ولأن الفقر كلمة قاسية وثقيلة ومرعبة وباهظة، ما هي تجبرنا على العودة إليها مرغمين في هذه الزاوية بعدما تعرضنا إلى ملامحها في الزاوية السابقة، فهي تسكننا بقوة الواقع، وبقوة السياسات والظرفيات المتعاقبة علينا طوال عهد الاستقلال… فهي أباحت المصدر الأساسي للجوع والبطالة والتخلف والجريمة، والمرجعية الأولى لمهانة والإزدراء والإحباط والخوف، في مجتمعنا الصغير، كما في مجتمعنا الكبير، وهو ما يعني أن “الفقر” أصبح يتحول شيئا فشيئا إلى هوية من الصعب علينا الإنفكاك منها والتخلص من آثارها، لذلك نعود إليها مرغمين.
في الزمن الراهن، دفعنا الفقر للإنخراط في دوامة سوداء، قد نجد لها بداية، ولكن قد لا نجد لها نهاية.
أ- عشرون في المائة من مجموع اليد العاملة تنخرط في البطالة.
ب- أزيد من سبعة ملايين من المغاربة ينخرطون في متاهات الفقر الموحشة.
ج- توزيع الشعب المغربي بين قلة قليلة من الأغنياء وأكثرية مهولة من الفقراء
د- عجز واضح في التعليم والصحة والسكن والتشغيل والأمن والتجهيزات الأساسية والخدمات.
ه – ارتفاع مهول في الجريمة
و- أوضاع أخلاقية متدهورة
ز- أوضاع مالية واقتصادية خطيرة
ل- أوضاع إدارية متردية
وهو ما يعني في نهاية المطاف، وبصيغة موضوعية، أن الظرفية السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية لمغرب اليوم، تجعل ترتيبه بسبب الفقر وتحداياته وتراكماته في مرتبة متدنية في السلم العالمي للتنمية، وتجعل هذه الظرفية المشحونة بالتحديات الكبرى التي تواجه طموح المخططات التنموية والاستثمارية تجعل المغرب أمام غول من التحديات هي أقرب إلى المستحيل منها إلى الممكن.
من الناحية العلمية، وبسبب هذه التحديات، كشفت لنا العمليات الإحصائية التي جرت بالمغرب خلال العقود الماضية، أن ما يقرب من ثمانين في المائة من الأسر المغربية، تعيش فقرها بصمت مؤلم، وهو أمر لم يندهش له أحد من أهل الإحصاء، ذلك لأن الدين قاموا بالعمليات الإحصائية، وقدموا معلوماتها التفصيلية، يعلمون أكثر من غيرهم، أن عوامل الفقر والفساد والتهميش والإقصاء التي تضافرت على مر السنين، لم يكن لها سوى خلق المزيد من الفقر بالنسبة للفئات الواسعة من المواطنين.
وبالنسبة للمحللين الإقتصاديين، وعلماء الإجتماع، أن حالات الفقر التي تفجرت في مجتمعنا خلال هدا الإستقلال، على مراحل، وبإيقاع تباعدي، لم تستند فقط على مؤشرات النمو الديمغرافي غير الخاضعة لأي تخطيط، ولكنها أيضا توجيه الإستثمارات الداخلية والخارجية، إلى القطاعات المنتجة التي تعتمد التوازن والفاعلية، وعلى إشكالية تهرب القطاع الخاص من تحمل مسؤولياته، اضافة إلى الإرتفاع الفاحش للمديونية الخارجية، وارتفاع الفاتورة الطاقوية، وسقوط الأسعار العالمية لكثير من المواد الأولية (منها أسعار الفوسفاط) وارتفاع أسعار الدولار، وأسعار فوائد القروض، وهو ما جعل النتيجة –في نهاية المطاف- ثقيلة ومرعبة.
طبعا من الصعب على المغاربة تصديق هذه الخلاصات فهم أصحاب بلد غني بثرواته البشرية والفلاحية والبحرية والمنجمية… ولكن الفقر استقطبهم في هويته المشؤومة.
أ- المغرب بلد زراعي، تغطي أراضيه الصالحة والقابلة للإصلاح والإستصلاح ملايين الهكتارات من المفترض أن تحقق فلاحته وزارعته الإكتفاء الذاتي في التغذية: حبوب/ زيتيات/ سكريات/ ألبان… وغيرها من المواد التي أجبر الفقر المغرب على استيرادها علانية وبلا رقابة أحيانا.
