الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (17)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (17) الفنان حسن الزرهوني (يمينا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي شعر الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم(ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم(ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْوٌرِيتَاتْ"، والتي نحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في الحلقة السابعة عشر، في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي وعبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

 

قال الشاعر/ الناظم في الجزء السابع من رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ":

"لَالَةْ لَالَةْ، مَالَ حْبِيبِي مَالُو عْلِيًا

لَالَةْ لَالًةْ، مَالْ حْبِيبِي بِالدْمُوعْ يَبْكِي

اَلًلهْ مُولَانَا وَالدْوَامْ لِلًهْ

مَالْكِي يَا نَفْسِي مْعَذْبَانِي

أَنَا نَجْرِي وَالْمُوتْ تَابْعَانِي

مُولْ اَلصًالَةْ صَاحْبِي ﯖْرِينِي

مُولْ اَلزِيتِي إِلَا أَنْتَ زْهَيْتِي"

 

ثم ينتقل برابط أو "حَطًةْ" انتقالية للجزء الثامن من العيطة بقوله:

"وَأيْلِي وَأيْلِي، مَالْ حْبِيبِي مَالُو عْلِيًا، مَا بِيدِي مَا نْدِيرْ

دَابَةْ رَبٍي يَعْفُو عْلَى عْبَادُو، وَالنًاسْ الْحَاضْرِينْ"...

 

وظف الناظم/ العاشق كلمة "حْبِيبِي" ليخاطب محبوبته "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكِي"، ويظهر لها مدى تعلقه بها، ويكشف عن عشقه لها وفي نفس الوقت يطرح سؤاله الحارق عن الأسباب التي جعلت الدموع وسيلة للتخفيف من عذابات الفراق والغياب ولوعة الاشتياق والحنين..

 

دلالة متن: "لَالَةْ لَالَةْ، مَالَ حْبِيبِي مَالُو عْلِيًا، لَالَةْ لَالًةْ، مَالْ حْبِيبِي بِالدْمُوعْ يَبْكِي"؟

إن المتن العيطي أعلاه يدل على أن العاشق مازال يعاني من عذابات الفراق وأزمة العلاقة العاطفية التي أترث في العلاقات الاجتماعية والإنسانية والتواصلية بين العائلتين وأقربائهما وأهاليهما، وتسللت العداوة والخصام بينهما، وهذا الحدث المؤلم على المستوى العاطفي خلف حالة من الاستياء والألم والحزن تُرْجِمَ -حسب الشاعر- إلى شدة البكاء بالدموع لدى الحبيب لما أنشد قائلا: "مَالْ حْبِيبِي بِالدْمُوعْ يَبْكِي"، تعبيرا عن قساوة هذا الواقع المرفوض على مستوى عقله الواعي، والمقبول على مستوى عقله الباطن، بحكم أنه يؤمن بأن هناك أمل في الحياة ويتوسل بدعواته وابتهالاته للسماء ليل نهار، بأن تعود المياه لمجاريها وينشط نبض قلبه المتيم بلقاء الحبيبة، مادامت الحياة عبارة عن مراحل قصيرة يعيشها الإنسان وتنتهي بالموت.

 

إن شدة البكاء من الناحية السيكولوجية والنفسية هو انعكاس تأثير عاطفي يعبر من خلاله الشاعر/ الناظم العبدي بغرض ترجمة الانفعالات والأحاسيس والتفاعلات النفسية اتجاه حدث القطيعة الاجتماعية والأزمة العاطفية بين العاشقين، فالنفس تأثرت بقوة الفراق والغياب حيث يتوقف الشاعر على وصف الحالة النفسية المهزوزة/بالبكاء، حالة حزنه وألمه، و وظف دموعه كدليل على العذاب وعدم تقبل موقف رفض زواجه وارتباطه بمحبوبته "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكِي"، واستعملها وسيلة لإبراز مدى وصول الحالة العاطفية إلى أقصى درجاة الحزن في علاقة مع الظروف التي مر منها الحبيب وأترث في حالته النفسية بعد عزلته الحزينة .

 

الشاعر/ الناظم يعي بخطابه بأن البكاء على الحبيبة يؤدي إلى تهييج العين لتدرف الدموع بسبب خسارة إنسان يحتل مكانة كبيرة في قلب العاشق، حيث يمتاز المتن "حْبِيبِي مَالُو عْلِيًا، لَالَةْ لَالًةْ، مَالْ حْبِيبِي بِالدْمُوعْ يَبْكِي" بحمولة أدبية مؤثرة للغاية تعبر عن حالة الانفصال والقطيعة مع الخليلة وما صاحب ذلك من ألم ألهب مشاعر العاطفة وبالتالي أعطى للحالة الوجدانية إشارة للعيون لتدرف الدموع كنوع من الاحتجاج على الشعور بألم الفراق والحزن على الحبيبة.

 

في نفس المتن العيطي ينتقل الشاعر/ الناظم لوصف الجلسات الفنية وتصوير بعض مشاهدها حسب المناسبات التي تقام بالقبيلة أكانت أعراسا، أو أفراحا أو حفلات خاصة بالانتصارات ضد التمردات والانتفاضات أو أثناء مواسم الحصاد وخلال فصل الربيع (اَلنْزًاهَةْ)، حيث أنشد الناظم قوله: "مُولْ اَلصًالَةْ صَاحْبِي ﯖْرِينِي، مُولْ اَلزِيتِي إِلَا أَنْتَ زْهَيْتِي"...

 

لقد حدد الناظم في خطابه الموجه إلى الشخص/ الهدف وهو "مُولْ اَلصًالَةْ" والذي تربطه علاقة عاطفية مع حبيبته بلا شك، ونعته أيضا بلون لباسه "مُولْ اَلزِيتِي". ونستحضر هنا الحلقات السابقة التي تحدثنا فيها عن "اَلصًالَةْ" و"اَلْقُبًةْ" وأكدنا على تشابههما من حيث الشكل الهندسي والمعماري، إذ أتخذ مصطلح "اَلصًالَةْ" رسميته مع دخول الاستعمار الفرنسي (نسبة إلى مفردةsalle  بالفرنسية)، إذ أصبح اسم "اَلصًالَةْ" له طابعه الحضري وينتسب إلى المدن، فيما اسم "اَلْقًبًةْ" له طابع بدوي وينتسب إلى البوادي والقرى.

 

ومن مميزات "اَلصًالَةْ" و"اَلْقُبًةْ" أنهما يمتازان بعلو السقف لضمان انسياب حركة الهواء، لأنهما في غالب الأحيان كانتا لا تحتويان على نوافذ للتهوية، ولهما باب فقط للدخول، وتستقطبان بشساعة الفضاء عدد كبير من المدعوين والضيوف للجلسات الفنية والدينية والاجتماعية، وشكلهما المستطيل يساهم في منح الوافدين فرصة للاستمتاع بالجلسة الفنية في شروط صحية ومقبولة.

 

لقد استعمل الشاعر/ الناظم شطر "صَاحْبِي ﯖْرِينِي" ليوضح للمتلقي أن الجلسة الفنية موضوع المتن الشعري يتواجد بها أشخاص ( ذكورا وإناثا) من فئة عمرية متقاربة أو متساوية في السن، وهذه الفئة العمرية متقاربة أيضا حتى في العقليات والثقافات والمستوى الاجتماعي، وتتقاسم نفس الهموم والآمال (رجالا ونساء)، علما أن المخاطب في المتن العيطي هي المرأة التي تفتخر بحبيبها كونه من أعيان القبيلة، ويتوفر على صالة أو قبة كبيرة مخصصة للسمر والجلسات الفنية، مجهزة ومؤثثة بكل ما تحتاجه وتشتهيه النفس ولحظة السمر، وتتباهى به وبشخصيته ولباسه الزيتي التقليدي الجميل "مُولْ اَلزِيتِي إِلَا أَنْتَ زْهَيْتِي". وقد يكون خليلها صاحب اللباس الزيتي "مُولْ اَلزِيتِي" في قمة السعادة والانتشاء بحرارة اللقاء، على اعتبار أن المناسبة شرط وحضور الخليلة له طعم خاص.

