الأحد 19 مايو 2024
مجتمع

محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (6)

 
 
محمد سالم إنجيه: مذكرات الحج... رحلة الذكر والشهود (6)

حياة مكة

لكل مدينة خصوصيتها التي تنفرد بها عن بقية المدن، لكن تبقى مكة جامعة لخصوصيات كثيرة غير منحصرة، لكونها المدينة الوحيدة التي زارها أو أقام بها خلق كثير من كل دول العالم حتى نكاد تجزم أنه لم تبق بقعة من الأرض بلغها هذا الدين الحنيف إلا ووفد منها مسلم مشتاق تعلق قلبه بقبلته مهوى الأفئدة ومأرز الإيمان...

ليل مكة كنهارها حياة لا تتوقف، ونشاط مطرد في العبادة والتجارة والخدمات؛ الطواف بالبيت العتيق متواصل، لا ينقطع إلا لإقامة صلاة الفريضة، والناس يتحركون في كل الجهات جيئة وذهابا، محور اجتماعهم المسجد الحرام وما حوله، يلتحقون بمساكنهم لأخذ قسط من الراحة والتقوت مما معهم من أزواد، ولا يلبثون إلا أقل الوقت ليعودوا مجددا إلى الحرم، للصلاة أو الطواف أو التلاوة للقرآن وقد يجمعون بين ذلك كله...

الارتباط بالحرم لا يمنع منه ارتفاع الحرارة، والطقس المضغوط بسبب نسبة التلوت المرتفعة،  ولا زحمة المرور  المزعجة... ذلك أن التعلق بالحرم والحفاظ على الصلوات فيه غاية كل حاج يعرف المقصد من وفادته، ويحتاج إلى مزيد احتياط وحرص بالغ على تنظيم الوقت لتجنب الحرمان من المواظبة على الصلاة مع إمام الحرم.. والموفق من استطاع برمجة نشاطه اليومي وجعل الصلاة في الحرم محوره، من مثل المكوث من صلاة العصر إلى أداء صلاة العشاء، والالتحاق بالمسجد قبل الأذان بوقت كاف، يختلف بحسب الصلوات حيث يضيق مساء ويتسع صباحا وظهرا، واللبث في مكان الصلاة حتى تسبل الممرات والطرق...

سلطة التنظيم تبذل جهودا كبيرة في تدبير وإدارة حشود المصلين والحجاج، وهمها سلامتهم، وتسهيل ولوجهم وخروجهم من الحرم وساحاته، وقبل الصلوات تغلق المنافذ المؤدية إليه من مسافات بعيدة وتوضع حواجز توجه الحجاج إلى التوسعة الضخمة الجديدة خاصة القادمين من شارع ابراهيم الخليل بالمسفلة، والقادمين من حي غزة، ومثلهم القادمين من شارع الستين، وذلك تخفيفا على البناية القديمة للمسجد الحرام والساحات المحيطة بها، وتجد سلطة التنظيم عنتا شديدا في تفهم خططها من قبل كثير من الحجاج، وهذا يحتاج إلى توعية قبلية في بلدانهم ومن قبل المشرفين على الإرشاد والتوجيه خلال موسم الحج..

أما بالنسبة للتجارة فالمحلات يشد بعضها بعضا كثرة، مع تنوع معروضاتها، مما يغري الحجاج بالشراء دون تفكير غالبا في الوزن المسموح به في النقل الجوي، وتضاعفت العروض التجارية في السنوات الأخيرة بوفرة الأسواق التي تعززت مع التطوير العمراني الذي غير ملامح المنطقة المحيطة بالحرم بمكة من خلال انتصاب عشرات العمائر والأبراج، أعظمها وقف الملك عبد العزيز على الحرمين الشريفين الذي تعلوه ساعة مكة الكبرى، ومشروع تهيئة منطقة جبل عمر غرب الحرم..

وقد غلبت عليها ثقافة السوق، من حيث وفرة المنتجات، والتنوع والابداع في الأشكال الهندسية، وتوظيف الألوان والأضواء، حتى إن أغلب الشركات العالمية دخلت على الخط في أسماء الفنادق، وتنظيم الأسواق..

من العوامل المساعدة على الارتباط بالحرم البحث عن فنادق في المنطقة المركزية، ولا سيما في البنايات المحيطة بالمسجد الحرام، وهذه عادة ما تكون كلفتها مرتفعة، وأغلب المقبلين على اختيارها من ذوي اليسار، ومن في حكمهم، ففي التوسعات المتتالية لمنطقة الحرم شيدت أبراج عالية الفخامة حرص مهندسوها على تهيئتها لتشتمل على التجهيزات والمرافق والخدمات التي تجعل الحاج يعيش أجواء ترفه، يمكن الاصطلاح عليها بعالم الأبراج، قد يفوت بموجبه على الحاج الاطلاع على أجواء مكة الأخرى الطبيعية والشعبية...

تتوفر في الأبراج المصليات المكيفة التي تمكن قاطنيها من الصلاة مع إمام الحرم، كما ربطت الغرف بالنقل المباشر للأذان والصلاة عبر  أجهزة صوت مثبتة، تعفي المعجزة من التنقل، وغير ذلك من سبل ممارسة العبادة في راحة، تحفظهم من حر الشمس، ومن شدائد الازدحام عند كل خروج وعودة؛ غير أن متعة التعبد الحقيقية لا تتم إلا بالمخالطة اليومية لعموم الحجاج، وخاصة في مداخل المسجد وساحاته، فضلا عن صحن الحرم حول الكعبة حيث جمالية الطواف، ورهبة المكان، وتتابع المشاهد التي تأسر القلوب، وتجدد الايمان، وتبث الحياة، بما تثيره من شجون وتوتر يخز موات النفوس، وربما تكون سببا في صقل الأرواح لتستأنف مسيرة التوبة والعودة إلى الله في نقاء...