الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (15)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (15) الفنان حسن الزرهوني (يسارا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي شعر الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم(ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم(ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي نحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في الحلقة الخامسة عشر، في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

 

قال الشاعر/ الناظم في المتن العيطي:

"سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ، هَذَا رَمْضَانْ بِالصْيَامْ، قَلًةْ لِيمَانْ فِـ بْنَادَمْ، لَحْرَامِي مَا فِيهْ نِيًةْ".

 

قبل تفكيك مضمون هذا المتن العيطي في رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ" لابد من الإشارة إلى أن هذا المتن قد ورد ذكره أيضا في عيطة "سِيدِي أَحْمَدْ"، حيث أنهاه الناظم بشطر آخر "يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ"، خلاف المتن الذي أنهاه الشاعر بـ "هَذَا رَمْضَانْ عَلِينَا بِالصْيَامْ"، في عيطة ملفنا الإعلامي، على اعتبار أنه أراد تحديد زمن حلول شهر رمضان المعظم خلال فترة معاناته وعذاباته جراء فراق محبوبته في عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ"، وهو بالنسبة له شهر الابتهال والتضرع للخالق من أجل المغفرة والتسامح والتواصل وصلة الرحم والعفو والرحمة بين الناس.

 

في اعتقادنا المتواضع أن ناظم القصيدة/ عيطة الغزل العبدية باستعماله الإحالة على شهر رمضان الكريم في المتن العيطي أراد أن يبعث برسالة اشتياقه وسلامه بواسطة طائر الحمام "سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ، هَذَا رَمْضَانْ بِالصْيَامْ"، بغرض التمني لإنهاء قطيعته مع محبوبته بسبب المشاكل العائلية بين أسرتيهما بعد أن رفض "اَلْمَكٍي" زواج ابنته "عَايْشَةْ" والارتباط بخليلها العاشق الولهان.

 

في هذا السياق فإن المستمع لرائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ" والمطلع على قصيدتها وأسباب نزولها يستشف من استعمال دلالة شهر رمضان في هذا المتن أن الشاعر يطمح إلى زوال الغيوم الملبدة في سماء علاقته العاطفية، وأن تنتهي العداوة والخصومة بحلول شهر الصيام ويتطلع إلى شروق شمس جديدة، وانفراج أسارير الأمل و الفرح ونسيان الماضي بإكراهاته وإعادة الدفء للعلاقات الأسرية بين العائلتين، بحكم أن شهر رمضان هو فترة نقاهة الذات والروح والنفس والتصالح مع المحيط العائلي والاجتماعي وفتح صفحة جديدة في العلاقات الإنسانية بصفة عامة.

 

ومن وجهة نظرنا فإن الشطر الذي قال فيه الناظم العبدي: "هَذَا رَمْضَانْ بِالصْيَامْ، قَلًةْ لِيمَانْ فِـ بْنَادَمْ، لَحْرَامِي مَا فِيهْ نِيًةْ"، أراد من خلاله أن ينبه الأطراف المتدخلة بسوء النية لعرقلة مشروع زواجه، والتي أترث في العلاقة سلبيا، وأوصلت الحبيبين إلى الباب المسدود، وقطع صلة الرحم والقرابة الدموية، وأن رمضان فرصة لتجاوز المشاكل والحد من العداوة، ويتوسل في خطاب ابتهالاته وتضرعه إلى الله بأن يعيد المياه إلى مجاريها وتتويج العلاقة العاطفية بالزواج والاستقرار والسكينة والاطمئنان رفقة خليلته.

 

جمالية المتن الشعري تعكس قوة إيمان الناظم/الحبيب وتشبته بخيط الأمل وإحلال السلم والسلام مع إطلالة هلال شهر الصيام، مقابل تعلقه بمحبوبته عائشة، واستحضاره للجانب الديني كمقاربة ومعادلة أخلاقية واجتماعية لإنهاء العداوة والخصومة، والتأثير في الأطراف المتدخلة في العلاقة بينه وبين معشوقته "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي".

 

إن استعمال رمزية طائر الحمام/ السلام، و شهر رمضان/ التسامح والمغفرة في المتن الشعري الغرض منه تبليغ السلام و الشوق والحنين للحبيبة، وإبراز استعداده للصلح بين العائلتين ونسيان العداوة التي نشبت بينهما جراء رفض المكي طلب الزواج من عائشة. على اعتبار أن الناظم يعي جيدا مكانة "الحمام" و"الصيام" في تقاليد وعادات وطقوس المجتمع، والتأكيد على ضرورة تطهير النفس والروح والجسد من كل ما من شأنه تعكير صفو الذهن واستثمار مساحات السلام للتعايش في حب وسلام.

