السبت 18 مايو 2024
فن وثقافة

عبد الإله الجوهري: تحت غطاء السينما.. أفلام مغربية مدعومة من "المال العام" لكنها غير موجودة

 
 
عبد الإله الجوهري: تحت غطاء السينما.. أفلام مغربية مدعومة من "المال العام" لكنها غير موجودة

سياسة نظام الدعم، أو ما يسمى بالتسبيق على المداخيل، آلية ناجعة لدعمومؤازرة سينمانا المغربية والدفع بتجاربها الفنية نحو تحقيق انجازات إبداعية مختلفة وتشجيع الطاقات الشابة على تجاوز معيقات الإنتاج القاهرةوالخروج من دوامات البحث عن التمويل الذي يأتي ولا يأتيمع المنتجين الخواص أو من الصناديق الغربية الملغومة الظالمة.

سياسة أثبتت نجاعتها في إغناء الفيلموغرافية المغربية كما وكيفا، حيث أصبح المغرب، منذ أعوام قليلة،ينتج أكثر من عشرين فيلم روائي طويل في السنة،إلى جانب العشرات من الأفلام الروائية القصيرة والأفلام الوثائقية، الشيء الذي جعل المغرب يحتل مكانة معتبرة في الخريطة السينمائية الإفريقية والعربية، بل ويصبح معادلة صعبة في المهرجانات الدولية، بحضوره وفوزه بالعديد من الجوائز الرفيعة.

لكن هذه السياسة (سياسة الدعم) تعتورها بعض الهنات والثغرات القانونية، أو لنقلبوضوح،ينقصها التطبيق السليم للقانون من الجهات المسؤولة، تطبيق يسيجها ويحميها من لصوص المال العام، ما دامت لا تتوفر على آليات واضحة لحمايتها من الاختراقوالنهب والسلب الذي تتعرض له في بعض الحالات على أيدي منتجين وصيادي المنح المستهترين بمصالح الوطن والفن. منتجون يؤسسون شركات تشتغل لوقت محدد قبل الاختفاءوالهروب بالأموال الممنوحة للمشاريع، مشاريع لا تتحقق أو تتحقق بنسب متفاوتة،حسب سعة صدر كل واحد منهم أو شراهته في التهام الكعكة التي تمنح له دون التمعن جيدا في أصله وفصله وإنجازاته ونواياه الطيبة أو السيئة.

حالات عدة عرفتها الساحة السينمائية المغربية، حالات اختفاء المنتج، وفي بعض الأحيان معيةالمخرج،ومعه الأموالالمنهوبة،دون أن ينجزالمشروع المسنود له ودون أن يتعرض للمساءلة القانونية أو على الأقل، الضغط لإرجاع ما تم السطو عليه من أموال عمومية.

سأحاول في هذا المقام ، التعرض لبعض حالات وضع اليد على الأموال العمومية المغربية بإسم خدمة السينما وتطويرها ، حالات واضحة لمشاريع اختفت، أو تجمدت في نصف طريق انجازها، حالات واضحة وضوح الشمس (لن نتعرض لكثير من حالات عدم إتمام الملفات و أداء الأجور وبراءة الذمة مع الجهات المسؤولة مائة بالمائة، بل لن نتعرض لعشرات الأفلام التي أنجزت فعلا، لكن لم تخرج للوجود الفعلي المتمثل في القاعات السينمائية التجارية، أفلام قدمت للجهات المختصة كإجراء روتيني قانوني، ثم طواها النسيان بعد عرض أو عرضين خاصين، و لتوضع على الرفوف ويعلوها الغبار)،سنتعرض لها بتسلسل زمني مضبوط  (جلها تعود للعشر سنوات الأخيرة)، هذا دون نسيان الإشارة لمشاريع قديمة سابقة لم يتطرق لها أحد رغم قدمها وأهميتها، مشاريع لم تكتمل بسبب موت أصحابها أو هروبهم خارج الوطن والعيش بعيدا عن الأضواء، أذكر هنا حالة مشروعين هامين، الأول بعنوان "خياط الشرف" لإدريس الكتاني الذي مات صاحبه هما و كمدا ، نتيجة تراكم المشاكل التقنية و المالية وفخاخ الأصدقاء والخلان و هجومات الأعداء والتعرض للضرب من تحت الحزام.

