الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي:المدينة البيضاء..السياسة المجالية وخطة التدبيرالجيد ؟

ميلود العضراوي:المدينة البيضاء..السياسة المجالية وخطة التدبيرالجيد ؟

يقولون إن التدبير الفاشل هو وليد سياسة مجالية فاشلة، ومرده إلى العقم الثقافي والفكري الذي يوجد عليه "المدبرون".؟ والنتائج ميدانيا تؤكد ذلك،(وانا أتحدث بمنطق التاريخ لا بمنطق الأحداث، ولا أحمل المسؤولية لأحد بعينه). فالوضع الذي عرفته مدينة الدارالبيضاء نتيجة التدبير السيئ لمجالها الحضاري والاقتصادي والاجتماعي على مدى عقود، يضاعف معاناتها وينتج المزيد من التشوهات الخطيرة في بنيتها المعمارية وفي نسيجها الحضاري ويجعلها مدينةكثيرة السلبيات والتناقضات. وتناقض أكبر ارتقاء كل الشخصيات والأسماء التي تعاقبت على هرم التدبير بهذه المدينة المنكوبة سواء في المجال الترابي أو الانتخابي إلى درجة وزير في الحكومة، كأن الأمر بحق يتعلق بعمليات مقصودة لمكافآت سياسية مستحقة.

الصوامع السكنية البليدة التي نبتت في فضاء المدينة تشبها بالمدن الحضارية المتقدمة، تفيد حقا أن المدينة فقدت السيطرة على مجالها الذي يتطور بشكل سلبي نتيجة التطاول العشوائي في البناء، دون التفكير في مجالات أخرى تسير جنبا إلى جنب مع مخطط التعمير والإسكان؛ لا تنمية ولا تشغيل ولا تعليم ولا صحة ولا ثقافة ولا بناء حقيقي للإنسان، ولكن طموح ميتافيزيقي جامح لتحقيق المتروبول المالي القاري والقطبية الاقتصادية المزعومة ومطامح شتى تتحقق على حساب مصالح الساكنة ومستقبل المدينة وفوائد كثيرة يجنيها آخرون..؟ وتبقى المدينة حمالة شعارات كبيرة للاستثمار والصناعة، والثقافة والانفتاح دون أن تكون كذلك ؟

- 2/3 ناتج الدخل الوطني تحظى به مدينة الدار البيضاء، ولا يعكس ذلك حجم الاستثمار والتنمية فيها ؟

- الناتج الداخلي الخام يعادل 14 مرة ما تحصل عليه مدينة كطنجة أو أكادير،والفرق بينهما كبير في الاستثمار والتنمية والموارد ومستوى عيش الساكنة .؟

- الميزانية المرصودة لمدينة الدار البيضاء تساوي عشر مرات ميزانية مدينة كالجديدة وآسفي ؟

- المؤسسات المكلفة بالتدبير والخدمات تمتلك أكبر احتياطي بشري للإدارة الجماعية في المغرب وتعاني إفلاسا في الاحتياطي المالي الخاص بالاستثمار لأن الميزانية العامة للمجلس تلتهما نفقات التسيير ؟

- حجم الاستثمار بالمدينة يساوي ثلث الاستمارات التي تتوفر عليها المملكة، والسؤال يطرح مستوى الحكامة والتسيير وحسن التدبير ودرجة إسهام المجلس البلدي في مخطط الاستثمار والتنمية ونوعية الخدمة ومستواها ؟

المعجزة الاقتصادية التي طالما تحدث عنها مسؤولون تعاقبوا على قيادة مجلس المدينة والمجلس البلدي ومجلس الجهة، لم تحدث، والمدينة لم تتحول بعد إلى أكبر متربول اقتصادي يربط المغرب بمحيطه الاقتصادي القاري والدولي، لأن حساب المعادلة سهل للغاية، إنه نصيب المواطن البيضاوي من ريع الاقتصاد القاري المزعوم ،شغل وتعليم وتغطية صحية شاملة ودخل فردي متوازن ؟

لقد تقادمت الدعوة إلى إصلاح آليات التدبير المدني وصار لزاما إصلاح العقلية التي تمتلك سلطة القرار في هذه المدينة العتيدة وأصبح محتوما تحديث آليات الحكامة وتطهير الإدارة من الفساد وترسيخ قيم النزاهة والإصلاح ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب. وكي لا ننسى ،إن خطة الطريق توجد في البنود العريضة للإصلاح التي جاءت في الخطاب الملكي  في 14 أكتوبر 2016.لأن القاعدة تقول انه بالإمكان ترميم التدهور الحضاري المادي بواسطة التأهيل والبناء ولا يمكن ترميم الخلل المعنوي المسيطر على العقول إلا بالإصلاح والتجديد والتنوير والتأهيل الفكري وطرد الظلامية القاطنة في ثناياه.المدينة البيضاء، التي صارت تجنح نحو السواد في حاجة لهذه المقاربة الأصيلة لانتشالها من الوضع المجتمعي السيئ الذي تعيشه. في حاجة إلى خطة إنقاذ ذات أولوية بالغة الأهمية,وهذا يتطلب جهدا كبيرا وعقلا كبيرا ووقتا ثمينا وأغلفة مالية كبيرة ومسؤولين من طينة ناذرة ومؤهلات لن تتوفر بدون توفر إرادة الإصلاح والبناء.

