الثالث عشر من نوفمبر الباريسي، أي الحادي عشر من سبتمبر الفرنسي، غيّر وجه باريس، أدخل البلاد حالة الطوارئ وأوجب إعادة النظر في سياساتها الداخلية والأوروبية والخارجية.
إنها ليست المرة الأولى التي يضرب فيها الإرهاب باريس التي تبدو كالحلقة الأضعف غربيا، أو الأكثر تعرضا لتداعيات ما يحصل على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. إبان الصراع العربي – الإسرائيلي كما خلال حرب العراق وإيران أو أثناء العقد الدموي في الجزائر كانت الارتدادات تطال فرنسا والإرهاب يضربها، وهذه المرة تصلها إحدى حمم بركان الشرق الأوسط وخصوصا من فوهته السورية المتفجّرة، وكان من الملفت للنظر أنه وسط مجزرة صالة باتكلان وبين رشقات الكلاشينكوف، ردد الناجون ما سمعوه من أحد الإرهابيين “هذا بسبب ما فعله رئيسكم في سوريا”.
فرنسا مستهدفة كبلد يرمز إلى منظومة قيم وانفتاح، إنه البلد العلماني الذي يتواجد فيه أكبر حضور للمسلمين في أوروبا. لكن سياسة فرنسا إزاء الملف السوري والحرب ضد الإرهاب هي المستهدفة، وكأن هناك من يريد ليَّ ذراعها ويلزمها بتغيير خياراتها.
من يراقب مشاهد الحرب في شوارع باريس وسان دوني، يستنتج أن تحضيرات ما أسمته “داعش” في بيان تبنيها “غزوة باريس”، جرى التحضير له منذ عدة أشهر وأنه لا يشكل الجواب على بدء الغارات الفرنسية ضد هذا التنظيم منذ أوائل هذا الخريف. ومهما كان التقييم العملاني للخلفيات والمحركين، أصبح داعش العدو الأول بامتياز، واعتبرت فرنسا نفسها في مواجهة جيش إرهابي وأنها في حالة حرب مفتوحة.
سرعان ما بدأت المراجعات وأعلن الرئيس فرانسوا هولاند عن توجه فرنسا نحو روسيا من أجل تكوين “ائتلاف كبير” جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وضعت باريس جانبا تحفظاتها على التدخل الروسي في سوريا، وتلقفت موسكو الطرح الفرنسي وأصدر فلاديمير بوتين أوامره بالتنسيق مع القوات الفرنسية البحرية والجوية، وكأنه غَدَا سيد شرق البحر الأبيض المتوسط.
جمعت مصيبة داعش الفرنسيين والروس، خاصة بعد إعلان موسكو عن تحطّم الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء بعمل إرهابي في 31 أكتوبر الماضي، وتتالت الغارات الروسية والفرنسية على الرقة تحت غطاء الدفاع عن النفس. فرضت الواقعية السياسية نفسها في ترتيب سريع بين باريس وموسكو، بالرغم من عدم التوافق على كل حيثيات الملف السوري. لكن السؤال الأهم يتصل بقبول واشنطن فكرة الائتلاف الدولي الموحد وطي صفحة التوتر مع القيصر الروسي. والتجاذب لا يصطدم بعقبة الخلاف حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد فحسب، بل يطال رؤى استراتيجية حول النفوذ في الإقليم والممارسة الروسية في أكثر من مكان.
وجد الرئيس الفرنسي نفسه في وضع صعب، وكان عرضة لضغط من زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، ومن الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، كي يغير سياساته باتجاه المزيد من التشدد الأمني داخليا والتوجه نحو موسكو خارجيا بهدف شن حرب فعالة ضد العدو المشترك. بالطبع يهلل الفرنسيون المعجبون بالرئيس الروسي لهذه الاستدارة الفرنسية نحو روسيا، وهذا الفريق كان يأخذ على هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس تمسّكهما برحيل الرئيس السوري، وأتت الآن الفرصة كي يصل الأمر ليطالب هذا الفريق بإعادة التواصل الرسمي الأمني والعسكري مع نظام الأسد.
ولكن باريس التي تسجل الآن تراجعا تكتيكيا مع التركيز على أولوية الحرب ضد داعش، ليس بوارد خلع ثيابها والاستسلام الذي يعنيه التسليم بالأسد للأبد كما يتوهّم البعض. وللعلم فإن باريس لاحظت تغييرا في الأداء الروسي وتريد البناء عليه، إذ قبل ضرب الإرهاب لفرنسا، وقبل تسليم موسكو بالعمل الإرهابي ضد طيرانها المدني، كان ما لا يقل عن ثمانين بالمئة من الغارات الروسية تستهدف القوى المعارضة للرئيس السوري، ومنذ الأسبوع الماضي كثفت موسكو من ضرباتها لداعش لأن الانخراط الفرنسي سلط الأنظار على الميدان مع تزامن ذلك مع طرد داعش من سنجار، وتحضير واشنطن لعملية برية ضد داعش داخل سوريا معتمدة على قوى متعاونة معها وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية التي تشمل قوات الحماية الكردية وجيش سوريا الجديد. بالإضافة إلى هذه التطورات لم تنجح الحملة الجوية الروسية في تعديل ميزان القوى لصالح نظام الأسد، ومن هنا أتت العمليات الإرهابية والاستدارة الفرنسية لتساعد موسكو بشكل غير مباشر حتى لا يبدأ انزلاقها في المستنقع السوري.
وفي حين يتعدى التنسيق العملياتي الفرنسي – الروسي (الذي لا يمكن أن يذهب بعيدا مع احتمال العمليات البرية، خاصة أن باريس تعتمد كثيرا على معايير ومعطيات الناتو)، لا يبدو أن موسكو ستغير أولوياتها فعلا، إذ أنها تدخلت عسكريا في سوريا بهدف التعبير عن دعم الأسد. وهي تقول إن تنحّيه يعني انهيار الدولة السورية لصالح المتطرفين الإسلاميين، بينما لا تزال باريس تعتبر أنه بالإمكان بدء المرحلة الانتقالية مع الأسد، لكن يتوجب استبعاد ترشيحه لانتخابات رئاسية مبكرة وهذا يجعل الحل السياسي ممكنا من الناحية العملية.
يحاول فرانسوا هولاند الخروج من مأزق “لا للأسد ولا لداعش” عبر الائتلاف الكبير مع واشنطن وموسكو، وفي حال تحقق ذلك وسلّمت به الأطراف الإقليمية النشطة، لا بد حينها من حصول مساومة روسية – غربية حول سوريا وأوكرانيا ومسائل أخرى، ولكل طرف في هذا الشأن أولوياته وهواجسه.
بعد السلسلة السوداء من العمليات الإرهابية في الأسابيع الأخيرة، أصبح القضاء على تنظيم داعش الهدف المعلن للكثير من اللاعبين على الساحة السورية، وهذا لا يمنح بالضرورة زخما لمسار فيينا في الفترة القادمة، طالما أن الاتفاق على الأولويات غير واضح، ولأننا لن نكون على الأرجح أمام تحالف دولي كبير بالمعنى التقليدي للكلمة.