الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

فتح الله رمضاني: جدلية السياسي و الإعلامي

فتح الله رمضاني: جدلية السياسي و الإعلامي فتح الله رمضاني

في إحدى تصريحاته، أكّد الأب الرّوحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، الجنرال "دوكول"، أنه يشعر بالحزن في كل صباح لا تنشر فيه الجرائد الفرنسية، رسما ساخرا (كاريكاتور) عن شخصه، وهو التأكيد الذي يوضح أهمية الصحافة في الأنظمة الديمقراطية، انطلاقا من الأدوار الجوهرية التي تلعبها، كمساءلة الحكومات، وتوفير المعلومات، بطبيعة الحال بالإضافة إلى أدوارها الأخرى، كالتثقيف والترفيه والدعاية...إلخ.

 

فوجود صحافة حرة ومستقلة والأهم مهنية، ركيزة أساسية من ركائز بناء المجتمع الديمقراطي، وضرورة أساسية في الحياة السياسية الديمقراطية، وذلك من خلال مهامها في الانتقاد، وأدوارها المهمة في محاربة وفضح الفساد، وتحليل سياسات الحكومات.

 

المعلوم أن الأنظمة الديمقراطية، ترتكز بالأساس على وجود أحزاب سياسية، ومن تمة على وجود ممارسة سياسية قوامها التعددية، كما أن هذه الأنظمة تتأسس على فصل السلط، وعلى توازنها وتعاونها، حيث لكل سلطة دور خاص بها، ولكل مؤسسة اختصاصات خاصة، ولكل فاعل مهام محددة، وأي تداخل بين هذه الأدوار والاختصاصات و المهام، يعني بالضرورة وجود اختلال في الحياة السياسية الديمقراطية.

 

إن الاختلالات التي من الممكن أن تؤثر في سلامة الحياة السياسية الديمقراطية عديدة، لكن في تقديري، إن أخطر معيقات الديمقراطية، هو اختلال التداخل في الصلاحيات والأدوار، حيث تقوم سلطة بمهام سلطة أخرى، أو يقوم فاعل بأدوار فاعل آخر، ومن أبرز مظاهر هذا الاختلال،  ما يمكن أن نسمّيه  بـ "أوسطة السياسة  " (La médiatisation de la politique)إن صحت العبارة، حيث تصبح الحياة السياسية، عبارة عن مسرح من الفرجة والتشويق والتهويل، تلعلع أحيانا في سمائه مفرقعات إعلامية تحاول أن تقوم مقام الحوار السياسي الهادف، المتحضر والبنّاء، بشكل مؤسس على انطباعات شخصية، ومحكوم غالبا بعلاقات تجارية وربحية،  مكانه منصات الوسائل الإعلامية، والوسائط التواصلية.

 

فبدل مناقشة السياسات العمومية، والحسم في الاختيارات الاستراتيجية، من داخل الأجهزة والمؤسسات الشرعية، تصبح افتتاحيات بعض الجرائد، مجالا للتعبير عن التجاذبات بين الأغلبية والمعارضة، وتنصب هذه الجرائد نفسها، فاعلا سياسيا معارضا، وهو الوضع الذي عرفه المغرب منذ حكومة التناوب التوافقي، حيث تميز المشهد الصحافي خلال تلك الفترة، بظهور صحافة معارضة، أو صحافة تتجاوز مهامها وأدوارها، لتترامى على أدوار إطارات سياسية متموقعة في موقع المعارضة، أجل اختفت تلك اليوميات والأسبوعيات، لكنها خلّفت وراءها ثقافة صحافية، أدت إلى ميلاد بعض المواقع والجرائد التي سارت على نفس الدرب.

 

والحقيقة أن ممارسة السياسة حق لجميع المواطنين، فعوض استغلال منصات إعلامية، من المفروض أن تتميز بالاستقلالية، وبأخذ مسافة واحدة من جميع الفاعلين، لتصريف مواقف سياسية، في إطار معارضة منهجية، باسم ممارسة سلطة التتبع والنقد، كان على هؤلاء الصحافيين، وخاصة منهم أولئك الفاعلين السياسيين الذين غيّبهم الفشل والإحباط عن الساحة السياسية، أن يلتحقوا بأحزاب المعارضة، أو أن يؤسسوا أحزابا لتكون قنوات شرعية لتصريف مواقفهم.

 

هذه الظاهرة، أو مظهر الاختلال هذا، ليس حكرا على الديمقراطيات النامية، بل هو من أهم معيقات الممارسة السياسية الديمقراطية، حتى في أقدم الديمقراطيات في العالم، فبعض التروتسكيين الفرنسيين مثلا، هم اليوم صحافيون معروفون في منابر إعلامية فرنسية، لا شغل لهم إلا تصفية الحسابات وإفراز الأحقاد دون تقصي للحقائق.

 

فلا يمكن أبدا الحديث عن حياة سياسية ديمقراطية، دون الحديث عن فاعلين معلومين، وعن أدوارهم الواضحة، سواء أحزابا سياسية (أغلبية ومعارضة)، أو نقابات، أو مؤسسات للحكامة، أو وسائل الإعلام، ومع ذلك فإن العلاقة بين السياسي والإعلامي، ستبقى دائما علاقة جدلية ومتوترة، لكن يجب أن تبقى في إطار مؤسس على  احترام الاختصاصات  والأدوار.