في 18 نونبر من سنة 1933 كان التجسيد العملي لفكرة عيد العرش، بمبادرة من الحركة الوطنية التي أقدمت ذلك اليوم على تنظيم أول مهرجان يخلد الذكرى السادسة لجلوس السلطان محمد بن يوسف على العرش.
لم تنبثق الفكرة فقط تقديرا من الحركة الوطنية لمحمد الخامس، الذي يمثل استمرار الدولة العلوية منذ قيامها في القرن السابع عشر، ولكن أيضا للتجاوب مع سياقات المرحلة التي كانت تكثف نبضا وطنيا ضاق بسلطات الحماية المفروضة عليه منذ سنة 1912، ومع التقليد المكرس في كل الملكيات، خاصة في المشرق العربي، وفي مصر أساسا.
ينبغي أن نستحضر، في هذا الاتجاه، أن تاريخ ذلك المهرجان كان محاطا بظرفية خاصة تميزت بتصاعد حركة الانتفاضات المسلحة ضد الوجود الاستعماري في مجموع ربوع المغرب، وبتواصل الاحتجاج ضد السياسة الفرنسية التي فشلت في إقرار الظهير البربري (16 ماي 1930)، ولذلك كان من الطبيعي أن تنزعج سلطات الحماية من مبادرة الوطنيين الذين استطاعوا أن يفرضوا عيد العرش في السنوات الموالية كتقليد سنوي تواصل طيلة الفترة الاستعمارية، وحتى في فترة نفي محمد الخامس، دلالة على تمسك المغاربة بشرعية محمد الخامس وبمشروعيته، وبمطلب عودة الملك وتحقيق الاستقلال.
بهذا الخصوص يتذكر المؤرخون المغاربة اسم محمد بلحسن الوزاني ومحمد صالح ميسة، بوصفهما صاحبي فكرة هذا العيد. فقد كان بلحسن الوزاني مدير جريدة "عمل الشعب" وصالح ميسة مدير "مجلة المغرب" وأحد كتاب جريدة "عمل الشعب" التي تبنت الفكرة ودعت إليها، مثلما يذكرون أن ذلك قد تعزز بصدور قرار وزاري يوم 26 أكتوبر 1934، عن محمد المقري(الصدر الأعظم) مؤشرا عليه من طرف المقيم العام الفرنسي هنري بونصو. وقد تألف هذا القرار ، كما يذكر ذلك الأستاذ عبد الحق المريني (الناطق الرسمي باسم القصر الملكي) "من عدة بنود أهمها أن يقوم باشا كل مدينة من المدن المغربية بتنظيم الأفراح والحفلات الموسيقية، وتزيين المدن، وتوزيع الألبسة والأطعمة على نزلاء الجمعيات الخيرية، وأن يكون يوم عيد العرش هو 18 نونبر من كل سنة، ويكون يوم عطلة، بشرط أن لا تلقى فيه الخطب السامية".
في هذا السياق كانت وظيفة عيد العرش في عهد محمد الخامس مؤطرة بمطلب جميع المغاربة، في استعادة الهوية الوطنية العربية الإسلامية، ومعبرة عن مختلف منعطفات حركة النضال الوطني. ولذلك تأسس الحقل الرمزي المحيط بهذه المناسبة في ارتباط مباشر مع الحركة المطلبية الحيوية للشعب المغربي، معبرا عنها بتعاقد الملك مع الوطنيين. ونذكر هنا كيف جعل الملك محمد الخامس من أول خطاب عرش له بعد عودته من المنفى لحظة تاريخية تعلن من جهة عن انتهاء عصر الحجر والحماية وحلول عصر الحرية والاستقلال، وتؤكد من جهة ثانية قيام الملكية الدستورية كخيار أساسي للمغرب. وهذا ما يبرز البعد الاستراتيجي لتلك الخطابات التي ارتأى محمد الخامس أن يجعلها أيضا مناسبة لتقديم جرد بما تحقق طيلة السنة التي مضت. وهو التقليد الذي حافظ عليه خلفه الحسن الثاني، مع تعديل جوهري في وظيفة العيد ودلالاته، وقد جاء هذا التعديل محكوما بدوره بطبيعة صراعات السنوات الأولى من حكمه.
لقد طرحت منذ البدء مسألة تنازع الشرعية بين الحسن الثاني وأحزاب الحركة الوطنية التي اعتبرت إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم في ماي 1960 نزوعا إلى الاستفراد بالحكم. ومن ثم تكرست القطيعة بين القصر وفصائل مهمة من الأحزاب الوطنية. ولذلك صنع الحسن الثاني بعد توليه العرش في السنة الموالية من عيد العرش أداة من بين أدوات عديدة لتثبيت حكمه تحولها من المجال الرمزي الصرف إلى مجال التكريس المادي، حيث أصبحت المناسبة حدثا تتعبأ كل وسائل الدولة من أجل إحيائه، مصحوبا بجهد زمني مكلف وبإمكانيات مالية كبرى". وقد تمثل ذلك في الحفلات التي كانت تقيمها العمالات عبر ربوع المملكة، والسفارات المغربية في الخارج، إضافة إلى برقيات الولاء والإخلاص. وكانت التلفزة تخصص كل ساعات البث لقراءة هذه البرقيات، وللبرامج الإشهارية الخاصة بمنجزات الملك والحكومة، وللأغاني و"الكلام المناسباتية والقراءات الشعرية.
لكن مع تولي محمد السادس العرش كان كل شيء مهيأ لصياغة أسلوب جديد في التعامل مع عيد العرش.
فالملك الشاب (عمره 36 سنة آنذاك) يحظى بحب المغاربة، خاصة أنه لم يكن من قبل، يتولى أي مسؤولية في الحكم تورطه، بشكل أو بآخر، أو تلوث يديه أو سيرته في ملف يهم حقوق الإنسان أو ما يهم تجاذبات السياسة المباشرة، إضافة إلى ذلك فقد كان الانتقال السلس للسلطة أثر في طمأنة كل أركان الدولة والمجتمع بدخول المغرب عهدا جديدا لا مجال فيه لتنازع الشرعيات، حيث صارت ثمة شرعية واحدة تحتكم إلى الاختيار الديمقراطي عقيدة وسلوكا، وتقوم على تداول السلطة بين الفاعلين السياسيين، وعلى مشروعية عمل المجتمع المدني، وحقه في المشاركة والاقتراح. كل هذه الاعتبارات لم تعد تسمح، موضوعيا، بعيد مثقل بالرمزية المبالغ فيها للتاريخ وللسلطة وللخطابات. وهذا ما فهمه الملك الشاب الذي أعطى الإشارة الأولى في أول أعياد عرشه بالتخلي عن كل مظاهر الاحتفالات الباذخة التي كانت تنظمها العمالات في أقاليم المملكة، وتوازى ذلك مع إلغاء أغاني المدح التي كانت تتفرد بها القناة الأولى.
ولذلك عاد عيد العرش إلى أصله الرمزي: أن يكون الموعد السنوي لإلقاء خطاب عيد العرش ولتلقي البيعة. وحتى على مستوى خطابات العيد، قد حصل متغير أساسي، إذ عمل الملك محمد السادس على تجديد وظيفة الخطاب التي كانت من قبل تقوم أساسا على تقديم حصيلة الحكم خلال السنة. وذلك بجعل هذه الخطابات تعبر عن وظيفة أخرى، هي التجاوب مع ظرفيات الوضعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وإسداء التوجيهات بخصوص الأوراش المفتوحة، سواء ما تعلق بإصلاح القضاء أو إصلاح التعليم أو الفلاحة أو مجالات الاستثمار أو الجهوية أو غيرها من معطيات الحياة العامة للمغاربة. بمعنى أن خطابات عيد العرش صارت هي المناسبة السنوية لرسم وتجديد خارطة الطريق نحو المستقبل.
هكذا إذن تخلصت المناسبة من ردائها التقليدي، معبرة عن طموح المغاربة في تثبيت ركائز الديمقراطية، ونصرة المشروع الديمقراطي الحداثي ضدا على كل محاولات النكوص والتراجع وحبس المغرب في الدرجة الصفر من التاريخ.
لم تنبثق الفكرة فقط تقديرا من الحركة الوطنية لمحمد الخامس، الذي يمثل استمرار الدولة العلوية منذ قيامها في القرن السابع عشر، ولكن أيضا للتجاوب مع سياقات المرحلة التي كانت تكثف نبضا وطنيا ضاق بسلطات الحماية المفروضة عليه منذ سنة 1912، ومع التقليد المكرس في كل الملكيات، خاصة في المشرق العربي، وفي مصر أساسا.
ينبغي أن نستحضر، في هذا الاتجاه، أن تاريخ ذلك المهرجان كان محاطا بظرفية خاصة تميزت بتصاعد حركة الانتفاضات المسلحة ضد الوجود الاستعماري في مجموع ربوع المغرب، وبتواصل الاحتجاج ضد السياسة الفرنسية التي فشلت في إقرار الظهير البربري (16 ماي 1930)، ولذلك كان من الطبيعي أن تنزعج سلطات الحماية من مبادرة الوطنيين الذين استطاعوا أن يفرضوا عيد العرش في السنوات الموالية كتقليد سنوي تواصل طيلة الفترة الاستعمارية، وحتى في فترة نفي محمد الخامس، دلالة على تمسك المغاربة بشرعية محمد الخامس وبمشروعيته، وبمطلب عودة الملك وتحقيق الاستقلال.
بهذا الخصوص يتذكر المؤرخون المغاربة اسم محمد بلحسن الوزاني ومحمد صالح ميسة، بوصفهما صاحبي فكرة هذا العيد. فقد كان بلحسن الوزاني مدير جريدة "عمل الشعب" وصالح ميسة مدير "مجلة المغرب" وأحد كتاب جريدة "عمل الشعب" التي تبنت الفكرة ودعت إليها، مثلما يذكرون أن ذلك قد تعزز بصدور قرار وزاري يوم 26 أكتوبر 1934، عن محمد المقري(الصدر الأعظم) مؤشرا عليه من طرف المقيم العام الفرنسي هنري بونصو. وقد تألف هذا القرار ، كما يذكر ذلك الأستاذ عبد الحق المريني (الناطق الرسمي باسم القصر الملكي) "من عدة بنود أهمها أن يقوم باشا كل مدينة من المدن المغربية بتنظيم الأفراح والحفلات الموسيقية، وتزيين المدن، وتوزيع الألبسة والأطعمة على نزلاء الجمعيات الخيرية، وأن يكون يوم عيد العرش هو 18 نونبر من كل سنة، ويكون يوم عطلة، بشرط أن لا تلقى فيه الخطب السامية".
في هذا السياق كانت وظيفة عيد العرش في عهد محمد الخامس مؤطرة بمطلب جميع المغاربة، في استعادة الهوية الوطنية العربية الإسلامية، ومعبرة عن مختلف منعطفات حركة النضال الوطني. ولذلك تأسس الحقل الرمزي المحيط بهذه المناسبة في ارتباط مباشر مع الحركة المطلبية الحيوية للشعب المغربي، معبرا عنها بتعاقد الملك مع الوطنيين. ونذكر هنا كيف جعل الملك محمد الخامس من أول خطاب عرش له بعد عودته من المنفى لحظة تاريخية تعلن من جهة عن انتهاء عصر الحجر والحماية وحلول عصر الحرية والاستقلال، وتؤكد من جهة ثانية قيام الملكية الدستورية كخيار أساسي للمغرب. وهذا ما يبرز البعد الاستراتيجي لتلك الخطابات التي ارتأى محمد الخامس أن يجعلها أيضا مناسبة لتقديم جرد بما تحقق طيلة السنة التي مضت. وهو التقليد الذي حافظ عليه خلفه الحسن الثاني، مع تعديل جوهري في وظيفة العيد ودلالاته، وقد جاء هذا التعديل محكوما بدوره بطبيعة صراعات السنوات الأولى من حكمه.
