الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: المغرب العربي.. آفاق مسدودة وأحلام موؤودة

عبد القادر زاوي: المغرب العربي.. آفاق مسدودة وأحلام موؤودة

يوما بعد يوم تشد الأوضاع في دول المغرب العربي الأنظار إليها بسبب استمرار تأثرها بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة بتداعيات ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، التي كانت تونس واسطة العقد المغاربي مهد انطلاقها في طريق اجتثاث أنظمة كانت ترى نفسها قدرا مؤبدا وقلاعا محصنة ضد أي رياح للتغيير مهما كانت عاتية، وفي اتجاه تبني إصلاحات سياسية جدية يبدو أن ثمارها لم تنضج بعد، ونوايا إصلاح ما تزال أسيرة تجاذبات لا أحد يعرف كيف ستتم تسويتها.

وحسب الوقائع على الأرض على صعيد كل دولة على حدة وفي الإطار الجماعي أيضا، فإن ليبيا، التي كانت متأرجحة في عهد العقيد القذافي بين اللادولة وما يشبه الدولة قليلا، تغرق رويدا رويدا في متاهات حرب أهلية بلا أفق سياسي يزيده قتامة التعنت الذي تبديه قوى سياسية وميليشياوية إزاء اتفاق الصخيرات للمصالحة الوطنية المبلور برعاية أممية، والتمدد السريع للفرع الشمال إفريقي لداعش، الذي لا يكترث كداعش الأم بأي  بحث عن حلول سياسية توافقية، بقدر ما يهمه إخضاع الجميع لسلطاته، وفتاويه وتشريعاته.

وتصارع تونس إرهابا متصاعدا يريدها نواة للخلافة المزعومة في المغرب الإسلامي. وقد تمكن هذا الإرهاب بضربتين قاصمتين في متحف باردو وعلى شواطئ سوسة من شل قدراتها السياحية التي تعول عليها كثيرا لانتشال البلاد من ضائقة اقتصادية تمنعها من مغادرة الحلقة المفرغة لمراحل انتقالية أدمنتها منذ   أزيد من أربع سنوات رغم كل النضج السياسي والحس الوطني الذي أبانت عنه قواها السياسية والنقابية على اختلاف توجهاتها.

وتحت ضغوط أقل حدة تسابق الجزائر الزمن كي لا تتحول العديد من بؤر الفتن المتنقلة فيها إلى ظاهرة عامة، في ضوء جمود مسار إصلاح سياسي موعود منذ مدة، يقابله تراجع واضح في منسوب الحريات السياسية ضاعفت وتيرته الوضعية الصحية المقلقة لرئيس الدولة والاستعدادات الأمنية المتأهبة لأي انتكاسة محتملة في هذه الوضعية. وتعي السلطات هنالك جيدا خطورة بؤر الفتن المتنقلة هذه لكونها متعددة الأوجه، وتتخذ أشكالا مختلفة :

*فهي بنفس طائفي وعرقي في غرداية، حيث يتم تقديم الخلافات تارة كصراع مذهبي بين المالكية والإباضية، وطورا كصراع أمازيغي عربي، وكلاهما مثير للغرائز ومحفوف بالمخاطر.

*وهي في شكل احتقان اجتماعي ونقابي وبيئي بسبب الإصرار على استغلال الزيوت الصخرية في مناطق الجنوب المترامية الأطراف والملاصقة لمنطقة الساحل والصحراء حيث الإرهاب المتأسلم أكثر حضورا.

*وهي ثالثا في شكل عودة الروح إلى التيارات الإسلامية المتشددة التي استقوت واستفادت مما يجري في ليبيا وتونس، وعادت تتحدى الجيش وتصيبه في مقتل كما حدث في عين الدفلى مؤخرا.

وعلى ذات الإيقاع المرتبط بالتذمر الاجتماعي وهواجس التمدد الإرهابي من منطقة الساحل والصحراء تعيش موريتانيا المنكفئة على نفسها أكثر من انفتاحها على أشقائها في الشمال بحثا عن مخارج لأزمتها السياسية التي تدور في حلقة مفرغة من المناورات والمناورات المضادة، ولتفاقم الاضطراربات العرقية بين العرب والزنوج، التي تؤرق السلطات المركزية باعتبارها تهديدا محتملا للوحدة الوطنية.

ورغم أن المغرب هو البلد المغاربي الأكثر استقرارا، فإن سلطاته تحاول على مدار الساعة استباق المحظور على أكثر من صعيد :

*بالتفكيك شبه اليومي لخلايا إرهابية بنكهات قاعدية وداعشية في طول البلاد وعرضها قادرة، حسب التصريحات، لو تمكنت من تعكير صفو الأمان الذي تنعم به البلاد وتعول عليه لتوسيع النشاط السياحي وجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية للحد من تفاقم ظاهرة البطالة، التي تبدو قنبلة موقوتة في ظل عجز حكومي واضح عن التخفيف من حدتها.

