يؤكد علماء الآثار أن ثمة ثلاثة دلائل كشفت وجود الإنسان، أولا دليل الدين : شعائر الموتى ،دليل الثقافة : كاللغة والنحت، دليل التقنية : الأداة ....
إذا ما تمعنا في هذه الدلائل سنجد أن التقنية من بين المكونات التي تلازم الوجود البشري في الزمان و المكان . و هي التي تمثيل الجانب التقني فيه و الذي يميزه على باقي الكائنات الأخرى... و التقنية تمثيل رغبة الإنسان في تطويع و ترويض الطبيعة كمغامرة وجودية و الحد من هالتها : و ذلك من خلال إيجاد سبل لسد النواقص التي محنتها الطبيعة له ، و بالتالي فالدور الأساسي للتقنية هو رغبة الإنسان في مواجهة الطبيعة التي كان في السابق يجعل منها إلها حيث أله جل مكوناتها كالنار و الشمس والقمر والكواكب ... ففي هذا الآن و الهنا أصبح الانسان قادرا على مواجهة الطبيعة وتسخيرها له و ذلك من خلال استناده على العقل ومشتقاته ك الفلسفة والعلم . و بالتالي فالتقنية هي الجانب التطبيقي لخلاصات العلوم بما هي انعطافات مفصلية في تاريخ تطور الانسان . و بها اصبح قادرا على فتح حوار مع الطبيعة و مفاوضة أهم مقوماتها . إذا كانت التقنية تأسست على هذه الغاية الانطولوجية فما هي تداعيات تطور التقنية و تأثيرها على جوانب اخرى من الوجود الانساني ؟
هناك عدد كبير من الباحثين و العلماء و الفلاسفة ثمنوا أهمية التقنية التي منحوها مكانة رفيعة في تاريخ الإنسانية . و تربع على عرش هؤلاء عالم الاجتماع الألماني " ماكس فيبر" الذي يرى ان التقنية أعادت الانسان الى الصواب ، فانتزعته من سحر الأساطير القديمة . لم نعد نلتقي السيكلوب (العملاق الأسطوري) أو الحوريات عند منعطفات الطرق ، وما نجده تحت نظرنا الآن وفي كل مكان ، هو أعمدة البرق والماكينات والأبنية المصنوعة من الباطون ، زخارف تقنية لم تترك مكانا للشاعرية . وإذ وحدت التقنية جميع أشكال الثقافة ، أصبحنا نجد الأشياء ذاتها ، من مطار إلى مطار، ونكاد نجد الآن الناس ذاتهم ، لأن التقنية سوت الخاصيات هذا كان يتلاءم مع مشروعه الكبير المتمثل في نزع السحر و القداسة عن العالم , من خلال قدرة الإنسان على إصاخة السمع للعقل و العلوم و الابتعاد عن البنية الخرافية التي لازمت الانسان سنوات طوال، و تعويضها بتمثل يتأسس على الخلاصات العلمية و الفلسفية التي من شأنها ان تغير نظرتنا الى الذات و للمجتمع و من تم الى الطبيعة و الكون ...الى جانب هذه المواقف التي تثني على التقنية كتطور حصل في تاريخ البشرية نجد تصورات أخرى تذهب في اتجاه تقويض قيمة التقنية التي تعتبر في نظرهم آلية لقتل إنسانية الإنسان و تنميطه في بعد واحد ...
من بين هذه التصورات نجد الانثروبولوجي الفرنسي "كلود ليفي ستراوش" الذي يرى أن التقنية تساهم في إذلال البدائيين وهدم ثقافاتهم على نحو يتعذر إصلاحه , وذلك واحتكاكها أي ان لتقنية القدرة على طمس الثقافات المحلية أو ما تسمى بالبدائية . و بالتالي يجوز لنا ان نعتبر التقنية والاختراعات استعمارا بصيغة جديدة او استلاب ثقافي و هوياتي بالمعنى "الماركسي" و هذا يتجلى بشكل واضح في أهداف العولمة التي تحاول جاهدا إلى انكماش العالم وتحويله إلى قرية صغيرة ؛ وذلك من خلال اعتماد آليات السوق و الهيمنة على جل أنساقه . إن الاتنولوجيا تعلم أنه عندما تتقدم التقنية الحديثة تضيع التقنيات القديمة وتتفكك الأعراف ، وتبتذل العادات ولا يبقى للمدنية المحلية إلا أن تدمج أو تستسلم للانهيار...