لقد طرحت منذ البدء مسألة تنازع الشرعية بين الحسن الثاني وأحزاب الحركة الوطنية التي اعتبرت إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم في ماي 1960 نزوعا إلى الاستفراد بالحكم. ومن ثم تكرست القطيعة بين القصر وفصائل مهمة من الأحزاب الوطنية. ولذلك صنع الحسن الثاني بعد توليه العرش في السنة الموالية من عيد العرش أداة من بين أدوات عديدة لتثبيت حكمه تحولها من المجال الرمزي الصرف إلى مجال التكريس المادي، حيث أصبحت المناسبة حدثا تتعبأ كل وسائل الدولة من أجل إحيائه، مصحوبا بجهد زمني مكلف وبإمكانيات مالية كبرى". وقد تمثل ذلك في الحفلات التي كانت تقيمها العمالات عبر ربوع المملكة، والسفارات المغربية في الخارج، إضافة إلى برقيات الولاء والإخلاص. وكانت التلفزة تخصص كل ساعات البث لقراءة هذه البرقيات، وللبرامج الإشهارية الخاصة بمنجزات الملك والحكومة، وللأغاني و"الكلام المناسباتية والقراءات الشعرية.
لكن مع تولي محمد السادس العرش كان كل شيء مهيأ لصياغة أسلوب جديد في التعامل مع عيد العرش.
فالملك الشاب (عمره 36 سنة آنذاك) يحظى بحب المغاربة، خاصة أنه لم يكن من قبل، يتولى أي مسؤولية في الحكم تورطه، بشكل أو بآخر، أو تلوث يديه أو سيرته في ملف يهم حقوق الإنسان أو ما يهم تجاذبات السياسة المباشرة، إضافة إلى ذلك فقد كان الانتقال السلس للسلطة أثر في طمأنة كل أركان الدولة والمجتمع بدخول المغرب عهدا جديدا لا مجال فيه لتنازع الشرعيات، حيث صارت ثمة شرعية واحدة تحتكم إلى الاختيار الديمقراطي عقيدة وسلوكا، وتقوم على تداول السلطة بين الفاعلين السياسيين، وعلى مشروعية عمل المجتمع المدني، وحقه في المشاركة والاقتراح. كل هذه الاعتبارات لم تعد تسمح، موضوعيا، بعيد مثقل بالرمزية المبالغ فيها للتاريخ وللسلطة وللخطابات. وهذا ما فهمه الملك الشاب الذي أعطى الإشارة الأولى في أول أعياد عرشه بالتخلي عن كل مظاهر الاحتفالات الباذخة التي كانت تنظمها العمالات في أقاليم المملكة، وتوازى ذلك مع إلغاء أغاني المدح التي كانت تتفرد بها القناة الأولى.
ولذلك عاد عيد العرش إلى أصله الرمزي: أن يكون الموعد السنوي لإلقاء خطاب عيد العرش ولتلقي البيعة. وحتى على مستوى خطابات العيد، قد حصل متغير أساسي، إذ عمل الملك محمد السادس على تجديد وظيفة الخطاب التي كانت من قبل تقوم أساسا على تقديم حصيلة الحكم خلال السنة. وذلك بجعل هذه الخطابات تعبر عن وظيفة أخرى، هي التجاوب مع ظرفيات الوضعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وإسداء التوجيهات بخصوص الأوراش المفتوحة، سواء ما تعلق بإصلاح القضاء أو إصلاح التعليم أو الفلاحة أو مجالات الاستثمار أو الجهوية أو غيرها من معطيات الحياة العامة للمغاربة. بمعنى أن خطابات عيد العرش صارت هي المناسبة السنوية لرسم وتجديد خارطة الطريق نحو المستقبل.
هكذا إذن تخلصت المناسبة من ردائها التقليدي، معبرة عن طموح المغاربة في تثبيت ركائز الديمقراطية، ونصرة المشروع الديمقراطي الحداثي ضدا على كل محاولات النكوص والتراجع وحبس المغرب في الدرجة الصفر من التاريخ.