تزداد تفاعلات قضية الصحراء المغربية سخونة على أكثر من صعيد. صحيح أنها قد هدأت قليلا على جبهة الاتحاد الأوروبي، ولكنه مجرد هدوء مؤقت في انتظار صدور قرار المحكمة الأوروبية في الاستئناف المقدم ضد قرارها الابتدائي بشأن استثناء منتجات أقاليمنا الجنوبية من المنتجات المغربية المشمولة بمقتضيات اتفاقية التبادل الحر المبرمة بين الطرفين.
وحسب عدد من التحليلات، فإن جبهة العلاقات المغربية مع الاتحاد الأوروبي مرشحة لتشهد توترات أكبر في المستقبل، إذ لا يستبعد بعض المراقبين أن تؤكد المحكمة الأوروبية في قرارها الاستئنافي نفس مضمون حكمها الابتدائي مستندة في ذلك على :
*الوضع القانوني لأقاليمنا الجنوبية وفق قواعد القانون الدولي لم يتغير، إذ ما تزال تعتبر أراضي متنازع عليها تجري مناقشة مصيرها في إطار مجلس الأمن الدولي، وداخل أروقة اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي هي لجنة تصفية الاستعمار.
*ليس واردا قبول الجانب الأوروبي تعديل اتفاقية التبادل الحر لتضمينها فقرة تشير إلى شمول أحكامها أقاليمنا الجنوبية ولو بصفة مؤقتة انتظارا لحسم وضعها القانوني.
*وجود سابقة عدم إدراج منتجات أقاليمنا الجنوبية في اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية ؛ وهي سابقة قبلها المفاوض المغربي، وتبناها البرلمان بمجلسيه بالمصادقة على الاتفاقية.
مقابل هذا الهدوء المؤقت ترتفع حدة التوتر بين المغرب والأمين العام للأمم المتحدة عشية بدء الاستعدادات لاجتماع مجلس الأمن الدولي نهاية أبريل المقبل. وبحسب المستجدات والمعطيات الراهنة لحد الساعة، فإن الاتصالات الدبلوماسية المبذولة من طرف عدد من الجهات لم تلطف كثيرا الأجواء بين الطرفين، إذ يبدو السيد با كي مون أكثر تصميما من ذي قبل على مواقفه السابقة. هذا ما يمكن أن يستشف مما يلي :
*المذكرة الشفوية التي بعثتها الأمانة العامة للأم المتحدة إلى البعثة الدائمة للمملكة المغربية بنيويورك، متضمنة ما أسمته قلق الأمين العام العميق إزاء الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المغربية بطلب تقليص أفراد الوحدة المدنية للمينورسو، وطلب إغلاق مكتب الارتباط العسكري بمدينة الداخلة، واعتبار تلك الإجراءات انتهاكا من المغرب لالتزاماته الدولية.
*الاتصالات الحثيثة للأمين العام وبعض مساعديه مع مندوبي الدول أعضاء مجلس الأمن لدفعهم نحو اتخاذ موقف قوي ضد المغرب، والتحذير من أن التساهل مع السلوك المغربي قد يشكل سابقة تنتقل عدواها إلى أماكن اخرى في العالم بها قوات حفظ سلام أممية.
*الدعوة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي يوم الخميس 24 مارس 2016 في أول رد له على الخلاف بين المغرب والأمين العام للأمم المتحدة، لحل النزاع بأسلوب بناء كي تتمكن بعثة حفظ السلام من استئناف كامل عملياتها في المنطقة المتنازع عليها.
إن هذه المعطيات تسمح بالاستنتاج أن تقرير الأمين العام الأممي سيحمل المغرب وحده مسؤولية خرق مقتضيات قرار مجلس الأمن رقم 690 الصادر في 29/4/1991، والقرارات التي توالت في هذا الصدد بعد ذلك، متغاضيا عن حقيقة أن الوحدة المدنية في المينورسو كان ينبغي أن تشهد تقلصا كبيرا في عدد أفرادها منذ أن استخلصت الأمم المتحدة نفسها استحالة تنظيم الاستفتاء بعد جهود تواصلت على مدى 15 سنة وفشلت في تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء، وفي معالجة الطعون التي تقدم بها من استبعدوا من لوائح المصوتين.
والمفروض أنه كان على المغرب أن يبادر حينها إلى طلب تقليص الوحدة المدنية التي انحسر دورها في تأمين الإجراءات اللوجيستية لعملية تبادل الزيارات بين العائلات. وكان عليه أن يستدرك عدم المبادرة آنذاك، ويطالب بالتقليص غداة إعلان السيد بيتر فان فالسوم المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة أن خيار استقلال الإقليم خيار غير واقعي ؛ الأمر الذي كان يعني بوضوح استحالة العودة إلى مسطرة الاستفتاء في حسم الصراع، علما أن الوحدة المدنية كان دورها الرئيسي هو تأمين الاستفتاء.
ومع ذلك من المحتمل جدا أن يحاول السيد الأمين العام تغطية نواياه المبيتة ضد المغرب بأن يبدو متوازنا في مقاربته لتطورات القضية، وذلك عن طريق تجميل تقريره المرتقب بإشارات إلى ضرورة إحصاء المحتجزين في مخيمات العار بتندوف، وبالمطالبة بتوزيع شفاف للمساعدات الممنوحة لهم تجاوبا منه مع إدانات أوروبية متصاعدة ضد قيادة البوليزاريو، وطريقتها غير الشفافة وغير العادلة في توزيع تلك المساعدات، واستغلالها لأغراض سياسية شخصية .