*بالسعي الحثيث لحصر ظاهرة تفشي الأعمال الإجرامية الترهيبية المتستر بعضها بالدفاع عن القيم الدينية، والمتنقلة  هي الأخرى عبر مناطق البلاد مع ما تحدثه من ردات فعل اجتماعية غير محسوبة العواقب قد تصبح عامة ومؤرقة إذا ما تم التمادي فيها، خصوصا وأن بعض هذه الجرائم قد أفضى إلى القتل.

وبديهي أن القبضة الأمنية المتشددة إزاء الأعمال الإجرامية المتناسلة تثير تأويلات مختلفة لعل أخطرها تلك التي رأت فيها فرصة لتوجه رسمي للتراجع عن الإصلاحات السياسية والحقوقية المتضمنة في دستور 2011 ، لدرجة أن البعض تحدث عن أن هذا الدستور  اكتفى فقط بتطبيع وضعية التيارات الإسلامية بترؤس أحدها للحكومة (انظر عبد النور بن عنتر : البعد الأمني لاستعادة التكامل في المغرب العربي السياسة الدولية عدد 201 ص 13).

ومما لا شك فيه، فإن قطع الطريق على مثل هذه التأويلات المغرضة والمنشورة على نطاق أكاديمي واسع يتطلب حملة توعية جماهيرية بضرورة تشديد القبضة الأمنية لتثبيت الأمن وتطمين روع المواطنين، وكذا تحصينا قضائيا لأي تحرك في إطارها، كي لا يسقط بعضها في الشطط في استعمال السلطة، والإغراءات كثيرة في هذا الصدد.

يستشف مما سبق أن دول المغرب العربي جميعها أمام تهديدات حقيقية بعضها ذا طابع وجودي للدول نفسها، وبعضها تحديات عالية الحدة ؛ الأمر الذي يتطلب جهدا جماعيا في حده الأدنى للمواجهة، سيما وأن المنطقة ليست منعزلة ومنغلقة على نفسها. فهي شديدة التأثر والتأثير في البيئة الإقليمية المحيطة بها، عربيا من خلال تمدد الجماعات الإرهابية التي وجدت من يبايعها ويؤسس فروعا محلية لها، وإفريقيا عبر التواصل الإجباري مع ما يجري في منطقة الساحل والصحراء، ناهيك عن الضغوطات الأوروبية ومتطلباتها الأمنية المتنوعة بين التعاون الوثيق في محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، والقيام بالحراسة الأمنية ضد الهجرة غير الشرعية.

ولا أحد يشك في أن كل دولة من الدول المغاربية حريصة على التعاطي إيجابيا مع المتطلبات الإقليمية المطلوبة منها. غير أن هذا التعاطي الإيجابي يختفي بسرعة وبشكل مقصود أحيانا عندما يتعلق الأمر بالتعاون فيما بينها بشكل جماعي وفي إطارها المؤسسي اتحاد دول المغرب العربي لدرجة لم يعد مستغربا معها الحديث عن إشكالية مزمنة تعانيها أنظمة المنطقة.

تتمثل هذه الإشكالية في اعتراف الدول المغاربية على أنها غير قادرة منفردة على مواجهة التحديات ناهيك عن تجاوزها، ولكن بعضها مصمم في ذات الوقت على عدم تفعيل اتحاد دول المغرب العربي كمنظمة إقليمية وآلية جماعية يمكن أن تساعدها في حل إشكالياتها وتجاوز صعوباتها، مفضلا الترتيبات والتربيطات الثنائية التي ثبت أنها محدودة، سيما وأنها ليست سياسة مبدئية لدى الدول المعنية بقدر ما هي ضرورة مرحلية وآنية فقط.

ولهذا، لا مفاجأة في ملاحظة أن آليات الاتحاد المغاربي، وميكانزمات العمل داخله تبدو  مشلولة إزاء ما يحدث داخل دوله نفسها أو عبر حدودها المشتركة، وكأن الأمر لا يعنيها البتة، إذ لا تكاد تسمع لهذا الاتحاد صوتا ولو بأضعف الإيمان، ناهيك عن الطمع في مبادرة منه مهما كانت متواضعة، وذلك رغم المؤشرات الإيجابية التي تلت اندلاع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، والتي حملت حينها بصيصا من الأمل في الخروج من حالة الجمود التي رانت على الاتحاد المغاربي، سيما وأن تحديات جديدة وضاغطة على الأنظمة بدأت في التبلور لعل أكثرها مغزى قدرة الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي على تحريك المياه الراكدة.

إن قدرة الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي تلك هي التي دفعت كل دولة نحو الانكفاء على نفسها، سعيا إلى استيعاب ما يجري، وبحثا عن وسائل شتى لتنفيس ما تحمله المستجدات من احتقانات، وخاصة بعد أن تولدت شكوك متبادلة بسوء نية طبعا حول تأثير هذا في شارع ذاك، واستهداف ذاك لنظام هذا ؛ الأمر الذي ضاعف الهواجس أكثر وأجج القناعات المتناقضة والمتضاربة بين العواصم المعنية.