ب- والمغرب بلد بحري، شواطؤه الطوية والعريضة، والتي تطل على بحرين عظيمين، ثراوته السمكية لا تحصى ولا تعد، تقول الأرقام أن هذه الثروات قادرة على تزويد المغاربة، بمليوني طن من الأسماك سنويا، وعلى تشغيل أزيد من نصف مليون من المغاربة… ولكن ها هو الفقر الذي يجعل البحر، فقد مصيدة لشبابنا الذين يدفعهم الفقر للإنتحار على شواطئه، ويجعل هذه الثروات في يد الذين لا هم لهم سوى تراكم الثروات خارج أي ح بالوطن… أو بالمواطنة.
ج- والمغرب بلد منجمي يملك ستين في المائة من الإحتياطي العالمي من مادة الفوسفاط، ويملك مناجم لأصناف متعددة من الطاقة: الحديد/ النحاس/ الذهب/ الفضة/ الحامش الفوسفوري/ الأورانيوم/ الصخور النفطية/… ولربما النفط ولكن مع ذلك فهو على لائحة الدول الأكثر فقرا في عالم اليوم.
كيف للمواطن المغربي أن يصدق، أن بلده الذي يوجد على هذه الصورة من الثراء، يملك ثروات ما في باطنه، ويملك الإنسان وطموحاته ووطنه مسجل على لائحة البلدان الفقيرة، في مرتبة متدنية من السلم العالمي للتنمية؟ أين تغيب المعادلة، وأين تحضر..؟
طبعا هناك خطابات سياسية متعددة، تواجه “فاعلية” الفقر وتحدياته، الحكومات المتعاقبة تحدثت دائما عن الإصلاحيات التي من شأنها تذويب هذه “الفاعلية”/ فاعلية الفقر، تحدثت عن تأهيل النسيج الإقتصادي، عن تقوية المقاولة المغربية، عن تحديث أنظمة وآليات الإنتاج. عن تفصيل مراكز الإستثمار، عن إخراج مدونة الشغل، عن إصلاح العدل عن تكريس الأخلاق المهنية، عن إصلاح الإدارة وإحداث مناصب الشغل، عن الإعتراف بدور المرأة ومواطنتها الكاملة، عن إدماج التراث الثقافي في الحياة الإقتصادية والإجتماعية، عن إصلاح التعليم، عن ترجيع مبدأ التشارك مع الفاعلين الإقتصاديين والإجتماعيين… وتحدثت عن خلق جو من الثقة والشفافية والموضوعية بين الدول والفاعلين، وعن بلورة إستراتيجية للتنمية في العالم القروي، وعن تطوير فاعلية التكوين المهني، وعن مقاربة كل أشكال الإنحراف واستغلال النفوذ وفساد المال العام… ولكن مع ذلك ظلت مؤشرات الفقر مرتفعة، وظلت الخطابات السياسية للحكومات المتعاقبة حبر على ورق يحس بالغين، لا يعرف أين تغيب المعادلة ولا أين تحضر.
خارج هذه الحقيقة، تبرز في مغرب اليوم، حيث يتبنى جلالة الملك الشاب الأوراش الإصلاحية، تبرز أسئلة ملحة وعلى قدر كبير من الأهمية: ماهية الإجراءات التي سيواجه بها جلالة الملك، الفساد المالي/ الفساد الإداري/ الفساد السياسي، الذي اتخذ شكل الظاهرة المخيفة التي هددت ومازالت تهدد كل خطط التنمية والإنقاذ في عهد المغرب الجديد..؟
كيف ستواجه الإجراءات الحكومية المسؤولة ظواهر أطفال الفقر والتسول والعهارة والجريمة والعنف القسري وكل مظاهر الإحباط الإجتماعي والإقتصادي وغير ها من ظواهر السلبية الناتجة عن ظاهرة الفقر، والمتناقضة مع أهداف ومبادئ حقوق الإنسان التي يلح عليها الخطاب الملكي منذ اعتلاء عرش أسلافه المنعمين.
طبعا لا أحد يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة… ولكن حالة الفقر التي تطبعنا وتخيف أجيالنا الصاعدة، تجعلنا على ثقة أن الجواب عنها سيأتي من السدة العالمية.