الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الصادق العثماني: الأمة المغربية والمدرسة الفقهية المالكية

الصادق العثماني: الأمة المغربية والمدرسة الفقهية المالكية

لقد تميز المغرب مبكرا باستقلال شخصيته ونزوعه إلى الحرية والاستقلالية في الرأي والعقيدة والمذهب.. فلم تنل منه الأطماع السياسية والاقتصادية على عهد الرومان أو الوندال، أو البيزنطيين أوالفينيقيين إلا التحدي وتكسير شوكة الهيمنة والاستبداد لهذه الدول التي تعاقبت في حكمه قبل مجيء الإسلام، حتى إذا جاء نوره وأشرق على هذه البلاد من إفريقيا، وخالطت ببشاشته قلوب بنيه انفتحت صدور المغاربة للترحاب لهذا الدين العظيم، الذي نقى سرائرهم من حبال التفرقة والشعوبية والعنصرية والطائفية، فتوحدوا تحت ظلال القرآن ونور الإسلام، تبعتها وحدتهم السياسة، ثم الجغرافية، ثم المذهبية، فالمغاربة اقتنعوا بضرورة وحدة المذهب خوفا من الوقوع في الابتداع من جهة؛ أو تسرب التفرقة من جهة أخرى بسبب المذاهب المتعددة، والمدارس الكلامية المختلفة، ولهذا اختاروا المدرسة الفقهية للإمام مالك بن أنس رحمه الله، إمام دار الهجرة عن طواعية واختيار.

ولد إمامنا مالك بالمدينة المنورة على الأصح سنة93 هجرية، وتوفي بها سنة 179، ولم يغادرها إلا حاجا إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة؛ ففي المدينة كان منشأه ومرباه، وفيها كان تعلمه وتعليمه، وهذا دليل كاف على محبته لهذه البقعة الطيبة، وكيف لا، وهي تحتضن رفات أفضل البشر وخير الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

برز هذا الفتى سليل "ذي أصبح " أحد ملوك قبيلة سرو حمير، فصال وجال وتحدى أقرانه حتى قيل في حقه: " لا يفتى ومالك بالمدينة".. ويقول عن نفسه رضي الله عنه: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون محنكا أني أهل لذلك"، وكان رضي الله عنه لا يمتطي في المدينة ظهر دابة تكريما للتربة الطيبة الطاهرة التي داستها أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يعتبر مالك أستاذ الأئمة أصحاب المذاهب، كما تعتبر مدرسته أم المدارس الفقهية السنية على الإطلاق؛ لأن أرباب هذه المدارس لا يخلوا أمرهم من أن يكونوا تلامذته أو تلاميذ تلاميذه، عنه أخذ الأئمة: الأوزاعي، وأبو حنيفة، وإن كانوا التحقوا قبله بالرفيق الأعلى، وعلى يديه تخرج الإمام الشافعي، وبمذهبه تمذهب في بادئ الأمر، ثم عن هؤلاء أخذ الجم الغفير من العلماء والباحثين علومهم ومعارفهم.. كانت مدرسته رضي الله عنه، تولي للحديث أهمية قصوى، وكان أول من تصدى للتأليف في فقه السنة والجماعة، فخلف لنا كتابه الشهير "الموطأ" الذي اعتبره العلماء أحد الكتب الستة الصحاح في الحديث النبوي، كان يبتعد عن الإكثار من الإفتاء ويقول: "لا أدري فيما لا يعلم". قال خالد بن خداش: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة، فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري وقال للسائل: إذا سئلت لماذا لم يجب مالك عن جميع الأسئلة ؟ فقل: قال مالك: لا أدري..." ومن أقواله: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه، ويقول أيضا: إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط".