 

دلالة متن "هَذَا رَمْضَانْ بِالصْيَامْ، قَلًةْ لِيمَانْ فِـ بْنَادَمْ، لَحْرَامِي مَا فِيهْ نِيًةْ"، هو عصارة موقف راقي أتجاه "اَلْمَكٍي" ومن يحيط به من أطراف شوشت على علاقة الحبيب بحبيبته، لعلهم يستعيدون وعيهم ويحققوا رغبة ابنته عائشة للزواج من حبيبها بعيدا عن كواليس الإشاعات والقيل والقال ونقل الأخبار الزائفة وتلطيخ سمعة الحبيب، وتأجيج الصراع وتعميق الأزمة وجراحات العذاب والمعاناة.

 

من أين استوحى الناظم/ الشاعر قوله "سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ"؟

مقدمة المتن العيطي "سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ" استوحاه الشاعر من غناء شيوخ العيطة الرواد الذين كانوا يحفظون ويجيدون ترتيل وقراءة القرآن الكريم في المناسبات الدينية واحتفالات القبيلة (الأعراس، العقيقة، الأعياد الدينية...)، وقد ورد هذا الشطر في عيطة "سِيدِي أَحْمَدْ" كعيطة عبدية أصيلة (سَبْعْ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ) وأسباب قول هذا المتن في ذات العيطة، يحيلنا -حسب الروايات الشفهية- على فترة القائد العبدي البحتري عيسى بن عمر.

 

"سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ" هي رسالة مشفرة، أي "غَوْصَ" استعمله اَلْفُقَهَاءْ/اَلطًلْبَةْ الذين كانوا يزاوجون بين حفظ وقراءة القرآن بطريقة جماعية "اَلسًلْكَةْ"، وغناء فن العيطة والعزف على آلة لوتار والآلات الإيقاعية فيما بينهم وفي خلوتهم بعيدا عن أعين عامة الناس في سرية تامة، حيث كانوا يختارون أماكن وفضاءات مغلقة ليمارسوا فنهم وإبداعهم الموسيقي والغنائي بحكم أن لَفْقِيهْ/ اَلطًالَبْ له مكانة اعتبارية في مجتمعنا المحافظ ولا يمكنه أن يعزف على آلة لوتار أو يغني العيطة، وكانوا يتميزون بأصواتهم الشجية والرخيمة سواء أثناء ترتيل القرآن أو غناء العيطة، وكان القائد عيسى بن عمر يستقبل هؤلاء الفقهاء/ الطلبة في المناسبات الدينية واحتفالات القبيلة ويستمتع بأصواتهم التي تقشعر لها الأبدان وهي تصدح بتراتيل الذكر الحكيم في قصبته العامرة.

 

لقد كانت الزوايا تحرم الغناء والعزف على آلة لوتار والإيقاع على الفقهاء/ الطلبة حاملي كتاب الله في صدورهم، وكان الفقيه في تلك الفترة التاريخية (التي ناقشناها في الحلقات السابقة)، يتأبط آلته الوترية وإخفائها تحت جلبابه عن أعين الناس، ويمارس نشاطه الفني بسرية تامة، حتى لا يفقد مكانته الاعتبارية وسط المجتمع المحافظ الذي يقدس الفقيه/ اَلطًالَبْ كرمز للطهارة والعفة لأن التهمة كانت جاهزة.

 

و-حسب الروايات الشفهية- فإن القائد عيسى بن عمر كان معروفا بأداء مهامه على وجه السرعة دون مماطلة أو تقاعس وتجده متأهب ومسرع في حركته ونشاطه اليومي للقيام بواجباته، لذلك وصفه الناظم بقولة "يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ".

 

لقد تعود الفقهاء على استعمال غَوْصَ "سَبْعْ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ" لتوجيه التحية والسلام للقائد عيسى بن عمر حين يفاجئهم بالسلام أثناء تواجدهم في القصبة خلال مناسبة ما، بحكم أنه فقيها حافظ للقرآن الكريم وآياته البينات، ويفهم جيدا في الرسائل المشفرة (اَلْغَوْصْ). وكان يكتفي بالقول في حضرتهم "سَبْعْ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ" ويرد عليه مجمع الفقهاء بكلمة واحدة "يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ"، حتى لا يضيع الوقت في اجترار التحية والسلام والأسئلة عن الصحة والحال والأحوال والسفر والحركات الكبرى والصغرى وما إلى ذلك من أمور تدبير شؤون القبيلة اليومية، على اعتبار أن الرجل كان مسرعا في أداء مهامه وواجباته "زَرْبَانْ"، ويعطي أهمية كبيرة للوقت والزمن، وهذه السرعة اكتسبها كسلوك يومي من خلال الاستعداد للخروج للحركات السلطانية الكبرى في عهد المولى الحسن الأول، أو الحركات الصغرى التي كان يقوم بها في المنطقة لإخماد التمردات والانتفاضات بالقبائل وتوسيع إيالته.

 

إن الرسالة المشفرة لِغَوْصَ "سَبْعْ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ يَا اَلْغَادِي زَرْبَانْ"، ذات دلالة مكثفة وتختزل نفحة وحمولة دينية، وهي رسالة جامعة ومانعة لتوجيه التحية وإحاطة مستقبلها بالسلام والأمن في ترحاله وغيابه وأثناء عودته من مهامه، وتحيل على مستوى التفكيك والشرح إلى سبع آيات قرآنية تعتبر في نظر الفقهاء/ الطلبة بردا وسلاما، و حجابا واق ضد كل الشرور والنحس، وتحفظ المسافر في سفره من كل العوائق، وتعينه على السداد والفلاح في مهامه وواجباته، وتمنحه قيمة قدسية واعتبارية بمعنى (تَمْشِي سَالَمْ وَتَرْجَعْ غَانَمْ).

 

لقد أنشد الناظم/ العبدي في رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ" هذا المتن "سَبْعْ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ" كذلك في علاقة مع بريد سرب الحمام لتبليغ رسالته للحبيبة، متوسلا من الله أن يحفظ طائر الحمام في طريقه ويقيه من شر الصقور التي تعترضه، وأحاط سرب الحمام بالدعاء وحجاب سبع آيات قرآنية ليؤمن سفره وتصل رسالة الوصل والعشق للمحبوبة، "عَلٍي يَا فْرِيـﯖْ لَحْمَامْ، عَلٍي وْزِيدْ فِـ لَوْهَامْ، وَقْرَا لَوْحَيْدَةْ السًلَامْ، سَبْعَ سْلَامَاتْ فِـ سْلَامْ"، في الوقت الذي انقطعت الصلة بين العائلتين في غياب من يقوم بدور الوسيط لتبليغ سلامه وشوقه. حيث أخبرنا الشاعر بالقطيعة وعدم تمكنه من رؤية عائشة ابنة المكي كل يوم جمعة بمقبرة سيدي مبارك بوﯖدرة، بعد منعها من مغادرة بيت أسرتها من طرف والدها المكي الذي قرر عدم لقائها بالحبيب.

 

ما هي الآيات القرآنية السبع التي ورد فيها ذكر "سلام عليكم"؟

هذا السؤال المحوري يمكننا جوابه من تفكيك المتن العيطي "سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ"، وكيف أستطاع الناظم توظيف صيغة السلام الجامع المانع "سَبْعْ سْلَامَاتْ" في سلام واحد بقوله "يَا فِـ سَلَامْ" حيث استند ضيف الجريدة الفنان التشكيلي والموسيقي في تحليله وتشفيره لـ "غَوْصَ" الفقهاء مع القائد عيسى بن عمر البحتري العبدي على استحضار الآيات القرآنية السبع وهي:

1ـ الآية الأولى الواردة في سورة الأنعام، الآية 54، والتي قال فيها عز وجل: "وإذا جائك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم".

2ـ الآية الثانية الواردة في سورة الأعراف، الآية 46، والتي قال فيها الخالق: "وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماتهم، ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم".

3ـ الآية الثالثة الواردة في سورة الرعد، الآية 24، والتي قال فيها سبحانه وتعالى: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبة الدار".

4ـ الآية الرابعة الوارد في سورة النحل، الآية 32، والتي قال فيها عز جلاله: "يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون".

5ـ الآية الخامسة الواردة في سورة مريم، الآية 47، والتي يقول فيها الخالق:" قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا".

6ـ الآية السادسة الواردة في سورة القصص، الآية 55، والتي قال فيها الله سبحانه وتعالى: "سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين".

7ـ الآية السابعة الواردة في سورة الزمر، الآية 73، والتي قال فيها الله جل جلاله: "وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين".

 

ودون الدخول في شرح وتفسير الآيات القرآنية السبع أعلاه، فقد وردت جميعها في صيغة المتن العيطي "سَبْعَ سْلَامَاتْ يَا فِـ سْلَامْ" كدلالة على حجاب وواق للمتلقي المعلوم وهو القائد عيسى بن عمر/ وسرب الحمام حامل رسالة الحبيب، واستعملها الفقهاء/ والناظم كـ "غَوْصْ" لتمرير رسالة السلام والأمن والطمأنينة، وابتهال وتضرع ودعاء لله ليحيط قائلها ومحيطه بحجاب (سبع آيات قرآنية) مثله مثل المؤمنين وأصحاب الجنة والأنبياء والرسل وكل من عمل عملا صالحا لوجه الله.