الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبدالالاه حبيبي:لماذا لا نفكر بشكل صحيح؟

عبدالالاه حبيبي:لماذا لا نفكر بشكل صحيح؟

سؤال عام ، نصادفه كثيرا، نكتشفه باستمرار ونحن نحلل أو نعلق على بعض السلوكات، أو بعض الافكار والتصريحات، لكنه في نفس الوقت سؤال المآل، أي سؤال مصيري لا مناص من استدعائه كلما طال أمد تعثرنا، وتأخرنا عن حل مشكلاتنا، والتقدم في مسيرنا، إنه بداية كل أسئلتنا، ونهاية كل نكباتنا، يغيب حينما نغوص في المتاهات، ويعود للظهور في أوقات الصحو والمسؤولية.
قليلا ما نعود لأنفسنا من أجل فهم الإعاقات التي تعترينا، والقيود التي تحد من فعاليتنا، وكثيرا ما نتخلص عبر الكسل والنسيان من البحث في أسباب وبواعث ما يصيبنا ونحن نراكم الفشل والسقطات، لكن يظل الزمن يطاردنا، والغموض يستفزنا، والعجز يجثم على قلوبنا وكأننا استأنسنا وضعنا هذا وصرنا له عبيدا.
لا شيء من لاشيء، هكذا بدأ الفكر الفلسفي الإغريقي يؤسس لعصر جديد من تطور العقل البشري، أي ظهور إشراقة في بؤرة العقل، في صورة تكشيرة برق صاعق، عبرت يوما العقل وصرفته عن شروده، وجعلته يستفيق من تيهانه بين الأرض والسماء، بين الحلم والواقع، بين الحقيقة والوهم، بين المنطق والخيال، بكل اختصار بين اليقظة والنوم. صفعة اليونان أيقظت البشرية وحملت النخبة المفكرة إلى تغيير بوصلة الثقافة والحضارة والمعرفة بتوجيهها نحو منحى جديد، نحو التماس طريق آخر، أي نحو اجتراح المنطق الذي يشكل تلك النواة المنهجية القابعة وراء الفوضى والهذيان والسذاجة في إدراك الإنسان للعالم المحيط به ولنفسه. إنها بداية عصر جديد، انطلاق مسلسل لن يتوقف أبدا، سيلا جارفا، عملية تطهير حضارية للعقل من أذران الأساطير والبديهيات الخاطئة.
لا شيء من لاشيء مقولة كلية، بسيطة، لكنها اختصرت كل ملكات العقل، وحررته مما أضيف إليه من شوائب أبعدته عن ذاته، مقولة تعني أن لكل حادث محدث، ولكل معلول علة، ولكل نتائج أسباب ، بحيث أن من وظائف العقل اكتشاف هذه العلاقة التي ليست غريبة عنه، بل هي من صلبه، من طبيعته، فهو الذي ينظم بمبادئه الأولية كل ما يجري أمامه، ويحاول ترتيب الأشياء وتصنيفها من خلال مفاهيم أساسية كالجنس والنوع والفاصل النوعي والوحدة والكثرة، في العقل تكمن القوة العملية التي كانت وراء ظهور الرياضيات والعلوم الحقة، عندما أصبح هو هو أي مطابقا لنفسه، وليس تابعا لجوهر خارج عنه.
العلاقة العلية، أي منطق السببية، هي الصورة العقلية لنظام عام، نظام متماسك، متفاعل، متداخل ظاهريا، لكن العناصر الفاعلة فيه يمكن عزلها، وفهم أدوراها، وإعادة اكتشاف كيف تشتغل وكيف تخلق، وكيف تحيا وكيف تموت. بغض النظر عن الأطروحات التي تنتقد هذه المعادلة بدعوى أنها تحيل إلى ميتافيزيقا صورية، أي لاتناهي العلل والمعلولات، أو بدعوى أن الصدفة تكسر عموميتها وقوة تفسيرها. نريد فقط أن نبقى في حدود ما هو في متناول العقل بمعناه العملي، أي العقل الذي يقرأ، يحلل، يقارن يستنتج، ويستخلص المبادئ أو القوانين والنظم من خلال تفاعله المباشر مع المجودات والظواهر التي تواجهه بالغموض والغرابة سواء كانت محسوسة أو كانت من طبيعة فكرية.
هاهنا لن نختلف حينما نرى الوقائع التاريخية تؤكد لنا أن هذا المسار هو الذي أعطى ثمارا مبهرة على مستوى النشاط العلمي بكل فروعه، ولا تزال التكنولوجيا تتفنن في تنويعها، وإبداع أشكالها التي بسطت هيمنتها على مساحات شاسعة من حياتنا اليومية، وسهلت علينا الفهم والتواصل، وحسنت شروط وجودنا على كل المستويات، بغض النظر عن الانتقادات التي صاحبت هذه المنجزات في بعدها الفلسفي والأخلاقي.
حينما يلتزم العقل بمبادئه، يصبح بالإمكان أن ننسب الفعل لصاحبه، ورد الفعل لمن وقع عليه الفعل، و سنتجنب البحث عن العلل التي لا يدركها العقل، ونكف عن تصديق ما يغيب عن الذهن وهو إحدى ملكات العقل الحسابية ، و سنكف عن تسويغ الوهم، وابتكار الخرافات، قبل أن نلتفت إلى تطوير أدائنا في مجالات العلم والمعرفة لأن هذه الأخيرة هي نتيجة فنية لموقف أخلاقي عقلي سليم المنطلقات وواضح الأهداف.
لهذا فالانتصار للعقل هو أولا تكريس لسلوك أخلاقي عملي، أي الحرص على عدم الإنصات لما ليس مقبولا من الناحية العقلية، ثم تصريف هذا الالتزام في حياتنا اليومية، وترسيخه في مجالات إبداعنا بدء من الأسرة والمدرسة والمعمل والمختبر والسياسة والمهن الحرة والبيع والشراء، وفي كل أشكال تبادل المنافع والخبرات.
تعود دوما سلطة الفصل للموقف العقلي الصارم، لحجة العقل القوية، تلك الحجة التي تبرهن بالمنطق وتستعين بالمعطيات والحوادث والوقائع والشواهد العملية، طردا للكذب والتدليس والغش والخطأ المقصود، وكل أشكال السلوكات التي ورثناها من مرحلة سيادة لا عقل، أي من زمن انتفاء المسؤولية والحرية في ممارسة الإرادة و الفعل الحر.
عندما نعلم أطفالنا منذ الصغر منطق السببية ونرسخ فيهم روح البحث عن النظام، ونقوي فيهم حب السؤال والبحث عن العوامل المسببة للظواهر و الأشياء نكون بصدد خلق جيل قادر على الجمع بين الأخلاق والعلم والمسؤولية وإرادة الفعل، أي جيل مسلح بعقله، عارف بطاقته الفكرية، ممتلك لمناهج البحث والاستدلال والحجاج، جيل نافع، كاره للغش والتزوير، محب للوضوح والنظافة والبيان الصادق.