السبت 20 إبريل 2024
منبر أنفاس

عزيز لعويسي: الصحافة ورهان "التخـصص"

عزيز لعويسي: الصحافة ورهان "التخـصص" عزيز لعويسي

تضطلع الصحافة بكل أنواعها (مرئية، سمعية، ورقية، إلكترونية) بأدوار ووظائف متعددة المستويات (إخبارية، تثقيفية، توعوية، تحسيسية، تأطيرية...) تجعل منها سلطة رابعة تجد موقع قدم لها ضمن السلط الكلاسيكية الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية)  لها من الآليات والوسائل الصحفية ما يجعلها قادرة على إحداث التغيير المجتمعي، ليس فقط عبر نشر الأخبار والمعلومات ووضعها تحت تصرف عموم الناس، بل أيضا من خلال قدرتها على التأثير في الرأي العام وجعل المواطن متفاعلا باستمرار مع ما يعرفه المجتمع من تحولات ومتغيرات سياسية ومؤسساتية واقتصادية واجتماعية وتربوية وقضائية وأمنية وغيرها، وهذه القدرة تتطلب ليس فقط التوفر على إعلامي أو صحفي حر ونزيه يحترم أخلاقيات المهنة ويلتزم بالتشريعات التي تؤطر مجال الصحافة والنشر، بل أيضا القطع مع الإعلامي أو الصحفي "العام" (Polyvalent) الذي يتجرأ على كل المواضيع والقضايا و التخصصات ويكتب في "كل شيء" ويفهم في كل "شيء"، مدفوعا بالرغبة في الحصول على الخبر أو المعلومة التي تعتبر "عصب" العمل الصحفي وبدونها تفقد الصحافة قيمتها وقوتها التأثيرية كسلطة رابعة، وهذا التوجه قد يجعل العمل الصحفي أو على الأقل بعض الأعمال الصحفية تسقط في "العمومية" أو "الضبابية" أو "الارتجال" أو "الهفوات"...

حتى تتضح الصورة، واستثناء لبعض المنابر الصحفية المتخصصة (الاقتصاد، الأمن، التربية والتكوين، الرياضة...)، وكذا بعض التخصصات الصحفية ذات الطبيعة التقنية، يمكن تصور حالة صحفي حاصل على إجازة أو ماستر  في  الأدب العربي أسندت له مهمة مواكبة وتتبع قضية جارية على مستوى القضاء، وهو غير ملم بالإجراءات وطرق سير الدعوى والتنظيم القضائي (اختصاص المحاكم)، أو صحفي صاحب إجازة أو ماستر في الدراسات الإسلامية يتتبع قضية معروضة على الشرطة القضائية وهو لا يعرف البحث التلبسي والبحث التمهيدي، بل لا يميز بين "ضابط شرطة قضائية" و"ضابط أمن"، أو صحفي موجز في التاريخ والحضارة يتحرى بشأن قضية قضائية جارية حول شركة في طور التصفية القضائية، وهو يجهل جملة وتفصيلا مراحل صعوبات المقاولة وأبجديات قانون الشركات وغير ذلك... في هذه الحالات وغيرها لا نطلب من الصحفي أن يكون قاضيا أو شرطيا أو متخصصا في صعوبات المقاولة وقانون الشركات، لكن في نفس الآن ليس بمقدوره أن يكون ملما بهذه المهن والتخصصات وغيرها، فقد ينجح في الحصول على المعلومة إما عبر القنوات الرسمية أو عبر مصادر الخبر، لكن، وفي ظل قصور الرؤية المعرفية، قد يكون المنتوج الصحفي معيبا من ناحية الحرفية والدقة والوقوع في بعض الهفوات غير المقبولة، كمن يبحث في قضية جارية لدى الشرطة ويتكلم عن "ضابط أمن" بينما المقصود هو "ضابط شرطة قضائية " أو كمن يكتب في قضية ضرائب وهو لا يستطيع التمييز حتى بين "الرسم" و"الضريبة".