و الثاني بعنوان "خيط أبيض خيط أسود" لبوغالب البوريكي الذي صور جزء كبير من فيلمه على أرض الوطن قبل الهروب باتجاه ايطاليا مختفيا رفقة ما أنجزه، دون أن نعرف أسباب الهروب أو الاختفاء، بل إن هذا المنتج / المخرج (الذين كانت له صولات وثائقية في جمهوريات الثورة و التقدمية لكل من عراق صدام حسين و ليبيا القذافي وممالك الملح لدول الخليج)، تناساه الكل و لم يعد يذكره أحد،لاسينمائيا و لا صحفيا ولا نقدياولا قانونيا.

 أما مشاريع المنتج والمخرج عبد الله المصباحي فعديدة تلك التي توقفت في نصف الطريق كنتيجة لإشكاليات عديدة، أذكر هنا مشروعه الضخم "أفغانستان لماذا" الذي لم يكتب له التحقق رغم النوايا التي أبداها في ضرورة تقديم الفيلم للجمهور واستماتته في إيجاد تمويلات إضافية تساعده في إتمام عمليات التصوير، ليظل هذا المشروع مجرد صور مشتتة ونوايا طيبة غير واضحة، واتهامات لهذا الطرف أو ذاك في إجهاض عملية الانتهاء من التصوير والتوضيب..

إلى جانب المشاريع المذكورة أعلاه، و التي تحيط بها (كما ذكرنا) الأسئلة  القانونية و الفنية المشروعة، يظل مشروع فيلم "حميدة الجايح" للمخرج، المتمكن من أدواته السينمائية، مصطفى الدرقاوي، خارج دائرة الشك في النوايا، لكون المخرج أصيب بوعكة صحية طارئة، وعكة ألزمته الفراش وحالت بينه وبين إكمال المشروع على الرغم من كونه كان جد متحمس بعد توصله بالدفعة الأولى من أموال الدعم ومحاولاته تجاوز العجز، لكن الأطباء والأصدقاء نصحوه بالتريث والانتظار لحين الخروج من دائرة الخطر، خروج نتمناه لهذا المبدع السينمائي الحق.

المشاريع المذكورة أعلاه شيء والمشاريع التي سنتطرق لها أدنا شيء آخر، وجه الفرق يعود لكون هذه المشاريع قريبة من زمننا الحالي، أو ما يسمى بعهد "الشفافية"، مع حلول الألفية الجديدة، وتولي ملك شاب مقاليد الحكم، ملك عاشق ومتحمس لكل ما هو فني أو سينمائي، ومساهماته اللامحدودة في تكريس سياسة إبداعية حقيقية لبلدنا، بدءا من خلق مهرجان مراكش السينمائي الدولي، مرورا بتشجيع الإنتاجات السينمائية المصورة على أرض المملكة وصولا لدعم الفنانين المغاربة بشكل لا محدود معنويا،الشيء الذي جعل الكل يؤمن أن آليات مراقبة المال العام السينمائي ستكون أكثر شفافية في ضبط أوجه صرف المال العام، عكس المراحل السابقة، لكن رياح السينما بالمغرب هبت بما لا تشتهيه سفن عشاق الحق والغيرة والمسؤولية، مع مجيء (من حيث لم نكن نعتقد)، سيادة البيروقراطية القاتلة وهيمنة منطق الرأي الواحد الأوحد في تسيير شؤون السينما بالبلد، حيث غابت دور الغرف المهنية وسادت عمليات محاربة المتمرد منها وتشتيتها، إلى جانب تقزيم دور الإطارات الثقافية (الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب و الجمعية المغربية لنقاد السينما)، مع تكريس ثقافة بيع الأوهام والأحلام الخادعة، ثقافة خادعة،تغنى بألوانها الباهتة،عشرات المطبلين والمهللين من سماسرة الأسواق الفنية، الباحثين عن فوائد مباشرة (أو غير مباشرة)من الإنتاجات والمشاريع الفيلمية المتحكم في رقاب أصحابها، الخانعين للتعاليم الفوقية، مادامت تمنح للكثير منهم بطرق إدارية وزبونية جد ملتوية بعيدة عن روح الخلق والشفافية..

