يسمح لنا أمر استعادة تفاصيل قصة "المسيرة الخضراء"، بسبب ما تمنحه المسافة الزمنية عن لحظة تحققها (40 سنة)، من إعادة قراءة سوسيو-نفسية لها، كتجربة أبدعتها مجموعة بشرية، صارت بتفاصيلها عنوانا عمن يكونون في نهاية المطاف، اسمهم: "المغاربة".. بل، إنه مهم هنا استعادة توصيف المفكر عبد العروي حولها، الذي اعتبرها "لحظة أسطورية"، ضمن كتابه "المغرب والحسن الثاني". وقد نذهب أبعد، ونجزم أن مفهوم "الشعب المغربي"، بالمعنى السياسي الحديث للمصطلح، قد عبر عن ذاته بقوة في لحظتين كبيرتين خلال القرن 20، هما لحظة امتحان ما قبل وما بعد نفي الملك الوطني محمد الخامس يوم 20 غشت 1953، التي بلورت ما أصبح يعرف في الأدبيات التاريخية والسياسية المغاربية (وليس فقط المغربية) بـ "ثورة الملك والشعب". ثم لحظة "المسيرة الخضراء" يوم 6 نونبر 1975. لأنها معا، قد خلقت معنى للمغربي جديد وغير مسبوق، رؤيويا وسياسيا.
الأمر، أكبر من حصره في مجرد تبلور التعبير شعبيا، عن روح "الوطنية". بل كانت لحظات، لبروز معنى وجود إنساني لجماعة بشرية، في لحظة من الزمن، في سياق امتحان تاريخي، ضمن باقي المجموعات البشرية عبر العالم، متمايزة بخصوصيتها ك "إنسية حضارية". إن السؤال الكبير هنا، هو: ما الذي حرك الفرد المغربي للتظاهر بمواقف مماثلة، من أجل معنى للانتماء ومن أجل استحقاق الوجود فوق أرض، هي معنى "الوطن" عنده؟.. نعم، صحيح، أن هذا أمر لا يختص به الفرد المغربي لوحده، عربيا وإسلاميا وعالميا، دون باقي بني البشر، فلكل قضية أرضه التي يدود عنها. لكن، السؤال، الأكبر هو: هل ما يحرك الفرد المغربي هو مجرد الدود عن عرض الأرض وحق الوجود فوقها بحرية، أم أنه يحركه معنى الدفاع عن الإنتماء لمعنى وجود، لهوية، لها مبناها الرمزي (أي معنى الدولة / الوطن)؟
لأنه جديا، ما الذي حرك فدائيا مثل الشهيد علال بنعبد الله، كي يركب المجهول متمنطقا بمجرد سكين يتيمة صغيرة، كي يغامر بالتوجه صوب "سلطان فرنسا" محمد بن عرفة، ويقرر طعنه، هو المدرك أن الحراسة حوله كبيرة ومنظمة، وأن الموت سيكون نهاية فعله الفدائي؟ أليس الغاية في النهاية هي ترجمان لصوت كامن لـ "الشعب" أننا هنا لا نقبل معنى رمزيا للتدبير العمومي للمغاربة تريده فرضه بالتحدي، فرنسا الاستعمارية. ها هنا يكمن معنى مفهوم "الشعب" كما تبلور تنظيميا من خلال تجربة جيل الأربعينات والخمسينات بالمغرب، الذي علينا الانتباه أنه جيل حرفي فلاحي وعمالي في غالبيته الكبرى. لقد تبلور معنى لـ "المغربي" جديد حينها، ليس مجرد نظرية أو شعارا سياسيا لنخبة مفكرة، بل هو واقعة ميدانية للفرد المغربي، كما مارس الحياة فوق الأرض.
في لحظة "المسيرة الخضراء" تبلور عنوان آخر مماثل لذات الفرد المغربي. لأن قراءة التفاصيل في دقتها، تجعل المدقق في معنى فعل التاريخ، ينتبه أن الذي جعل الناس تجاوبت بقوة وكثافة مع الفكرة، ليس لأن موظفي الإدارة العمومية (في زمن عال فيه التحكم السلطوي والقمع) قد أكرهوهم، على التسجيل وعلى ركوب المجهول في القطارات والحافلات والشاحنات باتجاه الجنوب، بل لأن الفرد تبرعمت فيه ذات الروح لمعنى "الانتماء" التي يهمنا هنا إثارة الانتباه إليها. الانتماء ليس للأرض بالضرورة (فهي في النهاية تجل) بل لمعنى للهوية والجماعة البشرية، أي لإنسية متمايزة. إن الذي استفاق في الفرد المغربي، هو معنى ذلك الانتماء وجوديا لـ "تامغربيت"، وهذه لا تولد بقرار سياسي، مثلما لا تولد في مختبرات "التاكتيك الإيديولوجي"، بل إنها ترجمان لتراكم معنى وجود ممتد في الزمن، نحت ذاته بتعاقب الامتحانات وتجارب الإبداع في معنى ممارسة الحياة. ها هنا يكمن، البروز الدوري دوما، لما يمكن وصفه بمحبة إجرائية "مارد المغربي".
إن أكبر هدية، لا تزال تقدمها إلى المغاربة، تلك الجماعة الموجهة للقرار السياسي في الجزائر الشقيقة (لأنه جديا ثمة مسافة هائلة بين تلك الجماعة السياسية المصالحية وطبيعة المجتمع الجزائري التي هي امتداد وجداني وروحي وثقافي وسلوكي لطبيعة الفرد المغربي)، منذ 1963 وليس منذ 1975، كما يتوهم الكثيرون، هو أنها تضع هذا الفرد المغربي، الذي له تجل واضح لمفهوم "الشعب"، في لحظة امتحان مفتوح من أجل الدفاع عن معنى هويته وانتمائه. إنها بذلك تقدم لنا أجمل هدية من أجل أن نظل دوما متيقظين من أجل الدفاع عن "تامغربيت" كمعنى وجود، ليست الأرض سوى تجل لها. وليس علينا هنا، لا شكرهم، ولا ذمهم على ذلك، لأن حقيقة الوجود المغربي ذاك، أكبر من حساباتهم غير المدركة لعمق ذلك الوجود، وأنها أكثر من ذلك هي في خصومة حتى مع حقيقة مجتمعهم الشقيق لنا فعليا.