هذا النقد تبلور بشكل واضح مع جهود رواد "مدرسة فرانكفورت" من خلال اجتهاداتهم وأبحاثهم الفلسفية خاصة المفكران "أدورنو" و "هوركيمر"؛ صاحبا العمل الذي نقل الى الفرنسية باسم "ديالكتيك العقل " يعتقدان أيضا أن العقل التقني، بعد أن ساهم في تحرير البشرية ، هو في طريقه إلى أن يصبح هو ذاته أسطورة والى أن يخمد جميع الامكانيات البشرية و الاستسلام إلى التقنية التي تأسست كوسيلة و ليست كغاية قادرة ان تثور في وجه الانسان كما لها القدرة ان تنميطه في بعد واحد، و القضاء على باقي ابعاده الاخرى كما يؤكد "هربرت ماركوز" في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد"
إلى جانب هذه التصورات هناك المقاربة البيولوجية والطبية التي تؤكد على قدرة التقنية على تهديد الانسان بعدد كبير من الأمراض العضوية من خلال فرط استعمالها كما تؤكد الدراسات و كذا المنظمة العالمية للصحة . رغم اهمية هذه المقاربة إلا أننا حاولنا ان نتوقف عند التصورات التي تربط التقنية المستويين الاجتماعي والثقافي ...
قمنا باطلالة بسيطة على بعض التصورات الفلسفية والعلمية التي تيسر لنا عملية فهم التقنية و استعمالاتنا الاجتماعية والثقافية لها . و كذا تأسيس محاولة لفهم ما وقع في كأس العالم روسيا 2018 من خلال إيضاح تأثير الثقافة والمجتمع على استعمال التقنية فهذه النسخة من كأس العالم تم إضافة تقنية "الفار" و كما شهدنا مباراة المنتخب المغربي الذي واجه المنتخب الاسباني ضمن الجولة الثالثة من دور المجموعات ؛ شاهدنا ان ثمة أخطاء تحكيمية وهذا ليس عيبا مادامت الأخطاء قانون من القوانين التي تحكم كرة القدم، و بعد من أبعادها التشويقية. لكن العيب هو عدم استفادة المنتخب المغربي من تقنية " الفار" في المواجهات الثلاثة ضد ايران و البرتغال رغم أن كل شروط استخدام التقنية توفرت .
هذا جعل عدد كبير من المتتبعين يؤكدون على أن استعمالاتنا لهذه التقنية أبانت عن ظلم كبير للمنتخبات التي تمثل الدول الضعيفة على المستوى الاقتصادي و السياسي و العسكري أيضا ...
هل التقنية تؤكد بشكل من الأشكال استعمارا جديدا ؟ من خلال السعي إلى إضعاف البلدان المنتمية إلى العالم الثالث ذات الثقافة البدائية كما يعتبرونها. هل من الضروري ان يكون البلد قوي اقتصاديا و سياسيا حتى يستفيد من تقنية " الفار"؟ أليست هذه التقنية تؤكد عدم التزام الحياد و استتباب قيم المساواة والإنصاف بين البلدان ؟ ألم تكرس هذه القنية التفاوتات بين بلدان العالم باسم الديمقراطية و حقوق الإنسان ؟ ألم تعيد هذه التقنية النظرة الدونية للبلدان الغير أوروبية ؟ أليست الكرة رياضة غايتها خلق التسامح بين الشعوب و ليست بعد من أبعاد الاحتقار والاستصغار ؟ ألم تؤكد هذه التقنية أن نظرة الذات للأخر مازالت تعتمد الاحتقار ؟ ألم يؤكد "الفار" أن العقل الأوروبي و الأمريكي مركز والباقي هامش ؟ ألم يؤكد استعمال تقنية الفار النظرة الكولونيالية التي يعتمدها العقل الغربي عموما ؟
هذا ما جعل عدد كبير يقولون “اذا اردت ان تستفيد من الفار عليك ان تكون من الدول الكبار..
على سبيل الختام نؤكد على أن التقنية تمثيل أحد أهم المغامرات الوجودية التي يقوم بها الانسان من اجل الحد من التصور الكوسمولوجي القديم و تعويضه بتصور يعطي للإنسان مكانة القوة والقدرة على مفاوضة أهم مقومات الطبيعة و تسخيرها له . لكن هذا الامر له تداعيات اجتماعية و ثقافية كأن نجعل التقنية وسيلة لخدمة ثقافة على حساب أخرى و تكريس النظرة الكولونيالية ببراديغم جديد . وبالتالي فالتقنية ليست معزولة عن الاجتماعي و الثقافي و الحضاري الذي يشكل الخلفية الأساسية التي تحكم استعمالنا لتقنية ...
: