لايرون إلا مصالحهم ومنافعهم الخاصة ولا يهمهم أعاش الناس أم ماتوا ؟ أيدخلون الجنة أم النار؟
إن أفضل جواب تقدمه أمم اليوم أيا كان معتقدها وخاصة المسلمين الذين يؤمنون بالأنبياء والمرسلين والكتب السماوية هو بناء الإنسان المتعلم، وبناء مجتمع المعرفة، وبناء الدولة على الإيمان العملي بالعدل والكرامة، والتخلص من ثقافة ومظاهر التخلف والجهالة والخرافات .فالسلام على الانبياء والمرسلين وعلى الصالحين والمصلحين ، وعلى كل من أحب الناس ووقرهم ، وعلى من ضحى من أجل إسعادهم.