 

لقد أشار الشاعر إلى اللون الزيتي دون غيره من الألوان، "بحكم أن اللون الزيتي كان شائعا في تلك الفترة التاريخية بعد اللون الأبيض طبعا، وكان هو اللون المفضل لأنه كلاسيكي ويعبر عن الهدوء والنعومة والحرارة والجاذبية، وله العديد من الدرجات اللونية المختلفة، وهو من أكثر الألوان التي تشعر الشخص بالدفء، ويستعمل غالبا في فصل الشتاء وفصل الربيع"، يوضح ضيف الجريدة الفنان التشكيلي حسن الزرهوني، الذي أضاف: "يتكون اللون الزيتي من خليط اللونين الأخضر والأحمر ونسبة قليلة من اللون الأصفر حسب الدرجة المطلوبة، وسمي بالزيتي نسبة إلى لون زيت الزيتون، على اعتبار أنه في تلك الفترة تم إطلاق مجموعة من أسماء الألوان انطلاقا من الطبيعة مثل (اللون اَلْخَزِي نسبة لخز البحر، واللون اَلشًمْعِي نسبة إلى الشمع، واللون اَلْخَابُورِي نسبة إلى لون شجر الخيبور، واللون الوردي نسبة للون الورد، واَلْكَبْرِيتِي نسبة لمعدن الكبريت، واَلْقَصْبِي نسبة إلى لون القصب، والْكَامُونِي نسبة إلى نبتة الكامون... وللحصول على اللون الزيتي الفاتح يتطلب الأمر مزج كمية من اللون الأخضر وقليل من الأصفر، ويوحي هذا اللون بالسحر والجاذبية خصوصا مع أشعة الضوء ليلا والشمس نهار. أما للحصول على اللون الزيتي الأخضر فيتم مزج كمية كبيرة من اللون الأحمر مع قليل من اللون الأحمر، حيث يوحي هذا اللون بالإحساس الجميلة و بالنعومة والحرارة ويتناسب ارتدائه مع حلول فصلي الشتاء والربيع ، وهناك أيضا اللون الزيتي الداكن، وهو مزيج بين كمية كبيرة من اللون الأخضر وقليل من اللونين الأحمر والأصفر ويوحي هذا اللون بالغموض وأحيانا بالحزن والكآبة، وهناك اللون الزيتي الرمادي الفاتح، والزيتي الطبيعي".

 

في معنى ودلالة متن: "عَبْدْ اَلمْجِيدْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ"

في شطر آخر من المتن العيطي قال الناظم مخاطبا "عَبْدْ اَلمْجِيدْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ"، حيث وظًف اسم عبد المجيد ليطلب منه فتح الباب "حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ"، فمن يكون هذا الشخص ولماذا أطلق اسم "اَلجْرِيدْ" على هذا الباب؟

 

"بَابْ اَلجْرِيدْ" هو باب من أبواب قصبة القائد الكبير عيسى بن عمر البحتري العبدي، حيث كان هذا الباب يطل على فضاء كتيبة الجنود المحاربين، وهو فضاء مجهز بمرابط الخيول والأسلحة والعتاد والألبسة الرسمية، فضلا عن احتضانه للفرسان المستعدين والمتأهبين للحظة الصفر لتنفيذ أوامر السلطة العسكرية العليا لإخماد الانتفاضات والتمردات في إطار الحركات الكبرى التي يتزعمها السلطان المولى الحسن الأول، أو الحركات الصغرى بقيادة عيسى بن عمر.

 

إن كلمة "اَلجْرِيدْ" لا تعني حسب الشاعر(ة)/ الناظم(ة)، سعف النخيل أو غصنه المجرد من أوراقه كما هو معروف في القاموس اللغوي، ولكن التصنيف الشعري للكلمة له دلالة ومعنى عسكري في سياق الفترة التاريخية التي نتحدث عنها، أي أن الناظم يقصد "اَلْفَيْلَقْ" أو بمعنى أصح "اَلتًجْرِيدَةْ اَلْعَسْكَرِيَةْ" التي تتكون من "اَلسْرُوتْ" (خيول وفراسن محاربين) والذين سينطلقون لخوض الحرب أو أثناء عودتهم ظافرين بالنصر.

