الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

مصطفى المنوزي: لا مصالحة دون تصفية البيئة الحقوقية شموليا

مصطفى المنوزي: لا مصالحة دون تصفية البيئة الحقوقية شموليا

كثير من الصديقات والأصدقاء عبروا عن قلقهم تجاه الطريقة التي قاربت بها ما أتعمد تسميته بالحالة النضالية لما يجري في إقليم الحسيمة ونواحيه، فجغرافيا أحاول حصر الأسباب والنتائج في مجال ضيق من حيث المكان، رغم أن الأزمة تمتد في الزمان بمعناه التاريخي والزمن في سياقه الاجتماعي.. وجل هؤلاء يؤاخذون على منطوقات مقالاتي كونها ترفض كل محاولات تكريس "إعدام" السياسة، لا بمفهومها النبيل و"المشيطن" ولا ببعدها اللاأخلاقي "الشيطاني". فباسم هذه الذريعة يتم التنكر للأدوار التاريخية التي لعبتها الاحزاب التي امتدت من حركة التحرير الشعبية، أو التي انبثقت لاحقا عنها في حلة ومنحى دمقراطيين.

ولعل اختلاق مصطلح الدكاكين، الذي كان يطلق قدحا على الأحزاب الصغيرة، وصار يطول الأحزاب التاريخية والإدارية معا دون تمييز، رغم أن الخطأ في الممارسة يختلف عن الخطيئة في المبدأ، لأكبر دليل على أن الدولة ومهندسيها من الصقور، لا هم لهم سوى تفعيل مطلب القطيعة مع الماضي بشكل مخالف وعكسي. والحال أن المطلوب هو القطع مع الفساد كثمرة للاستبداد، وما ينتج عنه من قمع للحريات وانتهاك جسيم للحقوق..

من هنا، وعلى إثر تفاعل مع كل ما يصدر من آراء ونقد للمقالات، اقتنعت بضرورة التفكير في الموضوع من زاوية توسيع مجال المعالجة في منحى شمول الأمر منطقة الريف بتمامها (الجغرافي والتاريخي)، وهو ما قد يتيح فرصة إبداع مقترحات حلول لتجاوز كل المآزق.. وعليه فإن أهم المداخل هو التذكير بأهم التوصيات الناتجة عن تسوية هيأة الإنصاف والمصالحة، وعلى رأسها جبر الأضرار الفردية والجماعية، ورد الاعتبار للعدالة الترابية والمجالية، والاعتذار الرسمي للدولة في شخص ممثلها الدستوري، وطرح خطة وطنية مندمجة للحد من الإفلات من العقاب، وكذا إرساء كافة ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ودمقرطة استعمال السلطة والقوة والقانون بما يعنيه من أمن قضائي وحكامة أمنية.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لابد من استحضار، إلى جانب توتر العلاقة تاريخيا بين المركز والجهة، استحضار أن الصراع لم يكن فقط عموديا، بل أفقيا لا يمكن تجاهل الفوارق الاجتماعية الحادة، والتي ينبغي أن تنبه المحللين إلى أن ساكنة الجهة غير متجانسة وغير متكافئة في الخيار والانتماء وحظوظ العيش، حتى لا نكرر، ابتذالا، حقيقة الصراع الطبقي. فرغم أن التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية لم تفرز نفس الواقع الطبقي المعيش بوسط المغرب، لعدم توفر نفس البنية الاقتصادية، فإن ما يطغى هو ما أشار في تحليله الأستاذ محمد محاح في إحدى مقالاته: "مسألة التلاعب بالعدالة، وهو المتمثل في قضية تلفيق محاضر مفبركة لعدد من المواطنين وفي غياب تام لاحترام المساطر القانونية، الأمر يتعلق بمزارعي القنب الهندي من فلاحين بسطاء يتحصلون بالكاد على قوت يومهم من هذا النشاط الزراعي، الذي لا تسمح المعطيات الطبيعية ولا "السياسية" أيضا بإيجاد بديل له. بحسب المعطيات المتحصل عليها إذن، فإن ثلثي أرباب الأسر من أهالي صنهاجة السراير بالريف الأوسط: (كتامة، بني أحمد، بني بونصار، بني سدات، بني خنوس…)، هم في عداد المبحوث عنهم (منفيون في مداشرهم خوفا من إلقاء القبض عليهم)، والتهمة واحدة: (اجتثاث الغابة وزراعة القنب الهندي). والأدهى من كل ذلك هو أن المحاضر يتم تحريرها في غياب تام لأهم الشروط القانونية، ألا وهو شرط "الصفة الضبطية" إزاء هذا الوضع إذن، فكيف لا يجد هؤلاء الفلاحون البسطاء "المنفيون" في حراك الريف فرصتهم للاحتجاج والتمرد أيضا على "الحكرة" والظلم الذي يحسونه، هذا في الوقت الذي تعيث فيه بارونات التهريب فسادا في الأرض، وهم في منأى عن أية مسائلة (حصانة سياسية، برلمانية، مالية!!).

