الجمعة 29 مارس 2024
سياسة

المخرج أقصايب: لولا الجيش لما تحقق النقل التلفزي المباشر للمسيرة الخضراء

المخرج أقصايب: لولا الجيش لما تحقق النقل التلفزي المباشر للمسيرة الخضراء المخرج الراحل اقصايب مع مشهد من المسيرة الخضراء

يصف الزميل الراحل محمد أقصايب، مخرج بالتلفزة المغربية، (انتقل إلى جوار ربه 6 أبريل 2016)، الإسهام الذي قامت به القوات المسلحة الملكية لتسهيل مهمة النقل التلفزي للمسيرة الخضراء، وكيف أمنت هذه القوات دقة التنظيم وقامت بتدبير اللوجستيك والتموين:

+ كنت رفقة الفريق التلفزي الذي تولى تغطية المسيرة الخضراء بالصحراء، هل يمكن أن تحدثنا عن السياق الذي توجهتم فيه كفريق إلى طرفاية؟

- قبل أن نذهب إلى طرفاية، أعطيت الأوامر من طرف الإدارة إلى وحدتين متنقلتين للتوجه إلى مراكش يوم 14 أكتوبر 1975. الوحدة الأولى ـالتي كنت أنتمي إليهاـ توجهت نحو القصر الملكي بمراكش، بينما توجهت الوحدة الثانية إلى الحارثي. الوحدة الأولى كانت مهمتها التكفل بالندوات الصحفية للمرحوم الحسن الثاني، أما الوحدة الثانية فتولت نقل آراء المواطنين وتغطية الندوات والموائد المستديرة حول المسيرة.

ويوم 16 أكتوبر 1975، موعد الخطاب الملكي الشهير، دخلنا للقصر الملكي بمراكش وكان الحضور كبيرا جدا للصحافيين من مختلف الدول ومن مختلف القنوات، خاصة من طرف الإسبان الذين كان حضورهم لافتا. وكان الترقب سيد الميدان بالنظر إلى الأجواء المشحونة آنذاك في سماء المحيط الإقليمي والتعطش لمعرفة حكم المحكمة الدولية بلاهاي، وهل ستقول بأن هناك روابط بيعة بين الصحراء والملوك أم العكس، ومن ثم كان الجميع متلهفا لسماع خطاب الملك الراحل لمعرفة هل سيعلن الحرب على إسبانيا أم لا. ومما علق بذاكرتي، أن صحافيا فرنسيا قال لنا ونحن داخل القصر: «إذا أطل الحسن الثاني بلباس عسكري، فإنه سيعلن الحرب. وإذا أطل بلباس مدني فسيكون العكس.» فإذا بالحسن الثاني يطل بلباسه الأنيق كعادته معلنا في خطابه عن المسيرة الخضراء. وفي انتظار الترجمة الرسمية للخطاب الملكي تطوع مجموعة من الصحافيين المغاربة الذين يتقنون اللغات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية بترجمة مضمون الخطاب للزملاء الأجانب.

وفي الغد أعطيت التعليمات لتبقى وحدتنا المتنقلة مرابطة بالقصر الملكي بمراكش لمواكبة أنشطة الملك الصحفية. وهنا تحضرني إحدى الطرائف مع جلالته. إذ حينما أنهينا تغطية حواره مع جريدة إسبانية يوم 17 أكتوبر على ما أظن، ولما رغبنا في المغادرة خاطبنا الحسن الثاني رحمة الله عليه بلباقة ضاحكا: «واملين التلفزيون بلا ما تخرجو الماتريال ديالكم وتتعذبو، راه جميع الخطب واللقاءات ديالي غادي نديرها هنا في القصر داخل هذه القاعة خليو داك الشي ديالكم هنا، راه في الأمان». وأجبناه «نعم سيدي» وفعلا تركنا كل معداتنا التي واكبنا بها الأنشطة داخل القصر.

+ كم مكثتم بالقصر الملكي بمراكش؟

- بقينا في مهمتنا إلى أواخر أكتوبر تقريبا، بعد ذلك انتقلنا إلى أكادير لما ذهب جلالته إلى هناك. وآنذاك ارتفعت حرارة الأحداث ليس بالمغرب وحده، بل في العالم كله. إذ لأول مرة يعيش العالم حدثا ضخما من هذا القبيل. فالصحافيون من كل البقاع لم يتخيلوا أن يعيشوا حدث تعبئة 350 ألف شخص في مسيرة سلمية، مما جعل كل القنوات والصحف من مختلف البقاع كلها ترسل وفودها. في هذا الجو كنا كفريق تلفزي سعداء فعلا بحظوة تغطية هذا الحدث، لدرجة أننا لم نكن نبالي لا أين سننام ولا ماذا سنأكل. فالحدث كان ملحمة تاريخية بامتياز. في هذه الأثناء قررت إدارة التلفزيون الإبقاء على وحدة متنقلة للتلفزة بأكادير، فيما أعطيت الأوامر لتتوجه وحدة متنقلة إلى طرفاية. وبأكادير بقي المدير العام عبد اللطيف خالص، فيما ذهب إلى طرفاية نائب مدير التلفزيون قويدر بناني.

+ وأين توجهت أنت؟

- توجهت إلى طرفاية ضمن فريق يتكون من المرحوم المخرج محمد بوجنة وعبد الرزاق بركاش وبنعيسى الريفي ومشوق أيوب وإبراهيم، فضلا عن عدد آخر من الزملاء. وأذكر أنه لما كنا متوجهين إلى طرفاية كانت القوافل طويلة والتنظيم محكما من طرف رجال الدرك والأمن فضلا عن الأجواء الاحتفالية التي كانت تصاحب القوافل. لدرجة أنه لما وصلنا إلى هناك جاء عندنا صحافي أمريكي مذهولا، وقال لنا إنه لم يكن يتصور عقلا بشريا قادرا علي تسيير أمواج ضخمة من البشر فاقت 350 ألف متطوع. وأضاف: «شاهدت فيلم الإنزال الأمريكي في نورماندي بفرنسا، لكن ما أراه في المسيرة الخضراء لن يقوى على تصويره أكبر السينمائيين».

+ لما استقر بكم الحال بطرفاية، كيف كنتم تؤمنون البث، علما بأن طرفاية لم تكن تتوفر آنذاك على التجهيزات اللازمة؟

- لم يكن البث المباشر موجودا آنذاك، وكان المسؤول عن إذاعة طرفاية المحلية هو المرحوم محمد جاد. ولم يكن بالإذاعة المحلية سوى استوديو صغير بكامرتين بالأبيض والأسود. لكن الدور الكبير الذي قامت به القوات المسلحة الملكية لتأمين وصول الأشرطة الخاصة بالروبورطاجات والحوارات وتغطية أجواء المسيرة بطرفاية كان حاسما. ومن خلال جريدتكم أود أن أحيي مصالح الجيش الملكي التي ساعدتنا كثيرا على ذلك، لدرجة أنه لولا القوات المسلحة الملكية لما تحقق «البث المباشر» ليستمتع المغاربة والعالم بمشاهد حية للمسيرة. فحينما كنا نصور كنا نسرع لحمل الأشرطة إلى طائرة عسكرية بطرفاية لينقلها الطيار العسكري إلى مطار أكادير، ومن هناك تنقلها القوات المسلحة الملكية إلى القاعدة الجوية العسكرية بسلا ليتسلمها زملاؤنا بالرباط قصد حملها إلى التلفزيون لبثها. وكانت هذه العملية تتم على مدار اليوم، أي 24 ساعة على 24 ساعة. وساعد على دقة التنظيم وسير التعاون بين التلفزة ومصالح الجيش أن مديرنا المهندس قويدر بناني هو أخ الجنيرال عبد العزيز بناني المفتش الحالي للجيش، لأن الجنيرال بناني كان من بين الضباط الكبار الذين اختارهم الملك الحسن الثاني لينفذوا تعليماته حول المسيرة الخضراء، إلى جانب الجنيرال زياتي وآخرين.

+ لما أعطى الحسن الثاني إشارة الانطلاق يوم 6 نونبر 1975 لاختراق الحدود الوهمية. أين كنتم وبماذا قمتم؟

- في تلك اللحظة أمسك مديرنا قويدر بزمام الأمور ووزع الأدوار على كل مسؤول بالفريق التلفزي لتوثيق هذه اللحظة التاريخية الكبرى. ومن حسن حظي أن قويدر كلفني رفقة المرحوم المخرج بوجنة بلوجستيك الأشرطة والروبورطاجات، مما جعلنا نكون في طليعة المشهد وفي مقدمة المسيرة (يتوقف بعدما اغرورقت عيناه بالدموع بعد تذكر هذه اللحظات) ولا أخفيك أني شعرت بإحساس غريب وأنا أرى تدفق الآلاف من المغاربة يحملون القرآن ويرددون «الله أكبر». إذ مهما كانت تركيبة الإنسان فإني أقسم بأن يتعرض المرء للذوبان وهو يرى ما رأيت من مشاهد عالية في الوطنية لمغاربة يزحفون دون أن يفكر أحد منهم لحظة ما أن الجيش الإسباني قد يطلق النار.

+ قلت إن الجيش الملكي هو الذي أمن للمغاربة الاستمتاع ببث ما أنجز من عمل تلفزي حول المسيرة عبر الرحلات المكوكية للطائرات العسكرية من طرفاية إلى سلا. لكن أنى للجيش ذلك ونحن نعلم أن طرفاية مدفونة في الرمال ولا تتوفر حتى على الماء آنذاك فأحرى على مطار؟

- هذا بالذات ما جعلني أحيي دور القوات المسلحة الملكية، إذ في رمشة عين تمت تهيئة أرضية لتقف فوقها الطائرات، صحيح ليست أرضية مطار دولي، ولكن كانت تفي بالغرض، وهذا ما يهمنا نحن آنذاك. أضف إلى ذلك حكاية عشتها أثناء المسيرة، لأننا كفريق تلفزي ربطنا صداقات مع رجال الدرك والجنود ورجال السلطة، وكنا نتقاسم نفس الهم. ذلك أنه في إحدى الليالي كانت الرؤية جد ضعيفة بسبب الزوابع وصعوبة الهبوط، وكانت طائرة عسكرية من نوع C130 محملة بالمؤن تود النزول، وابتكر أحد الضباط فكرة لتسهيل الأمر على الربان عبر جمع كل سيارات الدرك الملكي وأمرها باستعمال الأضواء (gyrophare) وأوقف صفا من سيارات الدرك على هذا الجانب وصفا على الجانب الآخر على امتداد البصر بطول مسافة تفوق الكيلومترين، وبهذه الطريقة توفرت الرؤية نسبيا للربان وحط بطائرته بسلام. نفس الأمر عشناه لما جاءت باخرة محملة بالبطاطس، لكن هيجان البحر وغياب مرفأ آمن دفع القوات الجوية الملكية إلى التدخل عبر ربط جسر جوي بين المخيمات والسفينة التي ظلت قرب سواحل طرفاية إلى أن تم إفراغها كلية من طرف الجيش، وهي العملية التي أطلق عليها آنذاك «سويمينغ».

+ كم من شريط أنجزتم؟

- بالآلاف، وكنا نشتغل بأشرطة 16 ميلمتر وبواسطة كاميرات «ليكلير» و«لاريفليكس»، حيث تنجر الصوت بشريط والصورة بشريط آخر.

(أرشبف  أسبوعية "الوطن الآن")