أبدأ هنا بمشروع فيلم "رجال من طين"(عنوانه الأصلي: "دموع من فضة") للمخرجمراد بوسيف. مشروع منح لشاب مغربي مهاجر، جاء سنة 2004 من بلجيكا متأبطا شريطا روائيا طويلابعنوان "ما بعد جبل طارق"، حاملا معه علامات النباهة والذكاء والتواضع الفني الملغوم،ذكاء ونباهة وتواضع انزاحواعن الخط المستقيم مع بداية عمليات التصوير، حيث اختلط عليه الحابل بالنابل وما عاد يعرف كيف تصرف أموال الشطر الأول والشطر الثاني التي منحت له، فضاعت الأموال وتوقفت الكاميرا عن الدوران واختفى من يومها عن ساحتنا السينمائية، اختفاء حاول من خلاله التملص من المسؤوليات وتحميل الآخرين التداعيات، لينتهي الجزء الأول من الرحلة السينمائية لهذا المشروع ببيع أسهمه في الشركة المنتجة للشريط (ماتيور فيلم)، بيع جعله يبتعد مؤقتا عن الساحة  المغربية بطريقة ذكية.

ورغم توقف المشروع وحدوث المشاكل العديدة المتعددة، فإن الفيلم منح الشطر الثالث من الدعم، منحتم خارج سياقات المنطق والقانون،بل الأدهى أن هذه الأموال منحت ضدا على القانون للمخرج بدل الشركة المنتجة (كان من المفروض أن تعطى هذه الأموال للشركة المنتجة المسؤولة، وليس للمخرج الذي لم تعد له علاقة بها). بعد عشر سنوات من الغياب و"الهروب"، خرج الشريط للوجود،وبدأت دور العرض البلجيكية في عرضه قبل القاعات المغربية.

 الحالة الثانية التي لا تقل غرابة عن الحالة السابقة، هي حالة فيلم "الطفل الشيخ" للمخرج حميد بناني الذي منح ميزانية ضخمة مقارنة مع ما يمنح للمشاريع الفيلمية المغربية، ميزانية كانت كافية لإتمام الفيلم وخروجه في حلة فنية جيدة، لكن الرياح هبت بما تشتهيه فضاءات التخبط وعدم وضع مصلحة الفن والسينما قبل المصالح الشخصية الآنية. لقد غرق المشروع ومعه حميد بناني في متاهات التصرف البعيد عن الشفافية ودخول المشاكل العائلية على الخط، مشاكل أجهزت على جزء كبير من الميزانية، إضافة لتصادم المخرج مع مدير إنتاجه (المرحوم محمد لطفي)، ليغرق المشروع في مستنقع الفشل ويتوقف قبل إتمامه، توقف دام لمدة طويلة فرضت على صاحبه ضرورة إيجاد حل (حتى يتسنى له تقديم مشروع جديد للجنة التسبيق على المداخيل)، حل وجده بتوضيب المشاهدالمصورة وعجنها بمشاهد منتقاة من الأرشيف السينمائي المغربي، وتقديمها في عمل جاء قاصرا فنيا و تقنيا، فيلم شاهدناه ذات مهرجان وطني بطنجة ولم يصفق له أحد،لأنه جاء بدون طعم ولا رائحة. ومنذ ذلك الحينونحن نبحث عن نسخة لمعاودة مشاهدتها لكن دون جدوى، لأنه لم يوزع بالقاعات ولم يعرض في المهرجانات.