 

في سياق متصل يمكن الاستدلال بعيطة "اَلرًاضُونِي" التي ورد فيها أيضا متن مشابه ويحيل على التجريدة العسكرية حيث قال فيه الشاعر: "خَلًا عْلَامُو فِي اَلجْرِيدْ، أَمَالِي اَلْخَيْلْ مْشَاتْ وَرَجْعَاتْ سَالْمَةْ". وهو يحيل على قمة السعادة وانتشاء القائد بنصر تجريدته العسكرية (قَائِدْ اَلسْرُوتْ)، وقد يقصد الشاعر القائد عيسى بن عمر أو أحد أولاده الذين كانوا يترأسون سربات الخيل/ الكتائب العسكرية (اَلتًجْرِيدَاتْ اَلْعَسْكَرِيًةْ). ومعنى "خَلًا عْلَامُو فِي اَلجْرِيدْ" في المتن العيطي، أي أنه ترك علمه المميز عن الأعلام الأخرى المحمولة من طرف الفرسان على صهوة الخيول، لدى الكتيبة/التجريدة، بحكم أن أعلام القياد الكبار كانت تشبه إلى حد ما علم السلطان على مستوى العلو والضخامة وتعدد ألوانه وزخرفته والرسوم والدلالات المكتوبة على ثوبه. (شُوفُو سِيدِي حْتَى مَنْ عْلَامُو كَاسِي عَوْدُو)..

 

لقد كان القائد يترك علمه لدى فرسانه ويدخل إلى القصبة للقاء أسرته وعائلته وأهله وهو مزهو بالانتصار (مَشَاتْ اَلْخَيْلْ وُجَاتْ سَالْمَةْ) وفي غاية السعادة والانتشاء بالنصر والنجاة من الموت في إطار المواجهات الدامية ضد المتمردين وانتفاضات القبائل.

 

أما بخصوص شخصية "عَبْدْ اَلَمْجِيدْ" فالمقصود به هو الحارس الخاص المكلف بفتح وحراسة "بَابْ اَلجْرِيدْ"، وهو الذي خاطبته الشاعرة/ المرأة بقولها " حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ". على اعتبار أن الحارس عبد المجيد هو المكلف بحراسة باب التجريدة العسكرية والاهتمام بمرابط وإسطبلات الخيول الخاصة بالحروب ومواجهات التمردات القبلية. لقد طالبت من خلال المتن، إحدى زوجات قائد التجريدة/ اَلسْرٌوتْ من الحارس عبد المجيد أن يفتح الباب لأنها اشتاقت لروية زوجها/حبيبها (القائد)، بعد فترة غياب طويلة، وتتطلع لرؤية أسارير الفرح والغبطة على محياه بعد العودة ظافرا بالنصر رفقة تجريدته العسكرية.

 

"اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ، رَاهْ لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ"... من يكون الباشا إدريس؟

الباشا إدريس هو أحد أبناء القائد الكبير عيسى بن عمر، وكان يشغل منصب قائد الرحى، وعين بعد ذلك باشا على مدينة أسفي في تلك الفترة من طرف السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1907 إلى حدود سنة 1910، وتم عزله ليعين لاحقا قائدا على منطقة "اَلْعَامْرْ" سنة 1915، لما تم نفي القائد عيسى بن عمر بميدنة سلا، (1915 إلى سنة 1920)، كما عين بعد ذلك قائدا على منطقة "تَمْرَةْ" بعد أخيه القائد محمد بن عيسى سنة 1920 إلى غاية سنة 1925، حيث أصبح القائد الزرهوني قائدا على البحارة الشمالية وقيادة "تَمْرَةْ".

 

في معنى ودلالة متن: "اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ، رَاهْ لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ"

إن الشاعرة/ الناظمة/ المرأة العبدية هي التي تخاطب الباشا إدريس في المتن العيطي، ويمكن أن ندرج هنا شخصية حادة الزايدية الغياثية التي جسدت الإرهاصات الأولى لتحرر المرأة ولعبها أدوار قيادية في الحماسة وإلهاب مشاعر الثوار في المشهد النضالي التحرري من قبضة وسطوة القائد عيسى بن عمر، وإذكاء روح التمرد حتى في صفوف النساء بقبائل عبدة لرفض الوقاع المعاش ومواجهة غطرسة وكغيان المخزن المحلي وحشية القائد ومحيطه المخزني.