انتشر مذهب الإمام مالك في كل من البصرة والحجاز ومصر، وما ولاها من إفريقيا والأندلس وصقلية وبلاد السودان وظهر ببغداد وضعف بها، ثم المغرب الأقصى، ويعتبر المذهب المالكي اليوم من أكثر المذاهب انتشارا في العالم الإسلامي، وداخل أوساط الجاليات الإسلامية في أوروبا، بالإضافة إلى أمريكا الشمالية والجنوبية الذي انتقل إليها عبر "العبيد"، عندما جيء بهم من إفريقيا الشمالية وغربها، وكذلك عندما أتت مجموعة من البحارة المسلمين الأندلسيين مع المستكشفين الأوائل لقارة أمريكا، وهناك وثائق عربية ومخطوطات رسمية في بعض المتاحف بجمهورية البرازيل والمكسيك والشيلي تؤكد هذا، علما أن الجالية المغربية اليوم -وخاصة شيوخها- في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، يكرسون مبادئ هذه المدرسة المالكية في أوساط الجاليات المسلمة المختلفة؛ بحيث هم كسفراء أوفياء لها. والسؤال الذي ينبغي طرحه في هذا المقام هو: لماذا تشبث المغاربة بالمذهب المالكي؟ هذا قد ذكره القاضي عياض في المدارك، وهو ما عرف عن الإمام مالك من التحري والتروي في الرواية وقلة اعتماده على الرأي، وكان المغاربة في صدر الإسلام على مذهب جمهور السلف من الأمة الإسلامية، إلى أن ظهرت فيهم بدعة الخوارج أول المائة الثانية من الهجرة، بثها فيهم خوارج العراق، لقنوهم أن الخلافة لا تشترط فيها القرشية، ولا العربية، وأن كل تقي أحق بها ولو كان عبدا حبشيا عملا بظاهر الحديث، واستمرت فيهم زمنا طويلا، ثم اضمحلت أواخر المائة الثامنة.. وفي أيام الدولة الإدريسية الشريفة انتقل المذهب المالكي من الأندلس إلى المغرب، وكان ظهوره بالأندلس على يد الفقيه زياد بن عبد الرحمان المعروف بشبطون، وقال القري: كان فقيه الأندلس شبطون على مذهب مالك، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس ثم قال: سمع عن مالك "الموطأ" ويعرف سماعه بسماع زياد، ثم قال: روى يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك، ويحيى هذا راوي الموطأ عن مالك، هو يحيى بن يحيى بن كثير الليثي مولاهم، البربري المصمودي من مصمودة طنجة الأندلسي القرطبي رواي الموطأ عن مالك، غير أبواب الاعتكاف شك فيها ورواها عن شبطون، وفي هذا السياق قال ابن عبد البر: وبسببه دخل المذهب المالكي إلى الأندلس زمن بني أمية، كان يحيى مستشارهم في تعيين القضاة، ولا يشير عليهم إلا بمن كان مالكيا، توفي (234هـ/849م).

وقد جاء في مقدمة ابن خلدون: وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا القليل، لما أن رحلتهم كانت في الغالب إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ وحسب تقديري الشخصي أن هناك أسباب كثيرة جعلت الشعب المغربي يتشبث بمدرسة مالك الفقهية ومنها: هو ما يميز مذهبه عن باقي المذاهب الأخرى السنية بعدة مزايا وخصوصا على مستوى أصول الفقه المتمثلة في القرآن والسنة وإجماع الأمة، وعمل أهل المدينة والقياس والاستحسان والاستقراء، بالإضافة إلى قول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف، مع الأخذ بالأحوط ومراعاة الخلاف، ناهيك عن القواعد الفقهية المتفرعة عنها والتي أوصلها بعض فقهاء المالكية رحمهم الله تعالى إلى 1200 قاعدة تشمل جميع أبواب الفقه ومجالاته. فسادتنا المالكية أخذوا بجميع هذه الأصول بينما غيره لم يأخذ إلا ببعضها ورد الباقي؛ الأمر الذي أوصل بعض أصحاب المذاهب الأخرى إلى الباب المسدود في استنباط الأحكام ومسايرة الواقع المعاصر والمتجدد.. وهذا قد أدى إلى التنطع والتشدد والغلو والانكماش على الذات، والنتيجة كما ترون الآن على الساحة الإسلامية اليوم، المسلمون يضربون رقاب بعضهم البعض!!. هذا التنوع في الأصول والمصادر، والمزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر وعدم الجمود على النقل أو الانسياق وراء العقل هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي، وهي سر اعتداله ووسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه، بسبب انفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية والشرائع السماوية السابقة واعترافه بالآخر واستعداده التام للتعايش معه والاستفادة منه بفضل قاعدة "شرع من قبلنا شرع لنا" مالم يرد ناسخ التي اتخذها مالك رحمه الله أصلا من أصوله، وهكذا أخذ المالكية بمشروعية الجعالة والكفالة من شريعة يوسف عليه السلام.