وفي أجواء مسمومة بهذا الشكل ستجد المحاولات الخجولة لإخراج الاتحاد المغاربي من سباته ونفخ روح جديدة فيه نفسها أمام حائط مسدود. ذلك ما استنتجه الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي عندما حاول استغلال الأجواء الإيجابية التي رافقت الثورة التونسية في بداياتها لكسر الجمود المغاربي، وذلك ما توصل إليه وزراء خارجية دول اتحاد المغب العربي بعد اجتماعين لهما في ظرف ستة أشهر سنة 2012 ليتوقف تواصلهم نهائيا بعد ذلك، خاصة حينما أعلنت الجزائر أن شروط عقد قمة مغاربية لم تتوافر بعد، وأنها ترفض أن يسجل البعض "نقاطا سياسية" آنية على حساب قضية جوهرية.

ومما لاشك فيه، فإن تصريحات كهذه لا تقصد في ظل المعطيات المغاربية الراهنة سوى المغرب، الذي تتوهم الجزائر أنه المؤهل أكثر للاستفادة من أي هفوة أو تنازل منها. ولعل هذه النوايا غير الصادقة هي التي حدت ببعض المراقبين إلى تعليق الجمود المغاربي على مشجب "التنافر الجزائري المغربي" لاعتبارات استراتيجية وأمنية على صلة بقضية الصحراء المغربية.

وغير خاف أن ما يضاعف منسوب الشك والريبة في تنافر البلدين هو الحضور الطاغي للتاريخ في العلاقات بينهما، وخاصة لدى الجزائر التي يبدو أنها أسست على نتائج حرب الرمال سنة 1963 عقيدتها العسكرية التي قوامها، رغم كل التطمينات، أن الخطر الجدي يأتي من ناحية الغرب، متناسية أن الاستعمار دخل إلى البلاد من الشمال عبر البحر الأبيض المتوسط، وأن التحديات الأمنية المزمنة تطل عليها من الجنوب والشرق.

إن الشك والريبة المتبادلان ينموان بسرعة في سياق الفوضى السائدة إقليميا مستبيحة العديد من الحدود. تلك الفوضى التي استحال احتواؤها لحد الآن لغياب الآلية الجماعية الناجعة، والدور الدولي المساعد بفعالية. وفي وضع هلامي كهذا غير مستغرب أن تبحث الدول بشكل فردي عن الاكتفاء الذاتي في القوة لردع أي تهديدات محتملة.

وقد فجر هذا البحث المستميت عن أدوات القوة سباق تسلح في المنطقة استنزف كثيرا وما زال قدراتها التنموية التي مهما كبرت فهي محدودة، عاملا على رهن مستقبل الأجيال الصاعدة وخلق مناخ من انعدام الثقة وتبادل الاتهامات، بشكل بدت معه المنطقة خارج سياق التاريخ الراهن غير مبالية بما يجري حولها، أسيرة أكثر للقواعد والقوانين التي تبلورت داخلها نتيجة تداعيات الحرب الباردة عليها منذ أواسط ستينيات القرن الماضي.

إن الواقع الراهن في المنطقة المغاربية ليس قدرا محتوما، ففي العديد من الحالات المشابهة في العالم أثبتت الشعوب قدرتها على تخطي صراعاتها القديمة والمستحدثة بغية الانخراط سوية في رسم مستقبل سلمي ومزدهر. وبقدر ما برهنت تطورات الربيع وتداعياته على القوة والسرعة التي يمكن أن تتغير بها الأحداث، فإن بعض شعوب المنطقة وبعض قادتها برهنوا هم أيضا على صعيد دولهم عن سرعة بديهة في التجاوب مع رياح التغيير ومسايرتها والمساعدة في بلورتها.

والمأمول أن تنتقل سرعة التجاوب الداخلي تلك إلى الإطار الجماعي. وهي في الإطار المغاربي أمانة ملقاة على عاتق الجميع وخاصة المغرب والجزائر باعتبارهما قطبي الرحى في المنطقة، ومكمن ثقلها الاستراتيجي. فخلافهما المفتعل حول مستقبل الصحراء المغربية لا يجب أن يلغي ارتباط مصيرهما وإمكانية التعاون بينهما في مجالات اخرى أكثر أهمية وحيوية تعكس رغبة الشعبين معا في محاربة الإرهاب، وتكثيف التواصل والتطلع المشترك إلى الحرية وفرص العيش الكريم.

صحيح أن في منطقة يثقل التاريخ كاهلها من الصعب نسيان ذلك التاريخ والقفز عليه أوعدم التفكير فيه، ولكن بناء الغد والتحرك نحو المستقبل الذي نبنيه سوية يفرضان التحرر من أغلال هذا الماضي الذي لا يمكن بأي حال تغييره، وإنما فقط اجتراره بالتحسر عليه أو توظيفه لمآرب أخرى. فهل سيرقى الجميع في هذه المنطقة إلى مستوى التحديات الجاثمة على الصدور ؟ الأمل قائم.