ولا يسعنا، والحالة هاته، سوى تأييد هذا الرأي كخلاصة مركزية تروم صون المكتسبات الحقوقية، والبحث عن بدائل قانونية، بالتفكير في إلغاء المتابعات تجاه الفلاحين البسطاء للقنب الهندي وإعفاء المستهلكين للكيف أو الشيرة أو كافة المخدرات على السواء، من المسؤولية الجنائية، والنقاش ينبغي أن يتجه نحو إشراك المعنيين بالأمر، فهذا ما انتبه إليه الحقوقيون في عدة تظاهرات، والذين كنا ضمنهم حاضرين ومنخرطين بكل قناعة واستقلالية، إلى أن موازين القوى على المستوى المحلي غير متكافئة، فالحضور القوي، على مستوى صناعة القرار، متوفر وشبه محتكر لدى «التجار»، والذين لهم امتدادات دولية وعابرة للقارات، أفقيا وعموديا، في حين يعيش الفلاحون حالة هلع يومي جراء فوبيا المتابعات والعقوبات والمطاردات.

هذا المعطى ينبغي أن يكون حافزا لدى الاتجاه والرأي العام لاشتراط حماية الطرف الضعيف في المعادلة، هذه الحماية التي لا يمكن أن تتأتى سوى بتعديل المنظومة التشريعية ثم إيجاد صيغة للعفو عن المستهلكين وتأهيلهم صحيا ونفسيا وكذلك نسخ العقوبات الصادرة عن العدالة.. والنسخ لن يجد له سندا إلا في الدستور الذي حدد الجهات المخول لها صلاحيات إعلان التقادم أو العفو أو رد الاعتبار القانوني والقضائي. ومن أجل تحصين مبدأ عدم الإفلات من العقاب، على أن يتضمن الملف المطلبي فقرة خاصة تؤكد على عدم التساهل والتسامح فيما يخص الجرائم المقترفة محليا ودوليا، والتي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمخدرات والإرهاب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.. وهو ملتمس في آخر التحليل لا يضر أي طرف معين، ما عدا اللوبي الذي له مصلحة في استمرار نزعة المغرب غير النافع التي راكمت معها، كحقيقة سوسيولوجية، نزعة التحقير والوصم وثقافة التمييز والإرهاب الأمني تجاه سكان منطقة الشمال المغربي كما هو الحال لبقية المغاربة في ربوع الوطن.

نعتز بأننا، كحقوقيين، سنظل حرصين أشد الحرص على ضرورة تكريس عودة الدولة الاجتماعية والعدالة المجالية وتحقيق جبر الضرر الجماعي/ المجالي، دون التفريط أو التنازل عن دولة القانون، وهذا ما جعل بصمتنا لن تكون ذات وقع قانوني وإنساني بمعناه المعياري للمواثيق الكونية لحقوق الإنسان، إلا إذا استجابت الدولة وأعلنت عن عفو شامل عن جميع ضحايا الانتهاكات والإجراءات التعسفية، في إطار النتائج بالمسببات.

فمزيدا من التروي والهدوء، فليس الاعتقال ولا الابتزاز بديلا عن الحوار، وكل المبادرات قابلة للتطوير والتعديل في أفق إنضاج عناصر التفكير في الحلول المنصفة والعادلة، ولنساهم جميعا في تصفية البيئة الحقوقية والاجتماعية والسياسية.. ولننتظر مبادرة الدولة الآمنة غير المخيفة، بدل التفاف وحصار الدولة الأمنية غير الانسانية، وذلك عن طريق تبادل الثقة وإشاعة الطمأنينة بالمرافقة والتوعية كي ينخرط الجميع، انسجاما مع القاعدة المأثورة "لا تنمية تخصني إذا لم أكن شريكا حقيقيا في بلورة معالمها ، من التخطيط إلى المساءلة بعد التنفيذ".