انشطر الرأي حـــول منح بوب ديلان جائزة نوبل للآداب هذا العام. فمن قائل ـ وهو ماريو بارغاس يوسا ـ إن ديلان ليس كاتباً كبيراً، وإن الأكاديمية قد ارتكبت خطأ. ومـــن قائل آخر ـ وهو أمير طاهري ـ إن جائزة نوبل تخلط بيـــن الأجناس الفنية، وهي تَعْلم أن ديـــلان لا ينتمي إلى النوع نفسه الذي ينتمي إليه الشاعر السويديّ توماس ترانسرومر الذي حصـــل على الجائزة عام 2011. يُنهي طاهري كلمته بأبياتٍ فكاهية يُذَكِّر فيها ديلان بأنه رجل «دو ري مي» وليس شاعراً. عربيا.
كان الانشطار قوياً كذلك، فمن مرحّب زاعم أن «أشعار» ديلان المُغنّاة لا تقل إصالة عن أّيّ شعر آخر، ومن قائل أنْ لا قيمة لها قطّ من دون أدائه، ومن مُذكِّر بمواقفه المؤيدة لإسرائيل، وآخر متجاهل لها، مُخفِّف منها. لكن أكثر المواقف استرعاءً للانتباه صدرت من بعض الشعراء العرب الذين اعتقدوا قبل حصول المغنّي الأميركي على الجائزة، بأن الشعر صنعة لغوية عقّدتها، أيّما تعقيد، النصوصُ الشعرية المعاصرة وحوَّلتها إلى نوع من الأحاجي، وأنه اكتشف فجأة أن الشعر يعود مع ديلان إلى أصله الموسيقيّ.
كان مُجدياً، في ذلك السياق، أن يُستحضَر بالأحرى، المغني الفرنسيّ، من أصل بلجيكيّ/ فلامنكيّ، جاك بريل، الذي لا يمكن وضعه فحسب بين كتاب «أشعار الأغاني» المؤدّاة بطريقة رفيعة، مؤثرة على عواطف ومفاهيم مختلف الفئات، بل وضعه بثقة بين الشعراء البارعين، حتى لا نقول الكبار، رغم صعوبة ترجمة «شعره» إلى العربية، مثل كثير من الشعراء الفرنسيين. أعمال بريل صدرت بالفرنسية تحت عنوان «الأعمال الكاملة» مثله مثل أي شاعر مُعترَف به، وهو أمر لا يفعله الفرنسيون بدون رويّة. بريل بالأحرى يستحق الجائزة، لو كان حياً، ولو كان صحيحاً أن اقتران الشعر، والشعر الجيد خاصةً، بالموسيقى قد استعيد التذكير به ومُنِح حقه.
هل يتعارض فنّ الغناء مع عمق الشعر وأصالته؟ مثال بريل يجيب خير إجابة على السؤال. وقبل ذلك «كتاب الأغاني» للأصفهاني. إذ عندما نعيد قراءة الكتاب نجد أنه موضوعٌ عن أصل «الألحان» التي كانت تُغنّى في زمانــــه، والأزمان الأموية السابقة، وحتى تلك المنــسوبة إلى فترة الخلافة، ويعــــالج طرق الغناء، وبمناسبتها كان المؤلف يستطرد في سرد الحوادث والوقائع والسير. الألحان كانت ذريعة للسرد التاريخيّ.
لكن هل كانت الأشعار المُغنّاة التي يوردها الأصفهاني، تشِيْ بمعنى «كلمات الأغاني» كما قد تُفهم اليوم في الشرق والغرب على حدّ سواء؟
كلا، فما عدا مُقطّعات ومجزوءات يشعر المرء بأنها مكتوبة بالأصل لكي تُغنّى، بسبب أوزانها السهلة ومفرداتها السلسة، فإن جُلّ «أغاني» الأصفهانيّ هو من أمهات الشعر العربيّ وفخمه وجميله، المثقل بالدلالات والإحالات. من السهل العودة إلى تلك «الأصوات» التي تستند إلى «نصوص صعبة» نسبياً لكبار شعراء العربية: لا برهان أن الغناء موصول بالضرورة بالخفة الشعرية.
وجهة النظر المطروحة هنا تزعم أن «أشعار» ديلان المُغناة، قد لا ترقى إلى نصوص أغاني جاك بريل، ولا إلى أشعار كتاب الأغاني، على سبيل المثال المأخوذ من زمنين متباعدين، من أجل الحجّة. وإذا شئنا الاستطراد والاستشهاد بحاضر العالم العربي، نعرف أن ملحنين ومغنين معروفين نجحوا، في إداء نصوص شعرية عالية المستوى، نجاحاً مرفوقاً بتقبُّلٍ جماهيريّ واسع لها.