في كل يوم تقطع شاحنات الجيش الملكي 1600 كيلومتر انطلاقا من المستودع المركزي للتموين العسكري بميناء أكادير، إلى أقرب نقطة يرابط بها أفراد القوات المسلحة الملكية بالصحراء لتزويد الجنود بـ 1400 طن من المؤن والمواد الغذائية، أي ما يمثل 500 ألف طن في السنة.

هذه الرحلات المكوكية تتم على محورين: إما محور أكادير بويزكارن نحو العيون والداخلة، أو عبر محور أكادير ورزازات، مرورا بأقا وطاطا وفق برنامج تسهر عليه أطر اللوجستيك العسكري المغربي الذين يحرصون على تتبع هذه السلسلة اللوجستية لتموين الجنود المنتشرين في جبهة تغطي مساحة 300 ألف كيلومتر مربع بطول 2400 كيلومتر. هذا الوضع حول الجيش إلى دينامو لضخ الزيت في اقتصاد الأقاليم الجنوبية انطلاقا من أكادير إلى لكويرة، بدءا من ميناء عاصمة سوس الذي تحولت فضاءاته إلى قطب جذب بحكم وجود المخازن الشاسعة لتخزين مؤونة الجيش (خضر، توابل، عجائن، معلبات، قمح، لحم مجمد...) وما يترتب عن ذلك من رواج وتوظيف وعائدات مالية، وانتهاء بشركات النقل التي تتم الاستعانة بخدماتها لشحن المؤونة، مرورا بـ "مدن الدولة" الموجودة بالجنوب المعتمدة كليا على الجيش في اقتصادها المحلي.

الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية حاليا، كان غير حاضر في المتخيل الشعبي إلى عهد قريب، أي البدايات الأولى للاستقلال وحقبة الستينات، حيث كانت المؤسسة جنينية تضم بضع آلاف من أعضاء جيش التحرير المنحل وجنودا كانوا يعملون في الجيش الفرنسي أو الإسباني، يضاف لهم حوالي 10 ألف مخزني متنقل، أي بالكاد 20 ألف جندي.

لكن مع اندلاع حرب الصحراء بين المغرب من جهة والجزائر والبوليساريو من جهة ثانية، ستعرف المؤسسة العسكرية ولادة ثانية تقطع مع مرحلة 56-1974، المرحلة التي تميزت بالتوتر والقلاقل الاجتماعية والسياسية والانقلابات ضد الملك الراحل الحسن الثاني، لتبدأ مرحلة ثانية، مرحلة الاحتراف والتسلح وتقويم النقائص والتوظيف والهيكلة. هذه المرحلة قادت بدورها إلى بروز صحوة لتطوير التكوين وفتح مراكز جديدة ودمقرطة الولوج إلى الجيش عبر تجسير (من الجسر) العلاقة بين الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس وأعماق المجتمع، بعد أن كانت هذه الأكاديمية مجرد مشتل لتفريخ النخب العسكرية التي ينتمي أبناؤها للأعيان.

التراكمات المذكورة تعززت مع بداية الألفية الحالية، عبر فتح المعهد الملكي بالقنيطرة لكبار الضباط وتحديث الثكنات وعصرنة السلاح لمسايرة العدو وبناء قواعد عسكرية (القصر الصغير نموذجا)، وهي الخطوات التي توجت بتحول الجيش الملكي إلى سفير للمغرب في عدة بؤر توتر دولية (هايتي، ساحل العاج، الكونغو..) في إطار عمليات أممية لتثبيت السلام أو تحوله إلى ناقل للخبرة لدول الجنوب (مثلا فرق الهندسة العسكرية التي أرسلت من قبل إلى السنيغال، أو سلاح الطيران الذي توجه إلى بوركينافاصو)، أو تحوله إلى ذراع مدنية للتدخل في الكوارث (عمليات الأطلس والراشيدية وجرادة والغرب وتاونات وحرائق الغابات ولاسامير وغيرها...).

انبعاث المؤسسة العسكرية من رمادها كان مدخلا جديدا كي يصبح للجيش أدوار أخرى يلعبها، ليس فقط الدفاع عن حوزة الوطن، بل وخلق امتدادات في صلب المعيش اليومي للمغاربة وضخ الزيت في محركات الاقتصاد المحلي.