 

لقد خاطبت المرأة/ الشاعرة الباشا إدريس في تلك الفترة التاريخية متحدية نفوذه السلطوي حين قالت "رَاهْ لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ"، وكأنها تهينه بصفته قائدا، منحت له عدة امتيازات من السلطة المخزنية، ورغم أنه هو أبن قائد كبير كعيسى بن عمر، وتقلد عدة مناصب وزارية (وزير الشكايات ووزير البحر/ الخارجية في تلك الفترة)، ومع ذلك وصفت حكمه بأنه لا يتجاوز أبواب مدينة أسفي (لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ)، وليس قادرا على التدخل في شؤون القبائل المحيطة بأسفي أو بمنطقة عبدة للدفاع عن مصالحها وأمنها...رغم أن خطاب الشاعرة/المرأة يعتبر تمردا وقد يؤدي بها إلى النفي والتعذيب والتنكيل والموت.

إن موقف الشاعرة التحرري من رقبة الطغيان والاستبداد دفعها إلى انتقاد سلوك المخزن المحلي متحدية ما ينتظرها من تنكيل وتعذيب من خلال هذا الشطر الذي أكدت فيه أن "سِيدِي حْكَمْ، سِيدِي طْغَى، يَحْكَمْ عْلِيًا بَلِي بْغَا".

 

في معنى ودلالة متن: "اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ، بِيعْ لَبْغَيْلَةْ وَآجْي تْـﯖِيسْ"

وللإمعان في الإهانة أضافت الشاعرة/الناظمة هذا الشطر في المتن العيطي في قصيدة "بين الجمعة والثلاث" حيث سخرت من الباشا إدريس قائلة: "اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ، بِيعْ لَبْغَيْلَةْ وَآجْي تْـﯖِيسْ"..

في هذا المتن الساخر، كشفت الشاعرة بأن الباشا إدريس كان يستعمل "بَغْلَةْ" مروضة في تنقلاته وسط مدينة أسفي، ووصفتها بـ "لَبْغَيْلَةْ"، حيث يسهل عليه امتطائها والتنقل على متنها في دروب المدينة، خلاف الحصان/الفرس نظرا لبنيته العالية وسرعته في الركض، هذه الرسالة المستفزة للباشا إدريس قد تكون أرسلتها الناظمة حاملة اسم "عْبُوشْ"، التي ذكر إسمها في عيطة "هَنِينِي هَنِينِي"، أو في عيطة "حَاجْتِي فِـ كْرِينِي"، وكذلك عيطة "اَلرًاضُونِي". (عْبُوشْ اَلْحَمْقَا، وَاشْ لَبْكَا يْبَرًدْ نَارُو). بالإضافة إلى أن المتن الذي يرد فيه اسم "عْبُوشْ" نجد ذكر اسم "سِيدِي أَحْمَدْ" (هَا هُوَ يَا سِيدِي أَحْمَدْ، هَا هُوَ يَا حَرْشْ لَعْيُونْ، هَا هُوَ يَا سِيدِي إِدْرِيسْ، هَا هُوَ يَا ذْهَبْ لَكْوِيسْ). وكذلك متن (اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ بِيعْ لَبْغَيْلَةْ وَآجِي تْـﯖِيسْ) ومتن ( اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ تَاعْ اَلْـﯖَلْسَةْ، ذْهَبْ لَكْوِيسْ).

 

لهذه الاعتبارات التي ذكرنا في السياق التاريخي الذي تشكلت فيه رائعة قصيدة الغزل لعيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ"، قد تكون شخصية "عْبُوشْ اَلْحَمْقَا" هي عاشقة ومحبوبة الباشا إدريس التي كانت تربطها بها علاقة غرامية، لكن الخصومة التي وقعت بينهما جعلتها تنتفض في وجهه دون خوف وتستعمل أسلوبا شديدا اللهجة وتهينه وتحط من مستواه إلى الحضيض حين طالبته ببيع البغلة ويأتي إليها راجلا وهو يعد الخطوات ويقيس المسافة التي تفصله عن مقر إقامتها.