الحالة الثالثة تتعلق بفيلم "قاع البئر" للمخرج محمد منخار،مشروع سينمائي روائي طويل منح لشركة سينمائية مطبوخة حملت اسم "تيزلكاوول بابليشين سيرفيس"، شركة متخصصة في نشر وطباعة الكتب، لكن صاحبها (لعشرته الإخوانية لأهل السينما واقترابه من مركز القرار السينمائي ونصيحتهم إياه بضرورة الفوز بجزء من الكعكة السينمائية المغربية)، عدل من قوانينها لتصبح شركة منتجة للأفلام. ثلاثة أشهر بعد التعديل، حصلت على حصة ثلاثة ملايين ومائة وخمسين ألف درهم لمشروع لم ير النور لحد الساعة بعد مرور أكثر من ست سنوات (ولهفها للأشطر الثلاث من الدعم)، وذلك لأسباب تقنية مادية مرتبطة بسوء نية مبيتة من جهات عدة أساسا الجهة المنتجة، الشيء الذي جعل المشروع ينتقل من يد ليد ويراوح مكانه، ليظل فيلما معلقا وأموال الدعم والبلد والشعب "منهوبة"..

استنزاف المال العام بحجة صنع أفلام، ظلت مسترسلة، رغم الحالات المعروفة والمذكورة أعلاه، حيث انضافت تجربة سينمائية أخرى لقائمة المشاريع المجمدة "المسلوبة" أموالها، المشروع حمل عنوان "إرهاب" للمخرج هشام عين الحياة، حيث منح لمنتج معروف اسمه محمد النوري، وشركته السينمائية"فالورست"، لكن التخبط في التخطيط الإنتاجي (حسب المخرج) والتهاون الإخراجي (حسب المنتج)، جعلا الأحلام تتحول إلى كوابيس والمحبة إلى عداوة والوئام والتناغم إلى جفاء كالح، حيث أصبح التراشق بالتهم والتنابز بالألقاب والكلام الفارغ البعيد عن تحمل المسؤوليات، سيد العناوين في الصحف  والمجلات والمواقع والحانات الضيقة الضاغطة، لتضيع "الحقيقة" وتضيع معها (لغاية كتابة هذه السطور) أموال طائلة (أربعة ملايين درهم)، ولتظل الإدارة الوصية صامتة (على غرار المشاريع السابقة) رغم مرور أكثر من أربع سنوات عن توقف التصوير وتبخر الآمال والأموال..

حالات ليست معزولة ولا وحيدة، لأن هناك حالات أخرى كثيرة (خاصة فيما يتعلق بالأفلام الروائية القصيرة أو أفلام روائية طويلة لم تعرض إلا في عروض جد محدودة، عرض أو عرضين، لأنها جاءت مخيبة للآمال الفنية وغير عاكسة لما منح لها من أموال، فتم التستر عليها بطرق ملتوية مشبوهة) لم تصل شظاياها المتطايرة للشارع العام السينمائي، و لتواطؤ غير مفهوم من جهات وشخصيات"مسؤولة"، عملت لسنوات على تغييب الحقائق والتغطية على الفساد بحجج واهية، حجج لن تصمد طويلا أمام المتغيرات الحاصلة والضغط السينمائي والإداري المستجد، (بعد رفع سياسة تكميم الأفواه) الذي دفع المدير الجديد للمركز السينمائي محمد صارم الحق الفاسي، يصرح  في برنامج "فاص أ بلال مرميد" (بإذاعة ميدي 1) بأن هناك ما يقارب 50 حالة من السطو على المال العام (ورثها عن المراحل السابقة)، سطو تم بنسب متفاوتة وحالات متباينة، بل والبدء في تطبيق المساطر القانونية التي كانت مجمدة لسنوات عديدة، سنوات الشعارات السينمائية الفارغة وبيع الأوهام الكاذبة والشللية المستفيدة من الأوضاع الزاكمة للأنوف المالئة للجيوب بدون وجه حق.

بعد هذا العرض العام لحالات السطو على المال العام باسم السينما، ننتظر النتائج والمواقف، من المؤسسة الوصية (المركز السينمائي المغربي) ومن الرأي العام السينمائي الحي، بغرفهالمهنية ونقاباته السينمائية وجمعياته النقدية وفدرالية المهرجانات وكل من له علاقة بالوطن والسينما..

ملاحظة لها علاقة بما سبق:

أعرف أن القصف سيبدأ وهجومات الطابور الخامس ستشتعل، ومنطق التخوين والتهويل ستتوالى.. لكننا مستعدون لمواجهة كل الحالات بصدر رحب، سلاحنا الوحيد الأوحد،الصدق في القول والفعل وتعاطف الرأي العام السينمائي المغربي النظيف..