الدار البيضاء لا تفتقر إلى ميزانيات للاستثمار والخدمات،ولا تعوزها الإمكانيات التي تستطيع أن تنتقل بها إلى مستوى المدن الكبرى المنتجة وبمعايير دولية،ورصيدها العقاري يكفي لتحويلها إلى مدينة ذات رونق مغاير؛ لو استغل هذا الرصيد لفائدة المصلحة العامة وتم استثماره لصالح المدينة وساكنتها،لتحقق المشروع الاقتصادي الكبير الخاص بفضاء المدينة. لا تفتقر المدينة لرأس المال،  ولكنها تفتقر إلى حكامة جيدة وعقلية المسؤولية والخوف من نتائج التسيير وتداعياته السلبية في إطار المساءلة والمحاسبة طبقا للإجراءات الدستورية.وقد يكون هذا هو مربط الفرس،فانعدام الخوف من نتائج المساءلة وعدم الاكتراث بدور المحاسبة ونتائجها، يولد الدمار الكبير اللامحدود في حجم القدرة على الإنتاج ويدمر إرادة الفعل ومستوى الإمكانات، بمعنى آخر انتشار فكرة الفساد على قطاع واسع .

الدار البيضاء لا ينقصها العقل الإبداعي والفكر والطاقات الشابة المنتجة، لكن كل ما ينقص الدر البيضاء هو حضور ضمير مهيمن على المسؤولية،مسؤولية بقيمة الإخلاص والنزاهة والمواطنة...هذا العمل وحده القادر على أن يعيد للمدينة مجدها ورونقها وبهاءها الذي ضاع وسط السباق المحموم نحو المصالح الخاصة والفائدة الضيقة التي ازدهرت تجارتها في مخططات الاستثمار الأجنبي وعقود التدبير المفوض وخطة الإسكان والتعمير ذات الميول المادية الجشعة. التصميم المعماري للمدينة وضع نصب عينيه إشكالية الإسكان بدون تصور حضاري وثقافي واجتماعي لحاجيات البشر المعنوية والروحية ولا حسابات تطور المجال البشري والطبيعي مستقبلا، الشيء الذي أفسد الروح الحضارية لمدينة عريقة كالدر البيضاء.

برنامج الإسكان الاقتصادي والاجتماعي، أقصى دور العلامة الخضراء ودور المرفق الثقافي والفني، وركز الاهتمام على الحجر والحديد والمساحة الشاغرة التي تستوعبه، فأخرج الإنسان / البشر، وقيمه الإنسانية والثقافية والحضارية من معادلة الحساب.لكنه راكم في أرصدة البعض ثروات لا تضاهيها ثروات قارون وهامان.

الغزوة الإسكانية التي انطلقت في نهاية التسعينات،تركت لصيادي الفرص السهلة وقراصنة التجزيئات السكنية والتعمير والمدعوون ظلما وافتراء بالمنعشين العقاريين،غنائم في كل مكان، سوق المال والعقار صارت جنة هؤلاء من كل فصيلة، فبرزت قوى تستطيع الركض في المسافات المتوسطة والكبيرة بدون عياء، وبرز معها كل من يستطيع أن يتقن الرقص على حبال العلاقات الجيدة والانتماء السياسي والعشائري و"التدخلات" والوساطة. "الإنعاش العقاري" La Promotionخرج من قمقمه ولم يعد،بل انتشر في الفضاء الرحب للمدينة ومحيطها المجالي، كعفريت المصباح (مصباح علاء الدين) وابتلع أرزاق المكلومين ضحايا سياسة التفقير،انتشر في كل مكان صالح للحفر والبناء، معتمدا المسح الطبوغرافي الدقيق لكل مساحة قابلة لاستيعاب الأسمنت والحديد المسلح والحجارة ،إنشاء عمارات ومساكن تشبه القبور تستوعب من البشر فوق طاقتها، فتم خلق أكبر مأثرة لتعاسة البشر بحثا عن مقاربة خاطئة لإسعاده.هنالك تنامت كل صنوف الأمراض النفسية والجريمة والانحراف.التزاحم البشري والاكتضاض،خلق الوضع المثالي المكاني الأمثل للفساد الأخلاقي والروحي، ترويج المخدرات والخمور والعهارة والانحراف والسرقة والقتل،فقد انتشرت الجريمة الاجتماعية والنشل والاعتداء بشكل مريع في كل حي بالمدينة نتيجة المخطط الإسكاني الأعور الذي رأى بعين واحدة مصدر الثروة ولم يرى أشياء أخرى سواها.