قد انتشر المذهب المالكي على أوسع نطاق في عصر العلويين، حيث دعا السلطان محمد بن عبد الله إلى نبذ المختصرات الفقهية والرجوع إلى الكتاب والسنة وآراء السلف الصالح، ووزع بذلك منشورا على القضاة، ووضع لتوضيح اتجاهه كتاب "الفتوحات" وكانت دعوة السلطان مولاي سليمان لا تختلف عن دعوته، وسار على نهج أسلافه السلطان الحسن الأول حيث أمر بدراسة كتب فروع المذهب المالكي ومن بينها: مختصر الشيخ خليل وهو ابن إسحاق الكردي المصري الشهير بالجندي، ويعد مختصر خليل أكثر المؤلفات الفقهية قبولا، وممن شرحه: التتائي، والحطاب، وعلي الأجهوري، وعبد الباقي الزرقاني، ومحمد الخرشي... وقد جاء في كتاب الدرر الفاخرة للمؤرخ ابن زيدان: أن السلطان الحسن الأول أنشأ قراءة "المختصر الخليلي" بعد صلاة العصر بالقرويين وردا كل يوم بحيث يختم مرة في الشهر، ونظرا لاختصاره وصعوبة فهم بعض مواضعه، أمر السلطان سيدي محمد بن عبد الله بتعويضه في التدريس برسالة ابن أبي زيد القيرواني.

وفي عهد المغفور له الحسن الثاني، أمر بإعادة الاعتبار لدراسة المختصر بالكراسي العلمية التي أمر بإنشائها على الطريقة القديمة، بالإضافة إلى تدريس باقي العلوم الإسلامية الأخرى، كالتوقيت والنحو والبلاغة والفرائض والتجويد، وذلك ببعض المدن الكبرى بالمغرب مثل تطوان بالجامع الكبير، والقرويين بفاس، وكلية ابن يوسف بمراكش... وتبع المغـفور له الحسن الثاني في هذا النهج ابنه البار أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس؛ بحيث قام بإحياء هذه الكراسي العلمية وبثها عبر قناة محمد السادس، واعتمد في ذلك علماء مغاربة أكفاء مشهود لهم بالعلم والمعرفة والاستقامة والوسطية والاعتدال.

وجدير بالذكر، فإن الدولة العلوية الشريفة وعبر تاريخها، ومن خلال حقل إمارة المؤمنين حافظت على وحدة العقيدة والمذهب، وصانت البلاد من الملل والنحل والفتن الدينية في وقت تتلوى فيه تحت ضرباتها عدة بلدان إسلامية وعربية...لكن -مع الأسف الشديد- هناك تغيرات وجماعات وأيديولوجيات بدأت تلوح في الأفق واضحة وهي تنقل شباب المغرب من عقيدتهم المعتدلة القائمة على الوسطية والاعتدال وتقبل الآخر، إلى شيء من التشدد والتنطع والغلو و"الدعشنة".. كما ارتفعت أصوات ومن فوق منابر مساجدنا ومن داخل الحقل الديني الرسمي تطعن في خصوصيات الإسلام المغربي جهارا نهارا محاولة بث بعض أفكارها الخارجية المشرقية والبعيدة كل البعد عن ثقافتنا وخصوصياتنا الدينية المتمثلة في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، وإمارة المؤمنين..

وفي هذا المضمار تحضرني فقرة من خطاب الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى حيث قال: "نريد مغربا في أخلاقه وفي تصرفاته جسدا واحدا موحدا تجمعه اللغة والدين ووحدة المذهب، فديننا القرآن والإسلام ولغتنا لغة الإسلام ومذهبنا الإمام مالك، ولم يقدم أجدادنا رحمة الله عليهم على التشبث بمذهب واحد عبثا أو رغبة في انتحال المذهب المالكي، بل اعتبروا أن وحدة المذهب كذلك من مكونات وحدة الأسرة".