في هذا الصدد وتجويدا للعمل الصحفي والارتقاء به، أضحى من الضروري على معاهد تكوين الصحافة والإعلام والجامعات تعزيز الاهتمام بالتخصص الصحفي -مثلا- تكوين صحفيين متخصصين في قضايا الأمن والإرهاب، أو قانون المال والأعمال، أو قضايا الضرائب، أو قضايا البورصة، أو قضايا البيئة والمناخ، أو قضايا التنمية أو قضايا التربية والتكوين أو العلوم السياسية وغيرها، لأن كل مجال تخصصي إلا وله قاموسه ومفرداته ومفاهيمه الخاصة، وكلما اتجه الصحفي نحو "التخصص" كلما أحاط بتفاصيل مادته الصحفية وشملها بما يكفي من الحرفية والمهنية حرصا على احترام "المتلقي" وكسب ثقته و ضمان إخلاصه وتتبعه، وكلما اتجه نحو "العام" كلما كانت إمكانية الخطأ واردة، فلا يعقل أن تتجه قطاعات حيوية نحو "التخصص" منذ مدة لتجويد عملها، كقطاع القضاء -مثلا- (قضاء الأحداث، محاكم ابتدائية زجرية، محاكم تجارية، محاكم إدارية، محاكم مالية، قسم قضاء الأسرة... إلخ) وقطاع الأمن الوطني (فرقة وطنية للشرطة القضائية، مصالح ولائية للشرطة القضائية، فرق الشرطة القضائية، دوائر الشرطة، فرق جنائية، الاستعلامات العامة، شرطة السير والجولان، شرطة الدراجين" الصقور"، شرطة الخيالة، خلايا العنف ضد النساء، فرق الأحداث ، فرق محاربة المخدرات، مسرح الجريمة، الفرق الاقتصادية والمالية، الأمن المدرسي...إلخ)، بينما مازلنا نجد بعض الصحفيين يكتبون في جميع التخصصات الشرطية من جرائم مالية واقتصادية وقضايا الإرهاب وتبييض الأموال وجرائم الأحداث والعنف ضد النساء والأمن المعلوماتي وأمن الموانئ وأمن المطارات وغيرها من الجرائم التي يستدعي التعامل معها نوعا من التخصص (الإرهاب، الجرائم المعلوماتية، الجرائم المالية...).

الحديث عن "التخصص" في حقل الصحافة ، لابد أن يأخذ ما يستحقه من عناية واعتبار من قبل المعاهد المتخصصة في التكوين الصحفي سواء كانت عمومية (المعهد العالي للإعلام والاتصال) أو خصوصية، والتفكير في فتح إجازات وماسترات متخصصة في بعض الحقول المعرفية كالصحافة الإلكترونية، الصحافة المالية، الصحافة الرياضية، صحافة البورصة، وصحافة  قضايا الأمن والإرهاب، صحافة العلاقات الدولية والعلوم السياسية، صحافة التنمية والبيئة، صحافة الآثار والتراث، صحافة الهجرة، صحافة الإجرام، صحافة التربية والتكوين وصحافة الأحداث وغيرها... وفي هذا الصــدد من الضروري الإشارة إلى تجربـة "الإجازة المهنية في الصحافة القانونية والاقتصادية" التي تؤثث الهندسة البيداغوجية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، والمفتوحة أمام الطلبة الحاصلين على "شهادة الدراسات الجامعية العامة" في القانون والاقتصاد وتخصصات أخرى كعلم الاجتماع والإعلام وغيرها، وهذه التجربة التي دخلت موسمها الثالث، من شأنها الإسهام في تكريس التخصص الصحفي في المجال القانوني والاقتصادي، حيث تقدم للطالب مجموعة من الوحدات الدراسية منها مثلا ما يرتبط بالعمل الصحفي مثل "تقنيات الكتابة الصحفية" و"الأجناس الصحفية" و"اقتصاد الإعلام"، ومنها ما يقوي الجانب القانوني والسياسي للطالب مثل "مدخل إلى علوم التواصل السياسي" و"قضايا دولية معاصرة" و"الفاعلون والمؤسسات السياسية بالمغرب" (برنامج السداسية الخامسة)، وهي تجربة تستحق المزيد من التشجيع والدعم والتطوير الكفيل بتكوين صحفيين متخصصين في المادة القانونية والاقتصادية، والتفكير في إيلاء التكوين الصحفي المزيد من الاهتمام من خلال التفكير في فتح ماستر مهني متخصص في الصحافة القانونية والاقتصادية وغيرها، في وقت يجري فيه الحديث عن إصلاح الجامعة وجعل التكوين الجامعي في خدمة التكوين المهني وعبره سوق الشغل.

صفوة القول، لابد من الإقرار أن العمل الصحفي هو بحث عن المعلومة و وضعها تحت تصرف جمهور الناس، وفي نفس الآن هو "صناعة" تتطلب شروط 'الحرفية" و"المهنية" و"الدقة'' احتراما للزبون/ المتلقي، وجعله في صلب التحول السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي والأمني والتربوي... إلخ، واحترام الزبون/ المتلقي، يمر حتما من الإيمان بـ "التخصص" وجعله قناة لا محيدة عنها للارتقـاء بالعمل الصحفي بشكل يجعل من مهنة الصحافـة، "سلطة رابعة" حقيقيـة" ملتزمة بأخلاقيات المهنة ومحترمة لمقتضيات التشريع الصحفي، مؤثرة في واقعها ومساهمة في تحقيـق التنمية الشاملة، لذلك يبقى "التخصص" رهانا أساسيا أمام مختلف المتدخلين في الحقل الإعلامي، وربح هذا الرهان هو ربـح للجودة وإقصاء لكل مفردات العشوائية والارتجال ...

- عزيز لعويسي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي، باحث في القانون وقضايا الأمن والتربية والتكوين