إن هذا الاحتمال لا ينبغي أن يثني المغرب عن قراراته الصارمة إزاء ضرورة تقليص أفراد الوحدة المدنية لبعثة المينورسو. فالآن وقد تم التحرك بقوة في هذا المعطى، واستنادا على قاعدةmieux vaut tard que jamais فالمطلوب المواصلة، ولكن دون التعاطي مع المستجدات بانفعالات زائدة أو خطوات غير مدروسة من قبيل التلويح باتخاذ إجراءات في الصباح وسحبها في المساء.
أكثر من ذلك، فإن موقف تقليص عدد موظفي الوحدة المدنية يتطلب مواكبته بحملة دبلوماسية تروم تغيير مهام العناصر التي ستبقى بما يتناسب مع الدور الأساسي للمينورسو كمشرفة ومراقبة لاحترام قواعد وقف إطلاق النار، ودورها الاجتماعي في بناء جسور الثقة من خلال تبادل الزيارات بين ساكنة الأقاليم الجنوبية وأقربائهم المحتجزين بتندوف.
يظهر من التطورات المتسارعة في قضيتنا الوطنية أن هوامش المناورة بشأنها قد تآكلت كثيرا إن لم تكن قد انعدمت نهائيا، وستبدأ العديد من المواقف الإقليمية والدولية تبرز على حقيقتها في هذا النزاع المفتعل الذي بات للقوى الدولية يد طولى فيه نظرا لتعود اطرافه المباشرة وغير المباشرة على اللجوء إليها طلبا للدعم عند الحاجة.
ولذلك، فإن المغرب مطالب بالاستعداد لأسوإ الاحتمالات من كافة الجوانب، سيما وأنه بعد أن تم استنفاذ كافة السبل للوصول إلى الحل المتفق عليه دون تحقيق ذلك ستتوالى الضغوط ومن مصادر شتى وأحيانا غير منتظرة كما حصل مع لجنة حقوق الإنسان "طوم لانتوس" في مجلس النواب الأمريكي التي لم تتورع في اجتماعها الأخير يوم 23 مارس الجاري عن مطالبة الإدارة الأمريكية بضرورة أن تكون واضحة في عدم اعترافها بسيادة أي دولة على أراضي الصحراء، غافلة أن إدارة الرئيس أوباما لم تؤكد سوى على استمرار الحوار مع المغرب إلى أن يتم التوصل على هذا الأساس إلى تسوية نهائية لهذا النزاع الإقليمي.
فإذا كان الاستعداد بالقوة العسكرية حتميا وتقوم به القوات المسلحة الملكية على أحسن ما يرام غير تاركة أي شيء للصدفة، وهو استعداد محمود يتطلب السرية القصوى وعدم نشر أي معلومات عنه إلا بإذن الجهة المختصة عكس ما يحصل الآن، فإن من الضروري استمرار التعبئة الشعبية بطرق ذكية ومبتكرة بعيدا عن المزايدات الانتخابية، ومن الواجب مواكبة كل ذلك بتحركات دبلوماسية تروم تحقيق ما يلي :
*محاولة نقل الترحيب الدولي بفكرة الحكم الذاتي من مرحلة الفكرة الجدية وذات المصداقية، التي تعودنا سماعها على مدى تسع سنوات، إلى مرحلة أكثر تقدما وأكثر فاعلية كأن تكون الصيغة "الحكم الذاتي هو الحل الأكثر واقعية وقابلية للتنفيذ".
*السعي إلى وقف مناقشة الموضوع داخل إطار لجنة تصفية الاستعمار، على اعتبار أن الاستعمار قد أجلي من المنطقة منذ سنة 1975، وأن المغرب استرجع أراضيه ليس عنوة ، وإنما مسلحا برأي قانوني استشاري من محكمة العدل الدولية، وباتفاقية دولية أبرمت مع إسبانيا وموريتانيا وتم قبول إيداعها لدى الأمم المتحدة، وبترحيب وتجديد البيعة للملك من طرف أكبر هيئة تمثيلية للسكان آنذاك، وهي الجماعة التي كان يترأسها المرحوم خطري ولد سعيد الجماني.
لا شك أن خطوة جريئة كهذه ستضع جميع فعاليات المجتمع الدولي أمام مسؤولياتها، وستكشف للمغرب حقيقة مواقف الأصدقاء الذين يدعون مساندة مقترحه، وليس فقط المدافعين عن عدم إحراجه وتأبيد الوضع الراهن المتوتر. وهذه الخطوة ليست سهلة على الإطلاق، ولكن تحقيقها ليس مستحيلا البتة.
إن مؤسسات الأمم المتحدة وهيئاتها، وكذا القوى الكبرى في المجتمع الدولي تأخذ بعين الاعتبار دائما الحقائق على الأرض وموازين القوى، وتميل في أغلب الأوقات إلى حيث تميل هذه الموازين. ألم تتراجع الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قرارها اعتبار الصهيونية حركة عنصرية ؟ ألم يتكيف المجتمع الدولي مع حقائق الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة فبدأ يستخدم في حديثه عن الحق الفلسطيني مصطلح "دولة قابلة للحياة" بدلا من دولة على أراضي ما قبل عدوان يونيو 1967 ؟
قضية الوحدة الترابية قضية عادلة بمنطق التاريخ والقانون ورغبة الأغلبية الساحقة للسكان، ولكن كسبها وطي ملفها يتطلب الحكمة والهدوء لا سرعة الانفعال، ويفرض التحرك بخطوات محسوبة وموزونة بلا تهور ولا ارتجال.