فعلا هناك تباينات في الاصطفاف داخل الدولة، ولكن ينبغي الافتراض بأن هناك عقلا أمنيا متمركزا ينسق المعطيات والمواقف حسب السياق والمصالح وموازين القوى. من هنا ينبغي المزيد من اليقظة عند التحليل من أجل التفكيك، فنحن جزء من هذه المنظومة بحيادنا أو بانخراطنا الضمني أو الصريح. ومن هنا، لأيضا، وجب تحفيز التفكير النقدي بالتوعية الثقافية في ظل استقالة المثقفين، فالقضية قضية بنيات وتمثلات، وليست فقط مسألة أشخاص وموظفين مكلفين بتدبير الشأن العام وصناعة القرار السياسي والأمني.
لقد حان الوقت لشحذ وسائل جديدة للاستنباط المنتج، وكفانا اعتماد نفس الوعاء المفاهيمي الذي نغترف منه نفس المعايير قياسا على الحذاء الصيني المشهور. وإنه من باب تحصيل الحاصل التذكير بطبيعة النظام الممانع للدمقراطية والمتردد تجاه مطلب تحديث الذات، والممعن في التهرب من لعبة التكيف بدل التحول، اعتقادا من العقل الأمني بأن من شأن التخلص من التقليدانية تقويض لمقومات الوجود كمنظومة هجنة تتعايش فيها تشكيلة من أنماط ما قبل "الرأسمالية" اللبرالية.. ولذلك يتم تفضيل اعتماد مناخ ومشهد سياسيين تتنافس فيهما الأحزاب حول من يدبر الشأن العمومي حكوميا وفق تناوب متحكم فيه، دون أن يرقى إلى مستوى فتح الإمكانية أمام تداول سياسي حقيقي حول "السلطة" التشريعية على الأقل.. فحتى مطلب الملكية البرلمانية يصعب تحقيقه مادامت جل الأحزاب لا تؤمن بالتغيير الديموقراطي إلا كورقة لحصاد مزيد من المناصب والحقائب، مما يعقد الأمور في اتجاه تأجيل اللحظة الديموقراطية باسم الاستقرار وبعلة دعم صمود اللحظات الوطنية وتقوية الجبهة الداخلية، وفي مواجهة "العدو" الخارجي أو الأجنبي.
والحال أن القرار الأمني والمالي والسياسي محتكر ومتماه وغير مدستر مبدأ إخضاعه لأية محاسبة أو مساءلة، مما يضعف حظوظ تهذيب الملكية من نزوعها التنفيذي المضطرد، في ظل هشاشة الحركة التقدمية، وتيه بوصلتها، والتي صار طموحها مقتصرا على "الشقاء من أجل البقاء" باسم اليسار "غير الحكومي"، يسار متردد بين الرغبة في النضال داخل المؤسسات وبين "إرادة" صون العذرية السياسية والطهرانية الفكرية، وهي مفارقة تحتاج إلى كثير من العقلانية ومزيد من جرعات السياسة الواقعية.. في حين يحاول بعض اليسار الآخر الاحتفاظ بصورة وتمثلات الماضي "الجذري" مع التفويض لامتداده في العمل الجماهيري والطيف المدني ليخوض الفعل الحزبي، بالوكالة، بمقاربة حقوقية وتحت سقف ليبرالي ما دون الديمقراطية الاجتماعية.
إنها إشكالية كبرى ينبغي الخوض في تحليلها ونقدها بعيدا عن تداعيات تنازع الزمن الانتخابي مع الزمن الاجتماعي الفقير إلى نخبة بنفس استراتيجي وثقافي طويل، حيث يستحيل مناهضة الأصولية المخزنية بالتحالف مع سليلتها الدينية.